نجاتي صدقي - أمثولة قصصية...

زارني صديق أديب وقال لي: أنني أميل إلى كتابة القصة، لكنني غير متمكن من قواعدها، فهل لك أن تعينني على ذلك؟ أرشدني إلى اساليبها، واطلعني على كيفية بنائها، وكن على يقين من إنني لن أنسى لك هذا المعروف ما حييت.

فأجبته: القصة فن قائم بذاته يا صديقي يعتمد بالدرجة الأولى على مواهب القاص، ودقة إحساسه، ومستوى ثقافته، ومدى اختباره للحياة، وعلى ذلك تراني عاجزاً عن تلبية رغبتك.

قال: إنني درست بعض قواعد القصة، وقد رسخت في ذهني، لكنني لم أوفق بعد في وضع قصة قوية في عقدتها، مثيرة في خاتمتها.

قلت: إذا كنت درست فن القصة، فكيف تحدده؟

قال: أستنادا إلى ما رواه أبو العباس الشريشي في (شرح المقامات الحريرية)، (فالقصة هي نقل الحديث من صاحبه إلى طالبه). . . وجاء في مقدمة كتاب (جمع الجواهر في الملح والنوادر) لأبي إسحاق الحصري القيرواني: (أن القصة هي التي ترتاح إليها الأرواح، وتطيب لها القلوب، وتشحذ بها الأذهان، وتطلق النفس من رابطها فتعيد بها نشاطها إذا ما انقبضت بعد انبساطها). . . وقال بديع الزمان الهمذاني في (المقامات): (وربما كان للقصة سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها فعلى المحدث أن يسوقها).

قلت: إن ما ذكرته لي من أقوال في القصة لأدباء العربية الأقدمين لا يساعدك على وضع قصة. . . فللقصة العصرية خمس قواعد فنية دقيقة هي: الصدر، والعقدة، وتطور الأحداث، والقمة، والخاتمة.

قال: اضرب لي مثلا في مادة تصلح لأن تؤلف قصة، وطبق عليها هذه القواعد، مرحلة فمرحلة.

فارتجلت هذا المثل البسيط: كان لعزيز جار، وكانت علاقتهما جد سطحية، لا تتعدى تبادل التحيات في الصباح أو المساء، والتبريك في المواسم أو الأعياد، لكنهما كانا يجتمعان في كثير من الأحايين في حلقة ذكر، أو حفلة مولد، أو فرح بمناسبة عقد قران، أو طهور أطفال، حتى وفي هذه الاجتماعات العامة كانت علاقتهما لا تتجاوز التحية أيضا، والسؤا عن الطقس، والأحوال العامة، والثناء على صاحب الدعوة، والتنويه بكرمه ولطفه.

وفي فجر أحد الأيام، استيقظ عزيز كما استيقظت الحارة كلها على عويل صبايا، وصراخ أطفال وولولة عجائز، فعلم من ذلك أن أسرة من الأسر أصيبت بمكروه، فاطل برأسه من النافذة، فشاهد رؤوسا كثيرة تطل من نوافذها أيضا، متتبعة مصدر الأصوات، مستفهمة عما حدث. . . وبعد قليل من الوقت نمى إلى عزيز أن جاره قضى نحبه، فتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله. . . إنا لله وإنا إليه راجعون.

ورأى أن الواجب يدعوه لان يسير في جنازة جاره عملاً بالتقاليد المرعية منذ قرون فتعطل عن عمله في ذلك النهار، وخرجت الجنازة حوالي الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً، وسار عزيز خلفها، وكان الطقس حارا، والشمس تسطع في كبد السماء، وبعبارة أخرى كان ذلك في العشرين من تموز (يوليو)، وكانت درجة الحرارة وقتئذ تشير إلى الأربعين سنتيغراد، وهي الدرجة التي يكتب في الموازين إزاءها كلمة (سنيغال). . . أي ما فوق حرارة الإنسان.

سار عزيز خلف نعش جاره وسار إلى جانبه شخص لا يعرفه، ولما كانت المقبرة تقع على مسيرة نصف ساعة رأى ذلك الشخص أن يقطع الوقت بالتحدث إلى عزيز، فأستهل كلامه قائلا: حر لا يطاق!. . . فأجاب عزيز: جهنم. . .

- إن عزرائيل لا يرحم!. . .

- لا يرحم المشيعين فقط. . . أما الميت، فسيان عنده الحر أو البرد.

- أنت تعرف المرحوم؟. . .

- أعرفه معرفة سطحية مع أننا جيران. . . غير أن المشهور عنه في الحارة إنه كان دمث الأخلاق.

وهنا أعترضت الجنازة سيارة شحن فعرقلت حركة المرور، وسدت الطريق على باقي السيارات فاختلطت مع بعضها، مما اضطر المشيعين إلى الوقوف مدة عشر دقائق. . . وكان عزيز يكاد يجن من شدة القيظ فتارة يجفف العرق المتصبب من وجهه بمنديله، وتارة يضع هذا المنديل على راسه، ويغطيه بطربوشه، وطورا يرفع الطربوش والمنديل ويضع راحته على رأسه، وطورا آخر يغتنم فرصة وجود شخص ضخم الجسم يسير أمامه فيستفيء في ظله. . .

ثم تابعت الجنازة سيرها، وتابع رفيق عزيز حديثه قائلا:

السير وراء الميت رحمة. . .

فأجابه عزيز: لا شك في ذلك، غير أنني أفضل تشييع الجنازات بالسيارات.

- ماذا؟. . . بالسيارات؟. . . هذا لا يجوز أبدا.

- لماذا؟. . .

- لان الناس يستنتجون من ذلك أن المشيعين يريدون التخلص من الفقيد على عجل. . .

وبلغت الجنازة مسجداً في الطريق، فوقف المشيعون، وادخلوا النعش المسجد، ودخل بعضهم في أثره ليصلوا على روح الفقيد، وظل عزيز واقفا خارج المسجد وكان يحس أن رأسه سينفجر من شدة الحر، فيشرب ماء وبتحول هذا الماء في لحظات إلى عرق منهمر.

ثم يخرج النعش، وتتابع الجنازة سيرها إلى أن تصل المقبرة.

وبعد أن أنزل الميت في لحده، وروى التراب وقرأ الشيخ عبارات التلقين المعتادة، وقرئت سورة (الفاتحة) على روحه، وقف أهل الفقيد في صفوف طويلة ليتقبلوا التعازي، وكان عددهم يناهز الخمسين. . . ووقف الناس في صفوف طويلة أيضاً ليقوموا بواجبهم في التعزية. . . ولسوء حظ عزيز أنه كان يقف في آخر تلك الصفوف.

وبدأ الناس يصافحون أهل الفقيد، فردا فردأ قائلين: عظم الله أجركم.

فيجيبوهم: كرم الله سعيكم. . .

وبعد نصف ساعة على وجه التقريب، جاء دور عزيز في تأدية واجبه. . . وكان مظهره يبعث ألام في النفس.

وعاد إلى بيته منهوك القوى، وهو يشعر بدوران شديد، فانطرح على فراشه في شبه غيبوبة. . . وعند فجر اليوم التالي استيقظت الحارة على عويل صبايا، وصراخ أطفال، وولولة عجائز. . . فتساءل الناس عن الخبر فقيل لهم إن عزيزا قضى نحبه. . . وكان موته ناتجا عن ضربة شمس!. . .

قلت لجليسي: واليك الآن مقاييس هذه الأمثولة القصصية: الصدر: إن عزيزا له جار، وكانت علاقته به سطحية، لكنهما كانا يجتمعان في الحفلات والمواسم، فمات جار عزيز واقتضت التقاليد أن يسير عزيز في جنازته.

العقدة: إن التقاليد تقتضي أن يتحمل عزيز وطأة الحر الشديد، وكان يسير وراء النعش متبرما، غير راض عن تأدية هذا الواجب.

تطور الحوادث: اضطراب حركة المرور، وتوقف الجنازة عن المسير مدة عشر دقائق، والدخول بالميت إلى المسجد.

القمة: وقوف عزيز في صفوف المعزين وهو في حالة شديدة من الإعياء وانهيار القوى.

الخاتمة: موت عزيز:

أرتاح زائري لهذه الأمثولة في فن القصة، ونهض قائلا: سأحاول وضع قصة مبنية على هذه القواعد.

قلت: وفقك الله. . . ولكن لا تنس أن تتدبر المواهب!. . .

نجاتي صدقي



مجلة الرسالة - العدد 699
بتاريخ: 25 - 11 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى