إيمان أكرم البياتي - مدينة الجدار.. قصة قصيرة

لكل مدينةٍ حكاية… وحكايةُ مدينة الجدار تبدأ وتنتهي عند الجدار!

مدينةٌ صغيرةٌ نائية، لا تظهرُ ملامح أرضها في خرائطِ المحافظة، ليس لها اسمٌ و لربما كان لها فيما مضى قبل أن يتناساه الناس ولتكنى منذ ذلكَ الحين بـ(مدينة الجدار)!

يسألكَ أحدٌ ما:

من أين أنتَ؟

فتجيب:

من مواليد مدينة الجدار.

يعرفكَ حينئذٍ سكان المدن والقرى القريبة بما انتسبتَ إليه من نسب المكان، كثيرٌ هم ساكنوها الذين لا يعرفونَ اسم مدينتهم الإداري في سجلاتِ الدولة، من سيُلقي بالاً بما تختارهُ الحكوماتُ من تسميات، تعقدُ الاجتماعات والجلسات ليتم اختيار ما يناسبُ المدن من أسماء، حروفٌ قد تلتصقُ في ثوبها عقوداً من الزمن اللاحق، يوّقع على الاختيار ويثبته رجلٌ متحكمٌ في مصائرهم لأنه يحمل مسمى (ولي الأمر)، دون أن يكونَ لهم حق الاعتراض أو القبول على اسم مدينتهم التي يسكنوها وتسكنهم.

في الاجتماعات يمنحُ أسمٌ لكل مدينةٍ ليرفعها من بئرِ الذاكرة إلى أرضِ الحاضر، عند اختياره قد يُسحب دلو الغزوات فيخرجُ لها باسمٍ منسوب إلى حربٍ قد خاضتها يوماً ما في تأريخها القديم وكانت لها فيها الغلبة والنصر فيظلُ أسمها مذكراً الجميع ببأسها وقوتها، أو قد يخرجُ دلو التضاريس فيُطلق عليها اسماً قريباً لوصف أرضها جبلاً كان أو وادياً أو سهلاً عليها قد نشرت الطبيعة بقعه في ثوبها وفق فلسفتها الخاصة، وقد يرتفعُ من البئر دلو الرموز فتهبها الحكومة عندئذ اسماً منسوباً لرجلٍ عظيمٍ -هكذا يطلقُ على ساسة كل زمان في زمانهم- فيتركُ لها العظيم أسماً تحمله بثقلٍ جيلاً من بعد جيل، يكون خلالها العظيم قد هجرها متنكراً عنها وهو يستبدلها بنعيمِ المدن الكبرى إلى الأبد بعدما جادَ عليها باسمه الرخيص فحسب!

لكن مدينة الجدار لا صفحة صفراء أو حمراء أو بيضاء لها في سجلِ التأريخ، صفحتها بلا لون لم يعرف لأهلها فيما تناقلوه من حكاياتِ الماضي أنهم كانوا قد عادوا أحداً أو أن أحداً قد تجرأ عليهم بحربٍ ولو كلامية، كأنهم الشعبُ الأكثر سلاماً وسلماً على الأرض!

كما أن الطبيعة حرمتها شهرةَ الأرض حين لم تترك علامةً مميزة على أرضها لتكنى بها، يبدو أنها قد غضبت عليها أيضاً حين لم تهب أحداً من أبناءها حظاً كبيراً ليخرجَ من بينهم من يجلس على كراسي البلاد الكبرى أو ربما كانت تشفقُ عليهم من شعورِ التنكر وخيبة الأمل الذي قد يعانونه فيما بعد فكما يحصلُ دائماً ينسى الصغيرُ حين يكبر أصله وفصله، إما انشغالاً بنعيمِ الحاضر أو خجلاً من صورةٍ كان عليها في طفولتهِ وصباه بثيابٍ رثة متسخة!

لكن هذا لا يعني أبداً أن تكون مدينة الجدار مدينة تعيسة أو بائسة على العكسِ تماماً فبساطتها قد جعلت الكثير من النعمِ تفيضُ بها وتفيضُ بنفوسِ أهلها، يحسدهم عليها مواطنو المدن الكبرى ومدمني المدنية والتحضر، فلقد كانت مدينة هادئة تعيشُ بسلامٍ على الفطرة دون منغصات، فلا أقنعة يضعها الناسُ عند خروجهم من منازلهم خوفاً من شمسٍ تفضح أسرار ليلهم وتشي بحقيقتهم ولا يملكون وجوهاً ترسمها مشارطُ التجميل كل عام بدعوى البحث عن الجمال فتتغيرُ عندئذ طباعهم و نقاء قلوبهم لتناسب المظهر الجديد!

في مدينة الجدار تتمحورُ كل الحياة في الجدارِ المـُشيد وسط المدينة، ذاكَ الجدار العظيم حجماً وعلواً والذي أقيم منذ زمنٍ يجهله الأحياء، خبره عند الأموات فحسب والذي رحلَ مع رحيلهم إلى العالم الآخر حين دفن مع جثثهم، اليوم ما عادَ احدٌ يعرف تأريخاً محدداً لولادته على ارضِ مدينتهم لكنه جدهم الأول وارث آبائهم لهم جيلاً من بعد جيل، انه جدار مناسباتهم السعيدة وأيام فرحهم فأهل مدينة الجدار ليسوا بحاجة إلى إعلاناتٍ ضوئيةٍ كبيرة أو بطاقات دعوة أو كروت دعائية لتصلهم مواعيد الأحداث المفرحة، ما عليكَ سوى أن تمر قرب الجدار الشامخ وتلتقط عينيكَ ما دوّنه الأهالي بأنفسهم للتعريفِ عن مناسباتهم الخاصة مخطوطة على القماشِ الأبيض، زفاف…. ابن فلان …، ختان …. ابن ….، عودة أبو…. من زيارة بيت الله الحرام وذلكَ كافٍ لتجد أن بيوتهم تمتلئ بعد ساعاتٍ قليلة بالضيوف والمهنئين من كل صوب، وكثيرةٌ هي الأسر التي كانت تتسابقُ في شغلِ مساحة من الجدارِ الكريم قبل أن تغطيه المناسبات الأخرى وتسرق منه الاهتمامَ وحظ المباركة العاجل.

مدينةُ الجدار لم يكن لها سماء تشوبها غيوم تعكر صفو بال ساكنيها، فالسماءُ كانت راضية عنهم، كانوا يلتحفون بها ويفترشونَ أرضهم مطمئنين آمنين، فيها الأفراح مشتركة يتشاركُ فيها صاحب الدار والجار وجار الجار وضيف الجار! وتكونُ الزغاريدُ إعلاناً رسمياً بالفرح ودَيناً يرده كل دارٍ للآخر.

حتى توفي طفلٌ رضيع دون سبب معلوم ولكثرة نحيب والدته وحرقة قلبها عليه راحت تعلقُ نعيه في قماش اسود على جدار المدينة ليعرفَ كل من يمر بقربه بموتِ صغيرها المفاجئ وبعظيم مصابها فيأتي ليشاركها الفاجعة والحزن، فكانَ ذلكَ كافياً لدقِ المسمار الأول في نعش الجدار!

توالتْ الحوادث المشابهة، مرضٌ فتاكٌ يخطفُ أرواحَ ملائكة المدينة واحداً تلو الآخر في عدٍّ تصاعدي مخيف، إعلان ثانٍ اسود ثم ثالثٍ… ثم عاشر… ثم خامس وثلاثين في أسبوعٍ واحد، لفت الأوشحة السوداء حولَ بياض رقبة الجدار وكأنها تخنقه وتعتصر روحه و ألتهمَ على اثر ذلكَ الحزنُ الفرحَ في مأدبة موتٍ جماعية!

المدينةُ الغائبةُ عن تعدادِ المدن في دفاترِ الدولة، يُفتح لها ملف عاجل الآن ومن لم يكن يعرفها كان قد سمع مع الأسبوعِ الثاني بكارثةِ (مدينة الجدار) وارتعدَ خوفاً من أن تنالَ مدينته عدوىً منها عبرَ الهواء أو الماء أو فتات الغذاء!

من يعرف ماذا يحدث هناكَ لجعل الجدار يلبسُ ثوباً اسوداً جديداً مع كلِ طلعة شمس ومغيب؟!… لا احد!

بعضُ الأسرِ راحت تحزمُ حقائبَ ذكرياتها وتشدها بما استطاعت حمله من حزم الثياب في محاولة لإخفاء الانتساب إلى هذهِ المدينة، مهاجرة إلى المجهولِ دونَ تذكرةِ تعريف بحثاً عن مدينةٍ جديدة لا يقفُ فيها منتصباً جدارٌ للموت! نعم، فـ(جدارُ الموت) صار هذا اسمهُ الجديد الذي ينتقلُ على السنةِ الجميع، متناسينَ أنه ظلَ لسنواتٍ طويلة -يجهلون عددها- جداراً لأفراحهم. الطفلُ التاسع والتسعون يوارى تحتَ ترابِ مدينتهم في جوٍ من الحزنِ العميق، كانت فيه المعاول تُغسلُ بدموعِ الأمهات قبل أن تحفر قبراً في ارضِ المدينة، فكل أمٍ تبكي الوليدَ الفقيد الجديد أو روحَ الابن الغائب من أولادها فيه.

في لحظةٍ واحدةٍ يجهلُ المرء لها صفة تناسبها إن كانت لحظة عقل أو لحظة حزم أو كانت لحظة جنون وتسرع، قرروا جميعاً دون اتفاقٍ مسبق أن لا يعودوا إلى منازلهم وان يقصدوا جدار الشؤم لهده قبل أن تنشفَ عن معاولهم دموع الأمهات! ساروا نحوه يحملونَ فؤوساً ومعاولَ ونيران مشتعلة وهم يصرخونَ باكين حزناً أو مهددين بـ:

الويل لجدار الشؤم….الويل لكَ!…نحن قادمون…

اجتمعوا حوله يضربونه بوحشية، كأنهم يضربونَ قاتلَ فلذات أكبادهم ليسلبوه الحياة على عجلٍ قبل أن يغتالَ روحاً أخرى من وسطهم في الصباحِ القريب، ساعات وكان الجدار القوي قد أصبحَ بقاياً لجدار، تمدد على الأرضِ قتيلاً، ذكريات لأجيال وأجيال منهم ومن سابقيهم سقطت أرضاً وتبعثرت فراداً، كل قطعة حجر منه كانت قد حملت يوماً ما إعلاناً لبشرى سارة أو ذكرى جميلة غنت فرحاً لبيتٍ منهم.

تناثرت القطع إلى أشلاء، لم يفكروا للحظة أنهم بذلكَ يعيدوا مشهد موت أولادهم، فهم يقتلونَ حجراً شاركهم فرحة ولادته يوم خرجَ من ظلمةِ الرحم البشري إلى مهدِ الدنيا، لم يعلموا وهم يتجهونَ إلى منازلهم بعد جريمتهم الجماعية ويتركونَ قتيلهم خلفهم جثةَ ماض مبعثرة بمعاول الحاضر في ثورة غضبهم العارمة، أن أولادهم لن يعودوا إلى الحياةِ بفعلتهم هذه وان قتل الجدار ليس سوى إعلان وفاة جماعية لهم جميعاً، بعد أن فقدت مدينهم هويتها وفقدوا بقتلهم أباهم وثيقة انتسابهم إليه!

إيمان أكرم البياتي – بغداد

أحدث المراجعات

نص جميل في مجمله، اعتمد الإيحاء والرمز، وراهن على أهمية حضارة الأمة التي تثبت هويتها
ومقوماتها.
ولعل الجدار في النص رمز لهذه الهوية التي اقتصرت على الماضي دون الحاضر، يؤكد ذلك حدث هدم الجدار من طرف الأهالي عندما " خذلهم "، فكان الهدم " إعلان وفاة جماعية لهم " وفقدانا لهويتهم ..
لكن، ألا يمكن أن تكون ماراهنت عليه الكاتبة، هوية انفصلت عن الحاضر، باعتباره استرسالا للماضي، وأنها هوية ترتبط بتاريخ مستمر، ينطلق من ثرات سابق نحو تطور لاحق؟ وما " الجدار " إلا رمز لماضٍ لايمكن الاعتماد عليه وحده؟ هي تساؤلات يثيرها " رمز " الجدار باعتباره قوة فاعلة وحيدة في النص، أثبتت فشلها في تحقيق كل متمنيات الأهالي الذين ثاروا عليه، وتناسوا بذلك أن هناك
عناصرَ أخرى لابد من تكاثفها مع الجدار " لإتمام " الهوية " وتحديد سيرورتها التاريخية ,,
لكن تبقى ميزة النص منفتحة على تأويلات شاسعة، منها على سبيل المثال مايخص إدانة المسؤولين عن بنائه دون مراعاة لخصوصيات الأهالي، ومنها عناصر أخرى تفتح المجال للقارئ كي يشارك بتأويلاته ما سعت الكاتبة إلى طرحه
أسلوب النص جيد، وحبكته نجحت في تحقيق سرد متماسك استطاع السير بنا نحو رهان يمتطى صهوة الرمز والإيحاء ,,
وأضيف في الأخير ملاحظات تخص بعض الأخطاء الواجب تصحيحها:
لم تهب أحداً من أبناءها حظاً كبيراً
من يعرف ماذا يحدث هناكَ لجعل الجدار يلبسُ ثوباً اسوداً جديداً
لم يفكروا للحظة أنهم بذلكَ يعيدوا مشهد موت أولادهم
مع التحية للقاصة العراقية الواعدة إيمان أكرم البياتي
  • Like
التفاعلات: جبران الشداني

تعليقات

نص جميل في مجمله، اعتمد الإيحاء والرمز، وراهن على أهمية حضارة الأمة التي تثبت هويتها
ومقوماتها.
ولعل الجدار في النص رمز لهذه الهوية التي اقتصرت على الماضي دون الحاضر، يؤكد ذلك حدث هدم الجدار من طرف الأهالي عندما " خذلهم "، فكان الهدم " إعلان وفاة جماعية لهم " وفقدانا لهويتهم ..
لكن، ألا يمكن أن تكون ماراهنت عليه الكاتبة، هوية انفصلت عن الحاضر، باعتباره استرسالا للماضي، وأنها هوية ترتبط بتاريخ مستمر، ينطلق من ثرات سابق نحو تطور لاحق؟ وما " الجدار " إلا رمز لماضٍ لايمكن الاعتماد عليه وحده؟ هي تساؤلات يثيرها " رمز " الجدار باعتباره قوة فاعلة وحيدة في النص، أثبتت فشلها في تحقيق كل متمنيات الأهالي الذين ثاروا عليه، وتناسوا بذلك أن هناك
عناصرَ أخرى لابد من تكاثفها مع الجدار " لإتمام " الهوية " وتحديد سيرورتها التاريخية ,,
لكن تبقى ميزة النص منفتحة على تأويلات شاسعة، منها على سبيل المثال مايخص إدانة المسؤولين عن بنائه دون مراعاة لخصوصيات الأهالي، ومنها عناصر أخرى تفتح المجال للقارئ كي يشارك بتأويلاته ما سعت الكاتبة إلى طرحه
أسلوب النص جيد، وحبكته نجحت في تحقيق سرد متماسك استطاع السير بنا نحو رهان يمتطى صهوة الرمز والإيحاء ,,
وأضيف في الأخير ملاحظات تخص بعض الأخطاء الواجب تصحيحها:
لم تهب أحداً من أبناءها حظاً كبيراً
من يعرف ماذا يحدث هناكَ لجعل الجدار يلبسُ ثوباً اسوداً جديداً
لم يفكروا للحظة أنهم بذلكَ يعيدوا مشهد موت أولادهم
مع التحية للقاصة العراقية الواعدة إيمان أكرم البياتي
 
أعلى