سعد الجبوري - موت في زحمة الإستقواء.. قصة قصيرة

يرفض الاب زواجهما، يصر على الرفض، يؤكد في رفضه عدم صلاحية الطلاب الشباب الى الزواج، تتشبث من جانبها بحتمية الزواج، فالحب كفيل بانجاحه عشقا تشبهه بليلى في أساطير الحب وقصص أيام زمان، وعدته في خلوة بريئة ستكون له وحده، حبيب هو الاول وسيكون هو الاخير، وعدها بعرش يقيمه لها وسط الضباب.يعاود الاب رفضه، يضيف الى حججه أخرى تتعلق بعجز العائلة ماليا على معاونة ابنها حامد على فتح بيت واعالة اطفال فيما بعد، يؤكد بصوته الرخيم في تجمع للعائلة على العشاء أن العوز يفشل الزواج والحاجة تقتله بعد حين واقبال لن تكون زوجة لحامد مادام هو على قيد الحياة. تتشبث أكثر بالزواج. يتدخل الاخ الوحيد لاربعة بنات، يسحبها جانبا اخت صغرى ما فتئت تعطي البيت نكهة حياة، يخبرها تفاصيل ما يعرفه عن زميلها حامد من لعب على البنات القاصرات وتهور في منطقةٍ لا تخفي الاسرار وعن أب متهم بسرقة بيتٍ كان يحرسه في حي المنصور. تجادله بحتمية التغيّر بعد الزواج، وبعهد قدمه للبقاء مخلصا كل العمر. يتركها ممتعض تسيطر على عقله فكرة السحر اسلوب للتشبث بالزواج أو الحماقة في تسليم الجسد لحظة طيش مجنون. تقطع الاخت الوسطى عليه الطريق، تخبره بخطأ ضنونه ومعرفتها بتفاصيل غرام شقيقتها حد الجنون.

لم يبق لتخرجهما سوى أشهر، يفكران بخشية الفرقة وصعوبة اللقاء، يحشد الحبيب جهد يراه متاح، يجلب افراد فصيلته من جيش الفدائيون ببدلاتهم الزيتوني وقائدهم الرفيق حسيب، يطلبان يد الآنسة اقبال لمقاتلهم المخلص حامد، يبقى الامر مرهونا بمهلة طلبها الاب للتفكير ومشاورة العائلة والعمام، فرصة يراها لازمة لتدبر الحال.

تُحتل الدولة المريضة، تسقط الحكومة، يتفرق الفدائيون، يترك حامد منطقته متخفيا عند أعمام له في البياع، يتنفس الاب الصعداء بتخلصه من وعد قطعه بالتفكير في أمر الزواج.

يؤديان امتحانهما الاخير، يسرها حبيبة قبل الوداع انه عائد الى الساحة بقوة دفع تفوق الاولى بكثير، سيخطبها ثانية وثالثة وباستخدام القوة اذا ما اقتضت الضرورة استعمالها تتويجا لحب ستذكره الاجيال. تؤكد موقفها من الانتظار حتى آخر العمر لحبيب يشغل العقل ليل نهار.

ينفرج الحال، يَطلقُ لحيته برسمة تنسجم مع اللحى السائدة في العهد الجديد، يحرق ماضيه القديم يصبح داعية للحزب الجديد، يسكن الجامع ليل نهار، يتقدم خطوة في التنظيم الشبابي للحزب الجديد، يصبح معروفا في المنطقة التي أختفى منها قبل أشهر من الآن، يتعين مديرا لمدرستها الابتدائية على حصة الوظائف التي أعطيت للحزب. لا مجال لرفض الزواج فالعيش مضمون، وظيفة هو فيها تابع الى الحكومة وهي معلمة لمدرسة أهلية، وماض عائلي تغير بمجرد الوقوف مع صفوف المصلين ودعاة التنظيم والهتاف برحيل الامريكان. ثم ان القادمين الى الخطبة كبار الحزب، تحرسهم عشرات السيارت التي أخذت نهبا من مخازن الحكومة المركزية في منطقة الحصوة مع دخول الجنود التابعين الى قوات الاحتلال، لا يمكن رد طلبهم.

ينقضي الشهر الاول تُفرغ أوعية الغريزة في غرفة داخل بيت ينام بعض أصحابه وقوفا من شدة الازدحام، يسألها الاخ في أول زيارة للعائلة عن وضع الزواج، تجيبه رحمة من العلي القدير، ورضا في كل الاحوال. تحث الخطى عائدة الى البيت فالزوج لا يسمح بالتأخير، بل ولا يسمح بتكرار الزيارات الى أهل طالما رفضوا الزواج.

وهج الحب تحاصره الام في الزامها العروس بتحمل شغل البيت تنظيفا وكنسا وطبخا واهتماما بالاطفال العابثين في ملعبه الصغير، ويكمل عليه الحبيب بالزامها ترك الوظيفة والجلوس راعية للأهل، ملتزمة بتعاليم الدين. تنسى الاهل أو أن الاهل قد تناسوا ذكراها يوم انتُزعت موافقتهم على الزواج بقوة السلاح. تنعزل عن العالم تماما لا تخرج الا منقبة ترافق حماتها، تحمل أكياس المشتريات من السوق مرة في الاسبوع.

تنتهي السنة الاولى مشدوهة، لا وقت لها بالتفكير في حالها وقصة حب تغطيها طبقة من الرماد، واب تركته شبه مكسور، تنظره من بعيد صورة مشوشة من خلف النقاب. تضع طفلتها الاولى، يحضر الاخ الى زيارتها مباركة بالمولود والتزاما بالاصول، يمنعه النسيب من الدخول، تحتج واقفة خلفه بمسحة فيها قدر من التوسل فتتلقى ضربة أبقتها راقدة طوال شهر علقت بها حمى النفاس. تهمل حالها، تلغي رغبتها في المعاشرة، تنجب طفلها الثاني بطريقة تشبه معنى الاغتصاب، تصاب بالاكتئاب الحاد يمتنع عن مداواتها عند الطبيب النفسي، تجلب لها الام احدى الملالي تقرأ لها الدعاء، تكتب لها حجاب، فأغلب الضن باتت مسحورة من أهل لها غير راضين بالزواج. تنعزل عن العالم الا من هاتف نقال لأخت الزوج المراهقة تستخدمه لقاء رشوة ابقاء لها في الغرفة تكلم صديقها لساعات في الليل أثناء غياب الزوج في خلواته الخاصة، باتت من خلاله تسمع قصص عن مغامرات زوجها الحبيب، ومعاشرته احدى المعلمات المطلقات في بيتها بعد الدوام وأثناء الليل بحجة التواجد في مهام حزبية. تحاول اعادته الى الصواب فيعاود ضربها وغلق باب الغرفة من الخارج يبقيها تصرخ مع أطفالها طوال النهار. تشتكي حالها الى الام في طريق حملها المشتريات، تنهرها بشدة، تذكّرها بعدم موافقة الاهل على الزواج، وبمباركتها حصوله شرط بقائها خادمة للعائلة طوال الحياة، انتقلت في شكواها الى الاب الذي أدمن الكحول، طالبته الانصاف بالطلاق راضية بالتنازل عن حقها الشرعي في مؤخر قدره عشرون مليون دينار، يساومها على ثلاثين مليون ثمنا لاجبار الابن على الطلاق. تتجه الى التعبد مرات في النهار وطوال الليل، ترفع يديها الى الخالق راضية بالغفران وحل يأتي من عنده بعد أن أوصدت بوجهها كل الابواب. تكتب الى شقيقتها القريبة الى قلبها رسائل من الهاتف النقال، تشكو حال سجنها وكيفية الخلاص، يأتيها الرد مثل كل مرة، الوالد لم يخرج من صدمته، ولم ينس حرجه بأصرارها على الزواج. الشقيق الوحيد يمنعه الوالد من التدخل فالقتل ممكن وحامد بارع في تنفيذه داخل المنطقة وخارجها، وفخذه في العشيرة باطل، والحزب يقف خلفة في كل الاحوال.

نوبة عراك، تخرج أصوات صاحبتها مخدرة من خلف الجدران، تندفع الى الخارج والشتائم تتساقط على رأسها الدامي كلوح زجاج تحس شظايا تكسره تتناثر بين ضلوعها، تحاول اسكاته، ابعاد تلك الكلمات التي تنخر في راسها كالمثقب، لكن أوانها قد فات بعد أن ملئت حروفها خلايا العقل المبعثرة كالعلق. تظهر العائلة من بين اعشاشها، أم في المقدمة، وأب أفقد عقله الخمر المعمول محليا. يتمتعون جميعا بمنظر فريد يشبه جولات صيد كان يعدها الاوربيون للافارقة قبل خمس قرون من الآن. تقف الام في طريق الطريدة، تنهال عليها بأظافر افترست جلدها الناعم وانغرزت في خاصرتها الطرية. تحاول الاستدارة أملا في الخلاص فتسد عليها الاظافر منافذ الحياة وتمنع عنها الرؤية والهواء. تحاول البوح ببعض الكلمات لكن حنجرتها قد تجرحت وسدتها الدماء فحشرجت حتى أتت لحظة احست دبيب الموت قريبا منها، فمشت امامه الى الفراش طيعة مثل شاة يطاردها ذئب جائع.

استفاقت من غيبوبتها قبل ان تبسط العتمة كفها فوق الغرفة البائسة، احست نقاط من الدم تتلاحق هابطة من خلال شعرها الحني الى الارض الاسمنتية الباردة وجروح مازالت تتفجر منها الدماء. وبجانبها انسان في هيئة حيوان ينفث شخيرا مثل ثور انهى جولة نطاح. تحاول النزول من على السرير تسقط على الارض، تحاول ثانية كمن يخلص جسمه من مستنقع وحل ثقيل، تصل الباحة زحفا، تصرخ من وجعها فينفتح من امامها نفق مظلم بلا نهاية. تطلب النجدة، يلحقها بحزام الجلد، يتعالى الصراخ وتبادل السباب، تخرج العائلة من أوكارها، يتجمع الجيران، يجدون النيران قد أخذت جسمها الدامي، بلهب عال وكأن النفط قد صب عليها قبل عود الثقاب. تُنقل الى المستشفى القريب، حروق من الدرجة الاولى. يضمها الاب الى صدره بحنان كمن يريد اعطائها قلبه بديلا عن قلبها الذي اتعبه الندم وكثر العراك، نظرت في عينيه الدامعتين لتقول شيئا، لكن الموت سد عليها الطريق.

تحضر الشرطة متأخرة لاخذ الاقوال، الطبيب العدلي من نفس العشيرة يرجح الوفاة انتحارا، دون الجزم بانه انتحار. يمتنع الاب عن اقامة مراسيم الفاتحة، ابقاها معلقة الى يوم تُكتشف فيه اسباب الوفاة مع ايمانه بعدم اكتشافها في الامد القريب وفي هذا الزمن الجديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى