سعيدة عفيف - قصَصٌ لم تُقرأ بعد..

"كل بقاء يكون بعده فناء لا يعول عليه، كل فناء لا يعطي بقاء لا يعول عليه"
ابن عربي


عاد للتو من جولته الصباحية التي يقوم بها كل يوم، ليتفقد ما يؤول إليه تدبير كل شؤون ضيعات ومؤسسات، وجد نفسه يوما مشرفا عليها ومهموما بتسييرها؛ ولا يمكنه في أي من الأحوال أن يتخلف عن أداء مهمته.
يضع حقيبته جانبا، ويقرر بسرعة أن يجلس على كرسي من بعض كراس تتوزع هنا وهناك، في الباحة الخلفية التي تنفتح عليها مكتبته الكبيرة، حيث يعنّ له أن يختلي للتأمل طويلا في سير هذا الكون على غير هدىً..
يفكر مليا في رفيقه الدائم: قلقُه المزمن، فيظهر على وجهه وفي كل تقاسيمه، بعض ذلك الحزن المقيم أبدا في عينيه، وعندما يعييه التأمل، يقرأ أحيانا ما دونته تلك الكتب القديمة منذ آلاف السنين.. يبتسم ساعتئذ ويتبدد شيء من حزنه الدفين. بل ويحدث أن يضحك عاليا من أعماقه ضحكا تهتز له بعض منحوتات من صنع يديه الماهرتين؛ والتي كانت على شكل كواكب ومجرات من حوله، يزين بها فضاء مكتبته. كما يضج بها مصنعه الصغير على مدار الأيام. ثم لا يلبث أن تنتهي ضحكاته إلى عبوس متجدد.
أكثر ما كان يسعده أن يقرأ قصص الأطفال بولع كبير، ويكتب أخرى من وحي خياله لأطفال لم يأتوا بعد؛ يستوحيها بأسلوب ساخر من بعض أحوال أمم كانت تصارع الطواحين لقرون، ولا تزال على حالها المزرية المغالية في الاقتتال والتطاحن، لأجل أفكار واهية كاذبة واطئة، أبطنت في جوهرها الصراع وحب السيطرة بين تلك الجماعات المتناحرة؛ فأحالت الحياة جحيما لا يطاق. كما يستلهم بعضها الآخر، من كل الطرائف الصغيرة أو الكبيرة التي تقع بكل أصقاع العالم، والتي يمكن لخيوطها أن تحيك نسجا قصصيا مميزا سيروق لأطفاله.
قصص سوف تبدو خرافات أسطورية لمن لم يعشها، ولمن سيقرأها من الأطفال القادمين. هو يعي ذلك جيدا. لهذا كان لا يترك شيئا يمكن أن يسعدهم ويفيدهم يوما في عدم ارتكاب نفس الأخطاء، إلا وينسج منه قصصه الخيالية الغريبة أحيانا.. همّه أن ينقل بصدق من صيرورة الكون وقضاياه عصارتَها، ويرضي ضميره في إيصال الرسالة كاملة، في قالب أدبي فني جميل. عسى أن يكون الآتي من الأزمنة بأفضل حال مما هو عليه الآن..
كان ولا يزال يحب الأطفال كثيرا، ومستعد أن يقوم لأجلهم بكل ما في وسعه، لا يضنيه في ذلك تطلب جهد ولا وقت. أما الكبار فقد أسقطوا عليه من ذواتهم ومن صفاتهم الكثير حتى ما عاد يتحمل. ومن شدة شغفه يحدث أن يصنعهم من مواد لدنة، من طين ومن أوراق ومن كلمات...
لكنه وفي أحايين أخرى، عندما يتفرس في كتب قديمة تكاد أوراقها تتلف وحبرها يبهت ويضمحل، يتذكر حالة الشجن التي تعاوده عبر العصور.. على إثر ما يصيبه في كل عصر من تشوهات في الصفات المثنية عليه والقبيحة والمغرضة التي لم يكن يرضاها. لكنها ألصقت به رغما عن إرادته، وأبعدته إلى حيث لا يمكنه أن يفعل شيئا، لأجل ما يستشري من رمد جعل الرؤية قاصرة خاضعة لنزوات ورغبات الأرباب المتسيدين والمستسيدين...
أحزنه كون بعض تلك الكتابات كانت تتحدث عنه كإله خالد لا تناقشه في صنعه أوفي ملكاته أو أفكاره، كما كانت تميته في نفس الوقت بشتى أنواع المقاصل لأزمنة عديدة، حسب أهوائها ودرجات احتياجها إليه أو الاستغناء عنه، متى كان ما يكتبه أو يبدعه ويوحي به لا يتوافق مع الرغبات والسياسات المتعارضة.
تذكر كيف حاول المفكرون في البدايات أن يخططوا لأفكار تستقطب بني جنسهم، عبر التوحد تحت لواء كلمة واحدة. وكيف أن كل تلك التجارب كانت تبوء في نهايتها بالفشل، لتصب في أفكار مغايرة. تذكر رغبات الناس البسيطة، التي تحولت إلى غول يلتهم كل من يعترض طريقه. وتذكر كيف انقسم الناس بعد التآلف، ناذرين وحدتهم للشتات.. لا يفتئون يعودون إلى ما يتعسهم منذ أن وُجدوا.. وتذكر وحدته الخالدة، وحزنه الأبدي في مكان قصيّ.. هكذا ليكون بعيدا مُبعَدا.. وألا يكون له دخل في كل ما يُحكى عنه من مرويات، بل عليه أن يواجه مصيره في كل الحكايا. كما لا يمكنه التدخل في كثير مما يجري في تلك الضيعات، وما يتناسل عنها من مشاكل مُفتعَلة.. فكم تمنى ألا يكون مشرفا على تسييرها، ليريح باله من هموم إدارتها التي لا تستقيم بين يديه أبدا، ولا حتى تحت رعاية وصيانة الوكلاء عليها، أولئك الذين انتدبوا أنفسهم للقيام بالمهمة كما يجب، ولأداء الرسالة على أكمل وجه...
أجفل حزينا، وتمنى لو يصنع كونه الصغير الخيالي كما يشاء، كونٌ يمضي في تناغم أبدي لا يعكر أيُّ دمار بديع صنعته. لكن الأمور لا ترجع إليه كاملة. كلما حاول أن يتفانى في صنعٍ ليأتي مكتملا، أجهضه المخربون كارهو الكمال والجمال، وسعوا به توّا إلى الإبادة. فأدرك لوهلة أن كل شيء من حوله قابل للتشظي، للتلاشي وللضياع.. غير أن تفوُّق يديه في صنع الأشياء، وتوقه الدفين إلى الخلق الفني ببراعة، لا يدركان معنى أن تتشظى الأكوان والعوالم، ولا أن تتكسر كل المصنوعات أو تتردى. ما دام يتوفر على قريحة خلاقة، ومواد أولية متنوعة لا تعوزه في تشكيل ما يريد، وفي الاستمرار بإصرار على الاستمتاع بموهبة الخلق لديه. وسيلتُه الوحيدة والمثلى في تجاوز وحدته المزمنة، وفي مخاتلة أزمنة خلوده التي ناءت به وتعب منها. إذ كلما تكسر طفل من أطفاله أعاد تركيبه وصنعه، كما يفعل بباقي الأشياء بعوالمه التي ينتشي باختراعها وابتداع تكوينها.. وهكذا، سيظل يجرب إلى أن يصل إلى صنع متقن لن تعبث به أيدي التدمير بسهولة، ولن تصيبه كل النوايا الملوثة بالوهن والزوال..
يوشك الآن على إنهاء قصة بدأ كتابتها من فترة وجيزة. حاول ما أمكنه ألا يستعمل عبارات سلبية، قد تبعث الأسى في قلوب الأطفال الصغيرة فيما بعد، والتي من شأنها أن تؤثر في شخصياتهم سلبا، فيكبرون مهزومين مهزوزي الشخصية، لا يقدّرون أمور حياتهم أحسن تقدير، ولا يحسنون الحسم في جل المواقف المتعلقة بقضايا رهينة بمصائرهم. فإذا تعلق الأمر مثلا بعبارات تفيد الاقتتال، والترهيب والتخويف والعقاب... وغيرها من العبارات والمعاني التي كان يكرهها كرها شديدا، اِستبدلها بعبارات فنية ترمز وتلمح إلى معنى آخر بعيد تمام البعد عن إتعاس الأطفال، مع الحرص على إمتاعهم وتعليمهم.
لم يرض أن يحشو أدمغتهم ويرهن حياتهم بعبارات تافهة، تلهيهم عما في الوجود من جمال ولذات ومعان وقيم إيجابية لن يتسنى لهم، متى أغفلوا عنها، أن يعيشوها بزمن وبمكان آخرَين. لأنه يدرك جيدا أن الكاتب الجيد كما الصانع الجيد، حمّال لقيم الخير والحق والجمال، وأن من مهامه الكبيرة أن يزرع كل ذلك في النفوس، بكل ما أوتي من موهبة وحنكة كي ينجح ويتفوق في رسالته.
غادر أكوام أوراقه قليلا، حشا غليونه الكبير بنسغ أفكار بدأت تتكون، وأضرم لها من روحه كي تنصهر جيدا، لتمنح نفسها في الحلة التي ينبغي أن تكون عليها، وسحب نفسا عميقا.. ثم أرسل نظرات متأملة حانية على كتبه وعلى تلك المجرات والكواكب التي ترصع كونه الصغير، وقال:
- لن أتوانى في صنع ما أريد كما أشتهي، ولن يهدأ فكري إلا وأنا أكتب ما يلزم أن يبقى ويخلد، لأدحض كل الكتابات السلبية المضمرة للسوء. حتى ما إذا وصل أطفالي يوما إلى هذا الجناح من المكتبة، سعدوا بقراءة ما دونته بمحبة كبيرة لهم.. لأخلُد معنى إيجابيا في أرواحهم...
ثم بعد عبارات قليلة همس بها لنفسه، كفّ عن الكلام، وعاد ليتوسّل برشفات من غليونه الملهِم.


* من مجموعة في انتظار حَبّ الرشادْ.. - 2015 - عن مطبعة سفي غراف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى