سيد محمد سيد - قراءة التاريخ في رواية هالة البدري: امرأة ما..

يكتب القلم روايتين إحداهما تنشر والأخرى تحترق. هذا ما تعلنه هالة البدري ( مواليد 1954م ) في آخر فقرة من "امرأة ما" فالقارئ سيرى نصا ظاهرا، يتضمن قصة صناعة الرواية التي احترقت: "صدمتني دفاتر الرواية محترقة، متفحمة حتى النهاية، لم يبق منها غير أطراف الكرتون المعوج في السلك." لن يفتقد القارئ بعض الفقرات التي ضمنها الكاتب نصه المنشور فنجت من الاحتراق، ويستطيع القارئ أن يقيم حوارا بين الروايتين، الكلمات التي قيلت والكلمات التي بين السطور.
على كل الأحوال فإن الرواية داخل الرواية، أو اتخاذ المشروع السردي نفسه موضوعا روائيا، أحد المحاور المهمة في التجربة الإبداعية لهالة البدري، مثلها في ذلك مثل سلوى بكر في "كوكو سودان" أو مي التلمساني في "أكابيللا" فالقارئ سيجد هذا في رواية هالة "ليس الآن" أيضا، حين تحاول الشخصية استرداد ذاكرتها المفقودة بقراءة مذكراتها: "مدت يدها بالدفتر. - هذا هو، عدني ألا ترهق نفسك، وألا تعبر الأحداث قراءة دون أن تربطها بما لم تكتبه. حاول أن تسترجع التفاصيل التي تكمل هذه الأوراق. – أمسك بالدفتر وفتحه على الصفحة الأولى، قرأ العنوان المكتوب بحروف كبيرة: 1956"
هكذا الكتابة التي تخترق هالة البدري غلافها مقتحمة مملكة الجمال المتوحش المنطلق تحت خمائلها المتشابكة، مملكة السرد التي يجلس القاص على عرشها ليضع استراتيجية التحكم في خريطة الأوهام الصعبة التي تشير إلى الوقائع الهاربة من ثقوب الذاكرة، تستعيد هالة العدوان الثلاثي والوحدة والانفصال، وهزيمة 67 والاستنزاف والعبور ونهاية الاشتراكية على أيدي تجار السبعينيات، وأزمة المثقفين مع التحولات الاجتماعية التي أنتجت خطابا مهلهلا.
نص تكتشفه في سيمياء التشكيل ونص محترق في مرجعية التشكّل، نص سجين في الكلمات ونص تحرر حين احترقت دلالاته التي أدركها القارئ المعذب بالفهم. وهكذا تجربة الإنسان الذي تقيده الجاذبية الأرضية بكل مؤسساتها الاجتماعية والثقافية وتطلقه التجربة الجمالية في أفق سماوي، الإنسان الذي حكت هالة رحلة غربته وهو يدخل تجربة اختيار يتحير فيها الزوجان بين رؤية نسائية مدركة لقيمة المؤسسة الاقتصادية التي يمكن أن تتمثل في "بقرة" تحقق مشروع العائلة ورؤية الرجل الحالم بـ "حصان" يمنحه حق الخروج في أفق الخيال الذي أخفى أسرار حكايات الفروسية القديمة المتحولة إلى نداهة تراود أحلام التحقق في فضاء مجهول يستطيع القارئ أن يربط القصة بثمانينيات القرن العشرين، زمن خروج الفلاح المصري إلى الخليج. لم يكن الحصان سوى حلم بوطن يحتوي أشواقه، بينما الأزمة الاقتصادية تضع أمامه اختيار الإشباع أولا. بالتالي تكون للبقرة أولويتها. وتتجاوز القصة دائرة المرجعية الاجتماعية المحددة لتضع في الأفق السردي نموذجا مغايرا للمؤنث الثقافي الحالم والمذكر المتسلط، فصوت المرأة في القصة يعبّر عن الرؤية الاجتماعية وصوت الرجل ينشد الحلم الفردي.
تتميز كتابة هالة برؤية إنسانية تبحث عن البعدين المادي والروحي في أعماق الذات وهي تقرأ تجربة وجودها في كتابتها وتنعكس في مرآة سردها صورة مصر التي شهدت هالة أفق تحولاتها منذ ولادتها عام 1954 مع التجربة الناصرية بحلم يصل نسيج النص العربي بين الشام واليمن، في مد قومي يربط الشتاء بالصيف، مساحة من الأحلام تتصاعد وتنفرط، مثل حلم محمود بطل "ليس الآن" بالحبيبة التي يتركها لأنه يريد امرأة لا تناقش، لا تعترض، لا تحلم.
يلمس المتلقي في سرد هالة تعدد مستويات الأداء، ستجد الرومانسية الجميلة التي تنعكس في خطاب المذكرات المكتوب بدرجة عالية من الشعرية، مع تضافر تلك الشعرية بخيط فلسفي عميق يحلل المشاعر المتدافعة في الفضاء الروائي. وتجد الواقعية التسجيلية التي تستحضر أحداثا اجتماعية محددة. وتجد جنيات الفانتازيا. وتجد لغة الراوي الخارجي الإطار ولغة الشخصية التي تكتب المذكرات أو تحاول إبداع رواية داخل الرواية. ستستمتع بالسرد وبالميتاسرد في فضاء "ليس الآن" التي اتخذت منها هالة علامة لتصوير العلاقات المعقدة في دراما فصول جيل هو الشاهد على تنازلات الأحلام المنتهية وهو ضحية متغيرات العولمة وهو مكتشف الخط الوهمي الذي يصل ويفصل بين جماليات السرد ومرجعية الحكاية. كل هذه مواضيع تحتاج إلى دراسات في أكاديميات الأدب والنقد.


د. سيد محمد سيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى