محمد فري - كؤوس

دلف إلى الحانة بسرعة، وكأنه يتملص من ملاحقة مجهولة تثقل كاهله، اتجه كآلة مبرمجة نحو البارمان، رمى بثقله على حافة الكونطوار، اتكأ بذراعه وطلب كأس نبيذ أحمر قان هي افتتاح لزمن لا يستطيع التكهن بنهايته. تلك كانت……..الكأس الأولى،سكب محتواها في جوفه دفعة واحدة، هذا النوع من الخمر الرخيص لا يستساغ تذوقه، أهميته في مفعوله وليس في جودة مذاقه، ثم هو لا يهمه مذاقها، لو رغب في ذلك لجلس في مقهى يتلذذ بكأس عصير حلو، أحس بجوفه يستقبل السائل الوافد دون ترحاب، لم يهتم للأمر، كما لم يهتم بالزبناء من حوله يتعاطون الكؤوس. مزاجه ليس مستعدا للحديث مع أحد، “نبح” كثيرا طيلة الأسبوع وهو يزاول عمله، فليصمت الآن، ولينصت إلى رنين الكأس، رنينه العميق وليس رنين إنائه. تحسس جيبه، عد ما به من نقود، اطمأن إلى العدد، مقدار كاف لإطالة السهرة، تنحنح مناديا البارمان………وكانت …الكأس الثانية،تأملها مليا، حدق فيها، ثم وجه أصابع كفه نحوها، أمسك بها، أحس بنعومتها، تخيل جسدا ناعما طريا، خدر خفيف ينتقل عبر أصابعه إلى أعماقه، حرك فيه ما كان خامدا، حمل الكأس إلى فمه، تجرع نصفها، أعاد الكأس إلى مكانها واستمر محدقا في حمرة محتواها، تذكر إحساسه بالضيق، شعور يسكن داخله دون أن يعرف سببه. الناس يحاربون بعضهم بعضا، احفر لي نحفر ليك، حقد متراكم، كل يبحث عن مصلحته، الأنا ضد الأنا، صراع بشري يضيع فيه من لا يملك مجدافا، وهو لا يملك مجدافا، ولا يهمه أن يملك أي مجداف، اليوم خمر، وغدا خمر، ولك الساعة التي أنت فيها، هات كأسا ياساقي..وتحضر…….الكأس الثالثة،تتحرك أصابعه نحوها، يلتفت إلى البارمان كمن تذكر شيئا:- شوية د القطعة عافاك.يحضر طبق الحمص المسلوق، يلتهمه بشراهة، تتتابع اللقمات ولا تفصل بينها إلا مزات الكأس المتلذذة، يضع الكأس، ويحوم بعينيه متجسسا على من حوله، تقتحم عيناه الكائنات المكدسة بالبار، لتلتصقا بردف ضخمة لإحدى المرتزقات بالمكان، عجيزة مكورة أشعلت حرمانه وحركت شهوته، يتذكر آخر مرة التصق فيها بجسد أنثى، يعجز عن تحديد المدة لطول عهده بآخر عراك جسدي، يفكر في مقايضة جسد الزبونة لكنه ينتبه إلى رصيد جيبه فيحجم عن المبادرة مكرها وهو يغمغم:- بنات ال…، اتفو، يضحكو في وجهك ويطبو ليك في رزقك.حنقه لم يطفيء رغبته، كتم شهوته وأزاح بصره عن العجيزة المكورة، ونادى على كأس أخرى. يسرع الساقي بإحضار…الكأس الرابعة،يتلقفها بترحاب كمن يستقبل امرأة مطواعة، ضالة طال غيابها، تصدر عن فمه ابتسامة تكشف عن أسنانه الصفراء التي لم تعرف الفرشاة مدة طويلة، يقذف إلى جوفه ما تبقى من حمص، يحس بالجوع داخله، ينظر إلى الساقي نظرة تشي بحاجته الملحة إلى طبق آخر، يتجاهله الساقي ويلتفت إلى زبناء الويسكي الأكثر ربحا. يكتم غيظه، ويحملق في الزبناء بفضول شديد، يحدق فيهم واحدا واحدا، تدفعه إلى ذلك جرأة لا يعرف مصدرها، وجوه مألوفة لديه، الشاب النحيل الأنيق في آخر الكونطوار يسند رأسه إلى كفه، عيناه مخفيتان وراء نظارة عريضة سوداء رغم عتمة المكان، قنينات فارغة من الهينيكن تملأ الكونطوار أمامه، كثرة عددها تزيد من اهتمام البارمان، بجانبه زبونة تكشف تضاريس جسدها عن أنوثة مستفزة، تلتصق بالشاب في تهتك خليع، يحيطها بذراعه، تتحسس يده جسدها المتموج لتصل إلى الخصر ثم تنزلق إلى العجيزة فتشدها بقوة. يبلع ريقه، تحرش جنسي يحاصره، يشتد عليه الخناق فتصعد الحرارة من أعماقه إلى أذنيه، يصرخ دون وعي في الساقي….- كأسا خامسة،تحضر الكأس فيهجم عليها كالثور الهائج، يفرغها في بطنه بصوت مسموع، غليان يحاول إطفاءه بالسائل الجهنمي، فلا تزداد النار إلا اشتعالا، تحمر عيناه وتستبد به الرغبة المجنونة، تذكر الليلة التي جلب فيها امرأة إلى بيته، قذفت إليه بجسدها لدقائق معدودات أخذت ثمنها مسبقا، ارتمى عليها كالبغل بدون مقدمات، لا حاجة للمقدمات في مثل حالته، نزل عنها كالديك ثم غادرته مسرعة في سباق مع البحث عن الزبون الضائع، وبقي وحده في بحث عن الإشباع المفقود. تململ فوق مقعده، تذكر كاسيط الأغنية بجيبه، أخرجها بسرعة وأسلمها إلى الساقي الذي ألف تلبية رغبات المستمعين الزبناء، أغلبهم يحملون أشرطة متنوعة تنسجم مع تنوع همومهم، عنصر يساعد الكأس على إجلاء الهموم. دندنت الموسيقى فانتشت الرؤوس، وارتفعت الأصوات في نشاز مستحب، أغمض عينيه وسرح بذهنه مع نغمة الوتار والبندير .. تراءى زمن الشباب، وعاد شريط جلسات السهر مع الأصدقاء.. وتذكر متعته في تنشيط الأجواء الصاخبة ببيته، فاستحق لقب مدير جلسات عن جدارة.. يهش لوجوه، ويبش لأخرى، يستقبل وفودا ويودع وفودا.. لا يهم إن كان يعرف الجميع.. جار ومجرور.. وهو قطب يتحلق حوله مريدوه، ومرحبا بالجميع ذكورا وإناثا. قهقه ضاحكا وهو يتذكر لحظات إشراق ضيوفه، وكيفية استعدادهم للإنشاد كالفقهاء المادحين، فينبرون “لتلاوة” أرجوزة ابن عاشر الفقهية بعد تحريف أبياتها بكلمات ماجنة والمحافظة على إيقاع إنشادها.. فتتصاعد النغمات، وتستبد النشوة بالجميع وكأنهم أسرى موسيقى روحية اجتهد كل المشاركين في إبداع كلماتها التي تفوح جنسا، ” يقول عبد الواحد بن عاشر…”، ويعتقد الجيران أن جارهم يقيم صدقة أو حفلا دينيا، اعتقاد توحي به نغمات الإنشاد الطاغية على معاني الكلمات .. زمن جميل تشتت أفراده، فانغمسوا في مشاكل الأسرة، وظل وحده صامدا يرفض تحمل مسؤولية أحد، هذا جناه أبوه عليه وما جنى على أحد.

مشاهدة المرفق 8
[SIZE=3]McSorley's Bar 1912 John Sloan[/SIZE]

استفاق كمن اقتلع من حلم جميل، حملق في كأسه الفارغة، لم يتذكر متى تجرعها فنادى بصورة آلية على كأس أخرى..وكانت ….الكأس السادسة،أتته تختال ضاحكة من الحسن حتى كادت أن تتكلم، استقبلها بضحكة حانية، غمس أصابعه في الكأس ومسح وجهه بالسائل كمن يتوضأ، شعر بمرح يجلو كآبته المعتادة، رغبة في التفتح على الآخرين تسيطر عليه، نسي حقده كله واستبد به ” صوت الحنان ” كما يقول أصحاب الميدان فأحس بالحاجة إلى معانقة الجميع، غمغم بكلمات غير مسموعة ورفع كأسه نحو الجميع ليشرب في صحتهم متذكرا أيامه الزاهية، أفرغ الكأس ثم أنزلها مرتطمة بالكونطوار محدثة صدمة مسموعة نبهت الساقي إلى إحضار كأس تالية، لم يعد السائل مرا، حلا الكأس ولا يهم إن كان بداخلها عنب أو حرمل..الكأس السابعة…... الثامنة..العاشرة…..العشرون… الواحدة والعشرون .. ال…انتهى العد…لم يعد مهما..خف الجسد وانقشعت الظلمة وقيل يا أحزان اقلعي .. فأقلعت عن الهطول .. وغيض الضيق والقنوط وأحس بنشوة تتلبسه وكأنها مس من فقدان الوعي .. الوجوه الكالحة استحالت إلى إشراق بهي .. والشفاه المزمومة انفرجت في ابتسامات عريضة .. الكل يبتسم.. هو يبتسم .. والشفاه المتيبسة تبتسم .. بسمات على بسمات تحولت لديه إلى ضحكة صاخبة أزاحت ثقل السنين .. ضحكة مدوية اختلطت مع دوي الموسيقى وصخب الأصوات المترنحة.. جسده يزداد انتشاء .. شعور ملح بالتحدث مع الآخرين ومعانقتهم فردا فردا .. هم زبناء مخلصون يعرفهم ويعرفونه .. لا حاجة إلى الحديث وسط الصخب وليشرع في العناق.. تعطلت لديه لغة الكلام وخاطبت ذراعاه في لغة الهوى أعناقا مختلفة .. انعدمت الرؤية ولم يعد يشعر إلا بملامسة أجساد مكدسة.. ترفق ساعداه فخاض لعبة العناق.. التذ باللعبة فغرق في الجس واللمس .. اختلطت الأجساد لديه .. وسبحت ذراعاه وسط لجج بشرية متشابهة.. لا فرق بين رجل وامرأة .. الكل متشابه لديه…و .. بدون أن يدري .. أحس بقدميه ترتفعان عن الأرض .. ويسبح فوق الرؤوس المتزاحمة باتجاه باب الخروج.. تحولت نشوة العناق إلى نشوة التحليق والطيران.. لكنه سرعان ما يسقط على الإسفلت بجانب الرصيف جاهلا سبب انتهاء التحليق.. يلتفت يمنة ويسرة محاولا استرجاع تحليقه فيتثاقل جسده، يتحامل على نفسه ثم يسير مترنحا مبتعدا عن الحان إلى أن تبتلعه الظلمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى