عبد القادر وساط - الطاغية يرى حلما غريبا

جاء في كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا أبو الحسن أيوب بن زياد المدائني قال: حدثنا أبو الفضل النجداني قال:
أخبرني الشيخ أبو الحسين العسقلاني، الملقب بظل الحجَر، قال:
كنتُ وزيرا للغة والمعاجم في حكومة نجدان، فاستيقظتُ مرة على وقْع سنابك الخيل وهي تقترب من بيتي في الهزيع الأخير من الليل، ثم سمعتُ طرقا شديدا على بابي و صوتا يناديني بحدة: " أجب الطاغية حالاً أيها الوزير " فلبست ثيابي على عجل وسرتُ مع الشرَط وأنا أسأل الله حسن العاقبة، فلما مثلتُ بين يدي المستبد بالله حييته بتحية الطغاة، فتجاهلني ولم ينظر إلي، وبقيَ ينظر في كتاب بين يديه، يقلب أوراقه بيمناه، ويحرك مروحة ً بديعة بيسراه، فلبثتُ واقفاً أمامه، وصاحب الشرطة ينظر إليّ شزرا وقد وضع يده على مقبض سيفه، وأنا لا أدري هل دُعيتُ لأمر عابر أم لشر مستطير. فبينما أنا على تلك الحال، إذ رفع المستبد بالله رأسه وخاطبني بقوله:
- أخبرني، أيها الشيخ الوزير، أتروي القصيدة الكافية لعبيدالله بن قيس الرُّقَيّات في عائشة بنت طلحة؟
قلت:
- نعم يا مولاي الطاغية، هي القصيدة التي يقول في مطلعها:
إنّ الخليطَ قدَ ازْمَعوا تَرْكي = فوقفتُ في عرصاتهم أبكي
ومنها قوله:
جنية برزتْ لتقتلَني = مطلية الأصداغ بالمسك
عجباً لمثلك لا يَكون لهُ = خرجُ العراق و منبر المُلْك
فنظر إلي المستبد بالله عند سماع الأبيات نظرة منكرة ثم قال:
- فاعلم أني دعوتك في هذا الوقت من الليل بسبب حلم غريب رأيتُه الليلة، وسمعتُ خلاله جانبا من هذا الشعر.
قال الشيخ ظل الحجر:
فلما سمعتُ كلام الطاغية ذاك، انحنيتُ أمامه وقلتُ له:
- خيرا وسلاما إن شاء الله.
قال الطاغية:
- رأيتُني وحيدا أمشي في روضة معشبة، ينطبق عليها قول الأعشى:
ما روضة ٌ منْ رياض الحَزْن معشبة ٌ = خضراء جادَ عليها مُسْبلٌ هَطلُ
وكنتُ راجلاً لا مطية لي، فبقيت أمشي مستمتعا ببهجة الربيع من حولي، إلى أن بلغتُ بُحيرة يعجز عن وصفها اللسان، تحيط بها النباتات والأشجار ويملأ فضاءَها غناءُ الأطيار، وإذا غادة حسناء ترتدي غلالة خفيفة وتجلس وحيدة على ضفة البحيرة وقد غمستْ ساقيها في الماء، ولم أر إنسيا آخر سواها في ذلك المكان، فلما اقتربتُ منها سمعتُها تغني كأجمل ما يكون الغناء:
جنّية ٌ برزَتْ لتقتُلَني = مطلية ُ الأقراب بالمسْكِ
فوقفتُ غير بعيد، خلف شجرة وارفة أستمع لغنائها العذب من حيث لا تَراني، فلما لم أعد أستطيع صبراً اقتربْتُ منها فسلبني حسنها ولكني تماسكت وسلمتُ عليها فردت علي السلام كأحسن ما يكون، ولم يبد عليها أنها ارتاعت مني، فقلتُ لها:
- يا ستّ الحسن والبهاء، والله ما رأيتُ مثلك ولا سمعتُ مثل غنائك قط، فما اسمك رعاك الله؟
قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها:
- اسمي إدام.
قلت:
- فأخبريني أيتها البهية، أمنَ الإنس أنت أم من الجن أم بين ذاك، فإني تذكرتُ عند رؤيتك قولَ بشار بن برد:
حوراء إنْ نظرتْ إلك = سقتك بالعينين خمْرا
و كأنّ تحت لسانها ها رو = ت ينفث فيه سحْرا
جنية إنسية أو = بين ذاك أجلّ أمرا
فابتسمتْ ولم تجب، ثم إني استأذنتُها في الجلوس فأذنتْ لي بحركة من يدها وبقيتُ أحدثها و تحدثني وأضاحكها وتضاحكني، وأنا مع ذلك خائف أن يداهمنا شخص غريب وليس لي سلاح أذود به عن تلك الغادة العطبول، ثم إني سألتها قائلا:
- يا إدام، أتسمحين لي بسؤالك عن بيت عبيدالله بن قيس الرقيات الذي سمعتُك تتغنين به قبل قليل، فقد سمعتُ منك ( مطلية الأقراب بالمسك ). أما نحن في نجدان فإننا نروي ( مطلية الأصداغ بالمسك.)
فنظرتْ إليّ الغادة الحسناء بنوع من الاستغراب ثم قالت:
- وكيف يكون ذلك يا سيدي، وأنا إنما أروي البيتَ عن عالم من علماء نجدان، هو شيخي الجليل محمد بن الحسين العسقلاني، الملقب بظل الحَجَر. بل إنني سألتُهُ مرة عن معنى الأقراب في قول الشاعرالرقيات:
(جنية برزتْ لتقتلني = مطلية الأقراب بالمسك )
فأجابني بما معناه: " الأقراب جمع قرب و هو الخاصرة."
قال الطاغية:
فلما سمعتُ الحسناء إدام تَذكر اسمك، أيها الوزير، وتنسب إليك رواية ( الأقراب) عوض ( الأصداغ) قلت في نفسي كيف يكون ذلك؟ وكيف يُروى بيت الرقيات بهذه الكيفية في بلاد نجدان دون علمي؟ وهكذا بقيت أتساءل وأتساءل وأعيد، إلى أن فسدَ عليّ حلمي واختفت إدام و زالت البحيرة فأفقتُ من نومي وأمرتُ باستقدامك في الحين.
قال الشيخ ظل الحجَر:
فأسقط و الله في يدي، لما سمعتُ كلام المستبد، وأدركتُ أني إما هالك أو معتقل أو منفي، ووقفت أنتظر ما يقرره الطاغية بشأني، وساد صمت رهيب إلى أن سمعته يقول:
- إنك تعلم، أيها الشيخ، أني لا أرى في أحلامي إلا أشخاصا حقيقيين وأحداثا وقعتْ بالفعل. ومعنى ذلك أن إدام موجودة فعلا وأنك تعرفها وتعرف مكانها. وليس يعلم إلا الله كم حفظتْ على يدك من القصائد برواية غير الرواية الرسمية المعتمدة في نجدان. وإني أمنحك مهلة يومين كي تدلني على مكان تلك الفتاة، فإن لم تفعل فسوف يحيق بك المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله.
قال الشيخ ظل الحجر:
فعدتُ إلى بيتي في تلك الليلة المشؤومة وقد اسودت الدنيا في عينيّ، وقلت لنفسي: " قد يحتاط المرء لنفسه من نزوات الطاغية في اليقظة و لكن كيف يأمن نزواته في الأحلام؟"
ثم إني لزمت بيتي يومين كاملين لا أكلم أحدا ولا أقبل على طعام ولا يغمض لي جفن، إلى أن جاء رجالُ المستبد لتسييري إلى جزيرة دهلك، حيث قضيت خمس سنوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى