عباس محمود العقاد - لغة عالمية

تجدد في هذه الأيام نشاط الدعاة العالميين إلى تعميم لغة واحدة بين أمم الحضارة، لتصبح في يوم من الأيام لغة النوع الإنساني كله، أو لتصبح - على الأقل - لغة إضافية يتفاهم بها أبناء الأمم جميعاً، إلى جانب لغاتهم القومية، إذا تعذر الأنفاق على لغة واحدة تغني عن جميع اللغات

وهذه الدعوة تتجدد في أيام الدعوة إلى السلام، وهى أرفع ما تكون صوتاً وأبعد ما تكون صدى في أعقاب الحروب العالمية؛ لأن الناس يشعرون في هذه الأوقات بعواقب التفرق والانقسام، ويستمعون إلى كل نصيحة يرجون منها منع الحروب وتقريب الشقة بين بني الإنسان، في اللغة والعقيدة والعصبية القومية

ومن تقديرات هؤلاء الدعاة أن التفاهم بلغة واحدة يقضى على سبب من أسباب سوء التفاهم بين الأمم، فلا يقع بينها هذا التنافر الذي يثير الفتنة وينفخ في نيران العداوة، ويفرق الناس شيعاً في القلوب كما تفرقوا شيعاً في الألسنة واللغات

ومن البديه أنهم يقدرون إمكان النجاح في هذه المحأولة، ولا يسلكونها في عداد المستحيلات الممتنعة على جميع المحاولات

ونشاطهم اليوم أقوى من نشاطهم في السنوات الماضية، فقد شهدوا أمم العالم تجمع مندوبيها في صعيد واحد، وقد بلغوا في عهد عصبة الأمم المنحلة أن تعترف العصبة (سنة 1927) بأشهر اللغات العالمية وهي (الاسبرانتو) التي سمعنا عنها كثيراً في البلاد العربية. فإذا بلغوا في عهد الأمم المتحدة أن يتكلم المندوبون بهذه اللغة، أو يتكلم أحدهم بها ويفهمه بعض زملائه، فهي خطوة مفلحة في سبيل التعميم، وقد تتبعها خطوات تشترك فيها الحكومات وتنتظم فيها الشعوب

فالمجلات التي كانت تطبع بلغة الاسبرانتو ثم احتجبت في السنوات الماضية تعود الآن إلى الظهور، والمجلات التي ضاق نطاق انتشارها توسع هذا النطاق جهد ما تستطيع، ولا تكتفي الجماعات الدولية بمطبوعات هذه اللغة فتعقد الاتفاقات بينها وبين المجلات المشهورة على تخصيص أقسام منها لتعليم (الاسبرانتو) ونشر المترجمات إلى هذه أقسام المجلة الأخرى التي تنشر بلغتها القومية، وتتوالى الدعوات إلى عقد المؤتمرات السنوية كما كانت تنعقد منذ أربعين سنة بغير انقطاع فيما عدا أيام الحروب. وقد كانت للاسبرانتو مؤتمرات سنوية شهدها أربعة آلاف مندوب من أرجاء العالم في بعض السنين، ولهم أمل في ازدياد هذا العدد خلال السنوات المقبلة، ولهم أمل أهم من ذلك واجدي على اللغة بين أمم الحضارة، وهو أن يظفر كتاب أدبي من كتب الاسبرانتو بجائزة (نوبل) أو بجائزة من قبيلها، ولا يسمحون بترجمة بعد ذلك إلا إذا اقترنت الترجمة بنصوص الكتاب الأصيل

ومما لا شك فيه أن الاتفاق على لغة عالمية إضافية مفيد في عالم السياسة والمال، ومفيد في السياحات والمقابلات بين الغرباء.

ولا شك كذلك في سهولة الاسبرانتو على المتعلم بالقياس إلى جميع اللغات التي عرفت إلى الآن، لأن كلمات اللغة تكتب كما تنطق، وقواعد النحو فيها قليلة لا يعرض لهل شذوذ، ولا يعسر على قارئ من القراء أن يحفظ جذورها جميعاً وأن يتصرف في الاشتقاق منها على حسب القواعد المعدودة بغير مشقة وبغير حاجة إلى مراجعة، فهي لغة على المتعلم بلا خلاف

ولكن الشك كل الشك في الأساسين اللذين يقوم عليهما بناء اللغة والرجاء في جدواها، وهما إمكان التعميم ومنع الخلاف بهذا التعميم

فموضع الخطأ الأكبر في تقدير هؤلاء الدعاة حسبانهم أن اللغة وسيلة تفاهم وكفى، ولا شأن لها قبل ذاك ولا بعد ذاك.

والواقع كما نشهده أن اللغة (كائن عضوي) يمتزج بكيان الأمم في ماضيها وحاضرها، ومستودع حيوي لما يجيش في نفوسها وعقولها من فكر وأمل وعاطفة واعتقاد

ومهما يبلغ من أنصاف الدعاة المشغولين بالسلام وتوحيد الشعوب، فلن يستأصلوا من نفوسهم تمييز على جنس ولسان على لسان، وآية ذلك أنهم قصروا جذور اللغة العالمية على مصادر اللغة اللاتينية ومشتقاتها، فليس فيها حساب للعرب مثلا ولا لأهل فارس أو الهند الصين

ونحسبهم لو استطاعوا أن يلحظوا اللغات كافة في جذور لغتهم لما ضمنوا بذلك توحد اللغة، ودوام التوحيد فيها مائة سنة متوالية، ولا نقول بضع مئات

وتاريخ اللغة العالمية شاهد على ذلك يغنينا عن ترقب حكم المستقبل البعيد أو القريب

فقد ظهرت أول لغة عالمية في سنة 1879 قبل إعلان الاسبرانتو بنحو تسع سنوات

وقد وضع تلك اللغة قس ألماني يسمى وأطلق عليها اسم (الفولبك) منحوتاً من كلمات إنجليزية وجرمانية معناها لغة العالم

فلم تمض 1887 حتى أعلن الدكتور الروسي لغة عالمية أخرى هي لغة (الاسبرانتو) التي كان لها من الذيوع في أوربة وأمريكا أو في نصيب

ولم تمض سنة 1900 حتى رأى بعض أنصار الاسبرانتو أنها محتاجة إلى تعديل؛ وادخلوا عليها هذا التعديل في النطق والهجاء فعرفت باسم لغة (الايدو) وهي الكلمة التي وقع بها مقترح التعديل اسمه عند جمع الأصوات

حاول أصدقاء الفريقين أن يرابوا الصدع بينهما، فاقترحوا توحيد اللهجتين باسم (الاسبرانتو) تركيباً مزجياً من الاثنتين، فلم يفلحوا في التوفيق، وأسفرت المحاولة في اقل من أربعين سنة عن ثلاث لغات أضيف إلى اللغات المتفرقة، فزدات ولم تنقص بمحاولة التوحيد

ويحدث هذا في كل محاولة يراد بها جمع البشر كافة إلى لغة واحدة أو عقيدة واحدة أو تفكير واحد، وشوهد ذلك عندنا في الشرق المعروف، وفي العصر القريب

فالباب قد أراد في القرن الماضي أن يفسر الكتب الدينية تفسيراً يقبله المسلمون والمسيحيون واليهود ويجمع به الأديان الثلاثة إلى كلمة واحدة ينحسم فيها الخلاف، فلم يمض على دعوته عمر رجل واحد منها حتى كانت (البابية) نفسها ثلاث شعب لا تدين واحدة منها بإمامة الشعبة الأخرى، فلم تتوحد العقائد بل زادت عقيدتين مع الدين الجديد

وحاول القادياني في الهند مثل هذه المحاولة فلم يسلم الروح حتى اصبح الأحمديون شعبتين متنازعتين تدين إحداهما بنبوة الإمام وتنكر الأخرى عليه النبوة وتنعته بلقب الاجتهاد والإمامة وافترض اتباعه قبل أن يوحدوا الاديأن، وقد تنقسم الفرقة إلىفرق والشعبة إلى شعب. دون أن يتحقق المقصد الذي نزعوا إليه.

والاسبرانتو على هذا القياس ستصبح لهات ولهجات قبل أن نتفق على لغة واحدة إلى جانب اللغات القومية. أما أن تزول هذه اللغات القومية جميعاً فذلك تقدير بعيد، بل جد بعيد.

والخطأ في التقدير الأخر أن نرجع بأسباب الحروب إلى تعدد اللغات، وأن نعتقد أن توحيد اللغة يزيل تلك الأسباب، أو يزيل سبباً قوياً منها أن لم يزل جميع الأسباب.

فإن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغة الواحدة لا تقل عن الحروب التي وقعت بين أبناء اللغات المختلفة، وأمثلة ذلك ظاهرة في تواريخ الرومان واليونان والعرب والصقالب والجرمان والإنجليز، وأبناء الهند والصين.

ونحن إذا رجعنا إلى الحروب بين أبناء اللغات المتعددة لم نستطع أن نردها جميعاً إلى انقطاع التفاهم بين أمة منها وأمة، أو بين زعماء الأمة الذين يقودونها إلى الحرب وزعماء الأمم التي يحاربونها. فربما فهم كل فريق منهم ما يريده الأخر ووقعت الحرب بينهم لأنهم (يفهمون) لا لأنهم لا يفهمون.

فإذا خطر لنا أن تعميم (الاسبرانتو) يعمم الوفاق ويقضي على أسباب الشقاق فليس في حوادث الماضي ولا في حوادث الحاضر ما يعزز هذا الخاطر بدليل.

وغاية ما يرجي من تعميم لغة إضافية بين أبناء النوع الإنساني أن تتيسر بينهم المعاملات ويستفيد العارفون بتلك اللغة من سهولة قواعدها فينقلون تلك القواعد شيئاً فشيئاً إلى لغاتهم القومية التي تحتاج إلى تعديل.

أما امتناع الحروب فليس سبيله توحيد الكلام، بل توحيد البواعث التي يعبر عنها الكلام، وتوحيد هذه البواعث مستطاع في ناحية واحدة على وجه التقريب لا على وجه الشمول والإطلاق، وهذه الناحية هي ناحية المثل العليا للأخلاق والقيم والأقدار. فإذا أعجب الناس بفضيلة واحدة واشمأزوا من رذيلة واحدة وتكلموا بألف لغة فذلك ادعى إلى التقارب بينهم من لغة واحدة يتكلمونها وليس بينهم وفاق في مواطن الاستحسان والاستنكار، وليس لهم مقياس واحد يقيسون به أعمال الدول والرجال.

وآية ذلك أن اتجاه الناس إلى وحدة المقاييس الخلقية يطرد في مراحل التقدم والحضارة، ولم يكن تفرقهم في مذاهب اللغة والرأي مناقضاً لا تجاه التقدم والحضارة في عصر من العصور.

عباس محمود العقاد



مجلة الرسالة - العدد 697
بتاريخ: 11 - 11 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى