السيد طه - السيد كاف ينتحر بالسم

انزوي فى ركن المقهي وحده، ولعب وحده طاولة، يلقي بالنرد ويحرك القطع المستديرة ثم يلعب النرد ويحرك القطع المستديرة، كان يلاعب ذاته بثبات رغم نظرات الاستغراب والتعجب، يبتسم للعبة الحلوة، يقلب شفتيه حين يسيء التصرف، هو أو الاخر الذي هو هو، نصف ساعة ارتشف القهوة وانتصر على نفسه عدة مرات، اللعب مع النفس مريح فليس هناك مجال للخسارة، كان ينتصر دومًا على ذاته، انتصار وهمي كبير، لكنه مرتاح لطريقته الأبدية فى التعامل مع نفسه، يرفع شعار لا للهزيمة، لا للانكسار، ويهلل منتصرًا فى كل مره انتصر فيها على هذا الذي لا يجلس إلا فيه، الوضع لا يمكن وصفه بالكلمات العابرة، الوضع غريب كتراقص أضواء الفجر فى سماء الشمال الاسكندنافي، هو! يتراقص فى الفراغ الأسود الكبير والنرد بيديه واللعبة تحت السيطرة الكاملة فالانتصار يحدث لا محالة، غروره الكبير صّور له أشياء بعيدة، ليس معني أن اللعبة تستمر أنه يلعب، ليس معني أن القطع المستديرة تتحرك والأبيض منها ينتصر تارة على الأسود والأسود تارة على الأبيض أن أحدًا ما يلاعبه، لا شيء يحدث على الكرسي المقابل، لا شيء يحدث إلا فى خياله، القطع تتحرك وهو ينتصر والفجوة بينه وبين الحياة كبيرة كالتي بينه وبين حقيقة أنه ليس ثمة من أحد يلاعبه، يكذب باتقان شديد والكذب جميل.
المقهي فى شارع صغير متفرع من شارع صغير ممتدد بطول أحد شوارع الاسكندرية الرئيسية، وهو ساكن فى الجوار مع أسرته، لا شيء يحدث فى عالمه الصغير، الوضع هاديء ويسمح بلعب الطاولة الخيالية كل مساء، مجنون صغير فى بدايات العشرينيات يبني حياته فى ضوء الفجر وهمًا يتبخر فى الغروب، الدوائر تحكمه، مغلقة ومُحكمَة وشديدة الاتساع بحيث يظن نفسه حر، القدر ليس لديه سلطة على المجانين يطلقهم للهواء والتيارات يمنحهم الوهم والوهم عكس السلطة التى يمثلها القدر، من الخيال سيبني المجنون بيتًا يسكنه! لا تحسدوا المجانين لا تتمنوا أن تكونوا مثلهم.
أنهي اللعب وقام، هام لنصف ساعة أخري فى الشوارع المحيطة ببيته، دوائر أخري يرسمها بخطاه، فلم يكن هناك مَن يمنعه من الخروج، لكنه وبكامل وعيه لا يخرج، لا يخرج من الدائرة المرسومة لأن الخروج خطير، البيت، القهوة، الشوارع المحيطة بالبيت، صديقه الوهمي الذي يلعب معه الطاولة، كل شيء مريح هنا ودافيء ووهمي، الخارج مخيف، أنا هذا الخارج المخيف! يقولون أنني مجنون ويهابون المنطقة التي اسكنها، يقولون أنني قتلت أحدهم فى الماضي وأنني لم أُعاقب لأنني مجنون، لا أستطيع تصديقهم، فليس ثمة من دليل على ما يدعون، كان هذا المجنون الأخر الذي يلعب الطاولة مع ذاته يخافني تمامًا مثل أهل المنطقة، يقولون أنني اغتصب كل ما أراه، أسرق وأقتل وأنشر الرعب رغم أنني شاعر صغير، قذفت بيا الحياة هنا وسط أولئك الحمقي الذين لا يدركون الوضع. لم أكن أعلم اسم هذا الشاب العشريني لذا سأدعوه بالسيد كاف، أحب مراقبة تحركاته القليلة فى المنطقة المحيطة بالقهوة المقابلة لشقتي الصغيرة، وكنت أراه من كوة صغيرة أعلى باب المقهي يجلس وحيدًا يلعب الطاولة، للنرد مغزي! للنرد قوة سحرية، القواعد المعتمدة على الصدفة! كل لاعبي الطاولة يعرفون قواعد اللعبة لكنهم لا يعلمون أن قواعدهم لا يمكن تتطبيقها إلا اعتمادًا على هاتين القطعتين المكعبتين، النرد! الصدفة والقواعد، القواعد التى لا يمكن تتطبيقها إلا إذا كان النرد مواتيًا، قويًا، حقيقي وموجود، أنا النرد الذي سيحدد من يكون السيد كاف.
جلست اليوم كالعادة قرب الشباك أراقب الشاب الصغير وهو يشرب القهوة ويلعب، ورحت أفكر أنه وربما يترصدني، ليس منطقيًا أن يلعب النرد وحده، وكل يوم لسنة تقريبًا، هل يدرس تحركاتي القليلة جدًا، فأنا لا اخرج مطلقًا تقريبًا ورغم ذلك المنطقة كلها تلعب على وقع تحركاتي، مساء الجمعة اخرج عادة لشراء ما احتاجه فى الأسبوع، الشوارع هادئة وفارغة، الأطفال الذين يلعبون عادة على مبعدة من البيت الذي اقطنه يختفون، يصبح الأمر كأن الشتاء هجم فجأة فى غير موعده وبدون مقدمات، لكنني لا اهتم لأنني اعرف بالتحديد ما الذي يدور فى أذهانهم المتخلفة، أنا قاتل بنظرهم، أحيانًا اعتقد أنهم على حق، أحيانًا أظن أنهم يعرفون أكثر مني، هل حقًا يعرفون أشياء لا اذكرها؟
السيد كاف خرج من المقهي، ظننت أنه عاد للمنزل لأن اليوم الجمعة والأن هو الموعد المعتاد الذي اخرج فيه، ارتديت معطفي لعله يمنع النظرات الصغيرة التي أشعر بها من خلف النوافذ المغلقة، معطف شتوي أسود طويل ارتديته رغم أننا فى منتصف الصيف، لم أكن أهتم بكون المعطف فى الصيف سيثير السخرية وسيؤكد الظنون، لكنني لا أريد لعيونهم الوقحة أن تقتحم جلدي الرقيق، السوبر ماركت ليس بعيد عن البيت، عادة ما يهجره العمال كلهم ما عدا سيدة عجوز جدًا يسلمونها الكاشير لتحاسبني، لماذا لا تخافني تلك السيدة كالجميع؟ دخلت السوبر ماركت وسحبت العربة الحديدية وبدأت فى التجول، معلبات كثيرة، قهوة ونيسكافيه وشاى، بطاطس وبعض المجمدات، زيت وسكر، أشياء عادية، ابتسمت لى العجوز حين وقفت أمامها وحيتني بهمهمات مبهمة لم استطع التقاط معانيها على أى حال، راحت تُمرر ما اشتريته أمام قارئ الباركوود التعيس، وصوت الماكنة يرن فى الفضاء المحيط بنا ويتردد الصدي، “الحر لا يطاق” قالت العجوز دون أن تلتفت للمعطف، ابتسمت ولم أجب فقد كانت تلك أول مرة يخاطبني أحد مباشرة منذ زمن، فكرت فى أنني ربما أكون قد نسيت الكلام! هل من الممكن أن ينسي أحدهم الكلام؟
لم أكن استطيع سوى الابتسام، ابتسمت لها وخرجت، رأت السيد كاف واقفًا أمام باب المتجر على الجهة الأخرى من الشارع، يا لليوم الغريب! العجوز كلمتني وابتسمت وها هو السيد كاف أمامي، ما الذي من الممكن أن تكون رغبته؟ هل قرر أن ينفذ خططته اليوم؟ لماذا اليوم؟ فلننتظر حتى الجمعة القادمة، فأنا أريد أن انتهي من بعض القصائد التي بدأتها، قررت أن أطلب منه أن ينتظر، عبرت الطريق واتجهت نحوه بهدوء وثبات فلم أكن أخاف الموت، فقد كنت اتمني زيارته منذ زمن فى وحدتي، الشارع مظلم وبالكاد أري السيد كاف فى بقايا الضوء المنبعث من المتجر خلفي، اتجهت نحوه وعلى وجهي ابتسامة وفكرى مشغول بالجملة التي يجب أن أقولها له، وقفت بجواره مباشرة وهمست “هل من الممكن أن تقتلني الجمعة القادمة، فلدي بعض الأمور أود إنهاؤها”. بدا السيد كاف متسمرًا فى موقعه لا يلتفت، يبدو أنه تفهم موقفي وسيقوم بتأجيل الخطة حتي الجمعة المقبلة.
انصرفت مسرعًا وعدت إلى البيت! سأنهي كل خططي المعلقة بخصوص الكتابة استعدادًا للموت، وكتبت تلك الورقة لا لأحدد القاتل، بل لعلني ضللت الجميع بالحديث عن السيد كاف، أحدهم سيقتلني الجمعة القادمة، بعد ثلاثة أيام! ادعوه أنا بالسيد كاف، يقطن نفس الشارع ويرتاد قهوة تقع مقابل البيت الذي اقطنه ويلعب النرد مع ذاته.
مرحبًا، أنا السيد كاف، اليوم هو الخميس، لقد قتلت المجنون!
سأسرد التفاصيل ليس بمقدور القتيل كتابتها الأن، الخميس فى الخامسة وست وثلاثون دقيقًا، دخلت الشقة عن طريق الباب، فالقتيل يعرفني جيدًا، فهو من أخبرني بأنه علىّ قتله، اتفق معي بأن الجمعة يوم مناسب، لكنني قررت أن أقتله الخميس لأخفف عنه وقع المشهد الأخير، لا أريد جعله يحيا فى انتظار اللحظة الحاسمة، الخميس ملائم دامًا، طرقت الباب ففتح، أخبرته أنني أتيت للاتفاق معه على اللمسات الأخيرة، كيف تريد أن تموت؟ سألته رغم أنني حددت مُسبقًا الطريقة التى أود قتله بها، فرغم أنه مَن طلب مني قتله إلا أن للقاتل حق حصري فى تحديد طريقة القتل، أخبرني أنه يريد الموت حرقًا، قال كلامًا كثيرًا لا اذكره عن هيبة الاحتراق، عن مجد المحروق، كلام مجنون كثير وغير مهم على الإطلاق!
ابتسمت واخبرته أنني سأنفذ ما طلبه بالحرف، طلبت منه استخدام الحمام، اعددت كوبي شاى وعدت، “هل تمانع أن نشرب كوبي شاى؟” ابتسم وقال لا، منحته كوبه فتجرعه، سم.
سم، نعم قتلته بالسم! طريقة مبتذلة وليس فيها أى نوع من العظمة التى كان يتحدث عنها، الموت واحد يا عزيزي، وجدت تلك الورقة وقررت أن أضيف عليها بعض التفاصيل الناقصة ووجدت قصيديتين يبدو أنه لم ينهيهما بعد، لا يهم فربما هاتين القصيدتين ستنتشران أكثر فهما أخر ما كتب الشاعر الكبير المقتول! يا لها من عبارة جيدة للترويج لديوان. سأرحل الأن

السيد طه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى