مزهر جبر الساعدي - تواصل.. قصة قصيرة

أقود سيارتي على الطريق الممتد أمامي كأفعى، الاستاذة النخلة إلى الجنب مني. لم تفتح فاهها بكلمة. تبز عمقينا أبر تحملها إلينا رياح الصمت الهابة من جوف السيارة، منا على وجه التحديد ألتفت إلى اليمين واليسار الطريق تخفي جانبيه عني ظلمة الأنحاء حولي. حبيبتي أمل، أستاذتي النخلة، تبعدني عنها، رياح الثلج الهابة في عتمة الليل القارس.

أتأكد من أحكام النافذتين إلى الجنب منها ومني، أحاول أن استنهض فيها الرغبة في الحوار، تصدني بسكوتها، وحدي مع إنها فيّ بجميع ما هي فيه. يرن هاتفي:

– نعم

– أنا ضمير

– من أين حصلت على رقم هاتفي، ضمير.

– من ماجد صديقنا المشترك

ذكرني بعد غياب، لم أتصل به عندما عاد. كنت مشغولاً ولا أقوى على الحركة، أتحرك على عكازتين. ذلك قبل الآن، قبل سنين، آنذاك أنزاحت الشظية بجهدي مسافة عقلة أصبع عن الحبل الشوكي. بالإضافة إلى انشغالاتي، هو أيضاً لم يبحث عني.

مددت يدي لأفتح مذياع سيارتي، تراجعت تذكرت حبيبتي أمل. فكرت فيها عندما تعود، تتفاجأ بفراغ البيت مني، حرصت أن اضع الورقة فوق منضدتها، في مكان بارز. (اضطررت للخروج اتصل بي، ضمير الغائب صاحبنا. تتذكرينه أكيد تتذكرينه مع كنيته الغريبة، من أيام الدراسة، لقب به لغيابه المستمر عنا. ننتظرك في مقهى الزيتون، في شارع السعدون في قلب بغداد أعذريني حبيبتي أمل الأستاذة النخلة) لم يمض إلا وقتاً قليلاً، قليلاً جداً حتى أنهم لسرعة حضورها أذهلتهم. عندما عبرت الباب الدوار رأته بينهما.

مع كل خطوة داخل المقهى أحست بوجود أمر مهم. توقفت تحدق فيه وكذلك في المرأة إلى يساره، ذلك عزز الريبة عندها.

– ضمير حاضر الآن ربما لفترة، زمن لم التقيه، لم يعاوني وقت محاولاتي لإستعادة صحتي. إلى الآن يؤلمني جسدي. انقطع عني بعد أن عاودني أثر كارثتي، عندما خرقت جسدي في الليل سهام النار، من كل مكان فيه. في ذلك الوقت كان الناس نيام. فزوا على الصراخ والدوي والنار، والليل. آنذاك رأيته قربي عندما صحوت من غيبوبتي. لم أره بعدها لم أتمكن أن أغالب خلجان روحي نحوه. رغم أني أعلم علم اليقين أن ما قام به دفعته إليه، قسوة ما هو فيه. ابتعاده عني جعل بيني وبينه مسافة ظلت واضحة حتى اللحظة لأنه في أوج حاجتي إليه، تركني أصارع ما يحوطني من مخاطر. لم يجالد سياط الليل عندما انقطع عني، ربيع عام1991، خفت عليه منهم، لم يدر في ذهني أنه رحل عني، كنت على قناعة أنه هنا، عندي.

وأن الغياب وقتي، رغم جبروت ما أنا فيه، أماكن الإخفاء فيَّ كثيرة، بيوتي وما أمتلكه من غابات النخيل وأسباب أنباتها مني، من أرضي بالإضافة إلى أن مضخات الماء مني ذهبت إليه في الليل لأعرف ما هو فيه. كف يدي أشعرتني وهي على خشب الباب بالتوجس. يطوقني الليل بظلامه، أضيع فيه.

أنصت علني أسمع حركة وراء الباب، لم يصلني شيء أنظر في الليل. تنمحي فيه الموجودات من حولي، بسبب العتمة في الزقاق. بين الفينة والأخرى يخرق نباح الكلاب صمت الليل.

أعاود الطرق بقوة، يأتيني عواء الريح في خصائص الباب أمامي.

أدفع الباب بقوة، أدخل..

رأيت أمه رغم العتمة متكورة على نفسها في الغرفة الأخيرة.

تلوح لي كمثابة. أخطو، اقتربت منها سألتها:

– أين ضمير؟

– غادر من الباب الخلفي، في الليل، ابتلعه الظلام والنخيل.

– إلى هنا.

– إلى الخارج… بعد ساعة جاءوا، ضربوا الباب بقوة، ضربوا أخيراً كسروه، تصايحوا، اين هو، ضمير، أين اخفيتيه.

– أنظر، اختفى إلى أين لا أعلم. لا وجود له.

– سنبحث عنه في الدروب والأزقة، في الطرق، في المتنزهات، في البيوت حتى نعثر عليه لنمحيه.

تقدمي ما بالك تسمرت في وسط المقهى بلا حركة. دقائق وأنا انتظر منك ان تتحركي. لهفتنا إليك شديدة، على حضورك بيننا لأنه يضخ فينا نسغ حياة أنا وضمير. تعالي- قال جهاد الجالس جنب ضمير على كرسي واحد عريض، ملتصقاً ومتماهياً معه أخذت مكانها بينهم. بسط جهاد على المنضدة خارطة مؤشر عليها بالقلم الأحمر منطقة في الشرق قرب الحدود.

– نحتاج معلوماتك.

– انصتت شتاين إلى الأستاذة أمل وهي توضح: إحداثيات الموقع المفترض على الخارطة أمامها. مؤشرة بقلم الرصاص، هنا قرى متناثرة إلى اليسار منها بمسافة عشرة كيلومترات أو اكثر قليلاً، طريق جديد إلى الآن العمل جاري فيه. إلى الجانب الآخر منه مسافة أمتار حفر عميقة الغور. خلفتها الحروب وبالذات الأخيرة.

– أعرف المكان، أجريت فيه حفريات للبحث عن الآثار لوّح جهاد للنادل بيديه.

– شاي

– كم

– ….

أندفع إليهما الهواء من الخارج عبر الباب، فتحته شابه. دخلت ترتدي ثياب سود كأنها الأستاذة أمل، متطابقة منها تماماً من جميع الوجوه، وجهها، المعالم فيه، ضيعها الغبار. حط عليه من جبل أجرد في الصحراء.

لتستظهر ألقه، أخرجت من حقيبتها مناديل ورقية وأخذت تزيل مسحوق الغبار من عليه. في الخارج، وراء الزجاج تماوجت هاربة على أسفلت الطريق أضوية النهار مثل أجنحة لطيور متعبة وهاربة. الطريق نفر قليل فيه، بعد لحظات يحل الليل. على الرصيف المقابل الشجار والنباتات مضببة بالغبار.

خلف الأشجار شابان يركضان كأنهما مطاردان. ممن يهربان، لا أحد خلفهما. تركت عيناها الطريق وما فيه عندما سألتهما الأستاذة النخلة:

– شتاين لـ (ضمير عرفهما إلى بعضها قبل لحظة مبيناً إلى الأستاذة من أنهما شتاين وحبيبها ببيانو أمريكان من أصول تشيليه رحل عائلتيهما من تشيلي بعد انقلاب بينوشت بأيام، المدعوم بقوة من أمريكا). ألم تسألي في أمريكا. عن أسباب عدم إحضار جثته، اعتقد أنهم لم يبذلوا جهد جدي في البحث عنه.

– استوضحت الأمر منهم، لم أحصل على أي شيء، أكتفوا بأن قالوا: لم نعثر عليه. قبل شهرين من الآن، في عطلة نهاية الأسبوع، في كل عطلة أذهب إليه، لم أحظ منه بأي جواب. صاحب القرار بهذا النوع من المتعلقات الأدمية لأنه يمتلك شركة متعاقدة مع الحكومة لإحضار الجثامين إلى ذويهم بالإضافة إلى نقل وإسعاف وعلاج الجرحى من افراد الجيش… شركة متخصصة بذلك.

– لم أفهم.

– أمهليني لحظة لأوضح: قالت شتاين وارتشفت من قدح الشاي أمامها رشفة كبيرة ملتذذة بمذاق السكر فيه. ثم تابعت:

– ذهبت إليه، صاحب الشركة المسؤولة عن كل شأن من هذا النوع دخلت إلى مكتبه. فأجاني المكان، لم أتوقع أن يكون خالي. أين هي سألت نفسي. وقفت منتظرة عودة السكرتيرة، أثناء انتظاري خالني أن أنظر من النافذة إلى البحر، إلى رصيفه الممتد أمامي. من الطابق الثلاثين من ناطحة السحاب المطلة عليه من ناحية الطريق العريض المظلل بالأشجار.

صدقيني أستاذتي النخلة، هذه كنيتك أليس كذلك، سمعتهم قبل حين ينادوكي به. أسمعي مني خلجات روحي وأنا بانتظار السكرتيرة، تصادى صوت حبيبي الرخيم في عقلي.

– فترة قصيرة قياساً لعمرينا تنتهي، لنبدأ بمشروع.

– صعد صوتي مني، من مخي إليه مع أني لم أفتح فمي.

– أين المشروع… ببيانو.. أين أنت الآن؟

ربما ما أقوله لك الآن يصورّني أمامك في تلك الأثناء من أني أصبت بالجنون.

الحقيقة هي لهفتي إليه وإحساسي العميق بأني فقدته إلى الأبد جعلني استعيد لحظة وداعي له.

أنه هناك، على سطح السفينة، منهم، لوح لي بيديه ضربتني مياه البحر، دفعتها حاملة الطائرات نحوي. تدوي في آذاني، مندفعة نحو عرض البحر. إحساسي القوي بأنها اللحظة الأخيرة لرؤيتي له الغريب في الأمر هو أني نسيت نفسي وأين أنا موجودة بالإضافة إلى أن زمني تراجع إلى ساعة الوداع مع ما أصبح واضحاً عندي، نتيجة لما آل إليه ببيانو حبيبي مما دفعني أن أصرخ عليه:

لا ترحل، أرجع رجاءً أرجع. كنت أصيح في المكتب من غير إرادة مني. واصلت صراخي غير منتبهة لما يدور حولي.

موظفو المكتب والسكرتيرة خلفي سألتني:

– ما بك.

– عندما أنسحب الموظفون سألتها:

– آخر الأخبار.

– لا شيء.

– أبلغيه عني، عن وجودي.

– غير موجود.

– أين؟

– في الخارج لمتابعة أشغال شركته والشركات الأخرى التي له فيها اسهم كثيرة.

– متى يعود.

– شهر أو شهرين أو أكثر لا أدري على وجه التحديد.

– وجثة ببيانو.

– أبلغك بحضوري قبل أسبوع، قال لك: أنهم وجدوا حطام الطائرة أما جثته لم يعثروا عليها رغم أن البحث تواصل ما يقارب شهرين.

– سقطت نار كلماتها على رأسي. خشيت أن تحرقني وتطفر مني، ما لا تحمد عقباه. لأنها غاصت في عمق روحي. أحسست بها تمور في قلبي وجميع بدني. خرجت من المكتب، أجر جسدي مثل عربة تئن تحت أطنان من القهر. وأنا أمشي تائهة بين الناس، عزمت أن أجئ إلى هنا وها أنا هنا.

– انجديني استاذتي النخلة لأني مهتمة أن يكون له شاهد قبر أزوره.

– لا تهتمي… بعد أن حددنا الموقع المفترض على الخارطة، منطقة إلى الشرق قرب الحدود، سنجده لترجعي به بعونه تعالى نجد جثته معاً بالإضافة إلى الناس في قرى المنطقة.

– متعاونون لأنه صار خارج الفعل المؤذي، أنهم حتماً يساعدوننا خصوصاً بحضوري.

والآن لنغادر، حل الليل والطريق مظلمة.

خارج المقهى، على رصيف الطريق التفت إليها جهاد قائلاً:

– ستأتي، موقعينا معك على صفحة التواصل الاجتماعي.

– معي.

– إذا لنتواصل وبالتأكيد نعثر على جثته.

تطلع إلى جانبي الطريق لا يرى فيه أي شيء، كل ما فيه يحجبه الظلام عنه.

(مدينة النور نائمة الآن في العتمة) تمتم مع ذات نفسه. حدّق بخط مائل بحيث أن نهاية ناظريه ساقطة على السماء. أبصر بوضوح الحشد الهائل من النجوم تتلامع فيهما جاءه صوتها من الداخل مما جعله يسحب عيناه من السماء والطريق إليهما.

علينا أن نتحرى من الغد عن جثته بالقرب من الطريق الجديد المحاذي لقرى المنطقة الكائنة شرق العمارة قرب الحدود ثم حط الصمت فيما السيارة تسير ببطء لتصل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى