حسن المسعود - الخــط يستلهم الشعــر

الشعر والخط رافـقـاني منذ الطـفـولة في مدينـة الـنـجف، بدءً من ما تسمى ب دار السلام وهي إحدى اكبر مقابرالعالم، حيث كان والدي يد ير شركة نقـل للبضائع بجوار هذه المـقبرة. والتي كانت كمتحف كبير مليء بالتكوينات الغريـبة والخطوط المتـشـابكة، تأخذ الـقـبـور فـيها مظاهـر التـماثـيل المنـصوبة على سطـح من الـتراب الأمـلس، فـهنا قـبر يأخذ شــكل حــيوان يهــم بالنـهوض، وهـناك قــبر ابيــض طبعــت علـيه أشــكال أيــدي حمراء من الحنـة.
نعم متـحف كبير ينتـظر زوّاره الذين يأتـون أيام الزيارات أو ساعات الدفـن حيث نرى فيــه الناس يـتجمعـون أمام أحد القـبور، أما في بقـية أيام السـنة فـقـد كانت المـقبرة ملعبا لنا نحن الصغار حيث نلهو ونركض فيـها بأمان.

ولكن قـبل أن أبدأ الكلام عن أول ذكـرياتي في هذه المـقبـرة، لأصف مشهد مدخلها الذي سكن مخيلتي، إذ كانت هـناك ورشــة بدائيــة لتحضـير الصخور والأحجار ليُكتب عليها أسـماء الموتى، ولا يوجد أي شيء في هذه الغـرف الصغيـرة سوى بعـض الأحجار هنا وهناك ملقــاة على الأرض، وعـندما تأتي العائلة بالطـلب، يخط الحفار اسـم الفــقــيد وبعــض النصوص الديــنــية أو الحكم الشعرية بالطباشــير، ثم يجلـس على الحــجر شادا عليه برجلـيه بـــثـــبات وبــيديـه مطرقــته وآلة الحـــفر، ينــقر بمـهارة وبــسرعة على الفــراغ ما بـــين الحروف، الذي يتضاءل إلى اقــل ما يـــمكن كيلا تأخــذ العمـــلــية وقـــتا طويلا ، حيث الكل ينتــظر أمام الباب : الفــقـيد والمـشـيّـعون.

إن ظروف ذلك العـمل السـريع، أملت عـلى الحـفار ان يتحول بعـفوية الى مـــبدع تــــشــكــيلي، فان الإسراع يـفـرض عـليه إعادة خـلق الكلمات في كل صخرة ، فـشكل الحجـر وحدوده التـقـريـبـية ومدى كـبر وصغـر اسم الفـقـيـد وعـشـيـرته والعـبارة التي اخـتارتها العائلة، كل هذا يفرض عليه إعادة التـشـكيل مرات عديدة للكلمات والحروف. كذلك ان الضرورة بالسـرعة تدعـوه دائما إلى تـفضـيـل مسـاحات الـحروف والكلمات على الفـراغ الذي يتضاءل إلى اقل ما يمكن، لان عمله الحقــيقي هو نحت الفراغ بين الحروف كي تبــرز الكلمات، ولما كان الـموضوع يتــناول الإنــسان والمـوت والحيـاة الآخرة، وهي من صلب مواضـيع الفـنان التــــشكـيلي وهـمومه.

أجـد اليـوم أن أعـمال هؤلاء الحرفـيـــيـن تــندرج ضمــن الأعــمال الفــنـــية. وفي مــتحــف اللوفــر في باريس مـكان يحوي على عــدد كــبــير من أحجــار القـــبور الإسـلامــــية القــديمـة، لكونها تــتـميـز بجــمال الإخراج وقــوة التكوين ورشـاقة الحروف. وهكذا كنت شـاهدا على هؤلاء الفنانين في عمل حي أمام الجمهور، وفي اللحظات الأكثر عـمقا من الوجود الإنساني، لحظات عودة الإنسـان إلى التراب.

ولكني عـندما كنت أرى أعمالهم بعد ذلك في المقبرة وعن بعد، أشعر وكأنها تولـّد فيّ انطـباعا بالانغلاق. ولو نتخيل حروفهم أشكال بشـرية وليست كلمات، لأوحت لنا بمجموعة بشـرية سجـينة في غرفة مغلقة، وهذا ليس غريبا، لأنهم يعيـشون ما بين القبور الضيقة، وكل نتاجاتهم تعود للقبور.
عندما كنت صغيرا، ومازلت لحد هذا اليوم اكره الأماكن الضيقة وأحب الفضاء الشاسع. ان الفضاء الرحب لا يبـتعد كثـيرا عن هؤلاء المهنيــين في هذه الورشـة، بضعة أمتار تفصلنا عن بوابة المقبرة لا غير. وعندما أقول بوابة قـد يتصورها البعض كما الأبواب التي اعـتدنا رؤيتها في اكثر المقابر. لا لا إن مقبرة دار السلام هي مدينة كبرى ومداخلها كالشـوارع العريضة، وتقع خارج سور النجف في الشمال الغربي للمدينة.
والباب التي اعـتدت الدخول منها ما هي إلا فـتحة كبيرة في السـور القديم لمدينة النجف، وكنت اشعـر بسعادة غامضة أثـناء الاقـتراب من هذا المدخل. أحس أن حدوده اللاشكلية وكأنها تحتضنني، بينما كانت جدران الأبواب ذات الخطوط المسـتقيمة حادة وثقـيلة، وكان هذا المدخل كإطار كبير لمشـهد عظيم، فهو يطل على منحدر ينام فيه ملايـين البـشر حتى النهاية الممتدة نحو الأفق. سكون غريب، حقاً إنها دار السلام. دار الهدوء.

لست الوحيد الذي يحب تأمل هذا المنظر الهادئ، كان والدي يحب ذلك أيضا، كان ينهي الأعمال الصباحية المهمة، يأخذ بـيدي ونسـير معاً حتى سوق قريبة ليشـتري العنب أو التـين وبعد ذلك نتوجه نحو ذلك المدخل الكبير، حيث آلاف القـبور البـيضاء المحدبة كالخرفان المتحجرة الصامتة، ولا يكسر هذا الـتـناغم الذي يكاد يذوب في الأفق سـوى قبة صغيرة زرقاء أو قبر شخص ارتأت عائلته أن يكون قبره أعلى بكثير من القبورالأخرى.

تـقع النجف على هضبة تحدها الصحراء من كل جوانبها، لذا تبدو المقبرة كموجات بحر متكلسـة تـتدرج في الهبوط نحو اللانهاية. نحو الأفق البعيد، هذا الأفق المخـتلط بذرات الرمل الناعمة التي يحملها الهواء. تشـق السـماء في الصباح حرارة الشــمس المحرقة الهابطة على الصحراء، تلك الصحراء التي تنعم برياح الصباح الباردة. وفجأة تنهال عليها طبقات الهواء الحار كالمطر وتحوّلُ الأفـق إلى هالات ضبابية كالسراب. فتـبدو مواكب القـبور وكأنها آتـية نحونا، هاربة من الغـيوم الرملية و رافضة الانصهار فيها . ربما أن هذه الارتقاء نحو الأفق يجعل عيوننا تهـيمن على أوسع فضاء ممكن رؤيته، فضاء لا متـناهٍ، يبعث الراحة في النفوس.

يختار والدي مكانا في الظل بعيداعن الشمس المحرقة، فنـفـترش الأرض الجافة، وعلى مربع صغـير من القـماش يضع الفاكهة. ومع حبات العنب نغـيـب في صمت يفرضه المكان، تأمل مريح لازلت ابحث عنه هـنا في أوربا منذ سـنوات. وبعد فـترة زمنية من التـمتع بالصمت يشــير علي والدي بالنهوض، وكنا دائماً نعمل جولة صغيـرة حول القـبور القريبة. نتجول في الممرات الضـيقة بين القـبور، حيـث الهـدوء الذي يفرضه عـالـم الصحراء، يملأ قـلوبنا بالرغـد.

ورغم تـعـدد الأشـكال والمـناظـر في هـذه المـقـبرة فان عـيني كانت تـتجه دوما نحو الصخور التي خُـطـتْ عليها الحروف ونـُقـشـتْ بشـكل واضح، وخصوصا الـكتـابات التي عُمـلت بأسـلوب الثـلـث، والـتـي نقـشـت في المرمر الأبيض وصبغـت باللون الأسود. حتماً أن صانعيها خطاطـــون كـبار ولم تـُصنع في الورشـــة الصغيرة بمـدخـل المـقبـرة .

تـُعمل لبعـض القـبور شواهد جمـيـلة، وتــُخـط عليـها أشـعار تـحثُّ الـمارة على التأمل و التفـكير في الحكمـة. لم أكن آنذاك اعـرف القـراءة بعـد ولكن والدي كان يقـرألي بعـضها ويشـرح لي الهدف من ذلك، وهو التــفكير بالوجود البشــري. وما رسخ في ذاكرتي من تلك الكلمات الـقلـيلة هو شعـر محفور على المرمر الأبيض: بالأمـس كنـت حيـا واليـوم تحـت التــراب أتـذكر هذه المـقطع الذي كان له تأثـير كبيرعلي في ذلك الزمن.

النجف هي إحدى اكبرالمدن الشـيعية، يزورها الكثيرون من كل العالم الإسلامي ويدرس في مدارسها الآلاف من طلبة العلوم الدينية والأدبية. وفي كل سنة تقام فـيها عدة مناسبات دينـية وشعـبية. ذكرى أحداث تاريخية ، مواليد وأعياد. وأكـثرها تمثـل ذاكرة المدينة، وتاريخ الإمام علي وعائلته. فــتـتحول المدينة إلى مسرح ضخم، وكل سكان النجف والزوار يصبحون أما ممثـلين أو مشـاهدين في هذا العمل الفـني. وعندما يهـبط الليل تـُنار المدينة بالمـشاعل الكبيرة، وتتـماوج الرايات الكبـيرة في مهب الريح، يحملها أشـخاص يمثلون قبائل النجف والمناطق المحيطة بها. لكل محلة بيارقها وألوانها الخاصة. بعـض الرايات خُطت عليها عبارات أو أشعار فتـتحول إلى لوحات ترفرف في الهواء عاليا. لكل محلة شاعرها أيضا يقود الجموع وينشــد أشعارا، يردد الجمهور معه الأبيات الشعـرية ذات القافـية الموسيــقـية. فيـعــيد للأذهان الأحداث التاريخـية، ويذكرهم بالحروب القاســـية او الأفراح المبـهجة.

يفضل أهل النجف الشـعر المقـفى لسهولة حفـظه عن ظهر قلب. الشوارع والأسواق والساحات في كل محلات المدينة تتحول الى مسارح في الهواء الطلق تحت السماء المرصعة بالنجوم، نســير في الدروب الصغيرة لنكتــشـف فجأة في نهاياتها ساحة صغيرة مليئة بجمهور غفير، وهم جلوس على الحصير والسـجاد يعيدون مرددين ما يلقـيه الشاعر من أعلى المنبر.

يضع أهالي المدينة أقمـشة سوداء بخطوط بيضاء تغـطي جدران دورهم ودكاكـينهم، الخطوط غالبا ما تكون تكريماً للأئمة أو أشعارا أدبية وتربوية. كل خطاطي المدينة، مهنــيون كانوا أم هواة يساهمون بخط اللوحات على القـماش الأسود التي غـطت الجدران. وهكذا استطعت وأنا في سن الرابعة عشر عاما أن ألمح خطوطي على الجدران من بعيد.

في نهاية مراسم الاحتفالات، كنت أتكلم مع زملائي دائماعن الشعر والمراسيم المسرحية في المدينة، وهو ما نسميه هناك التشابيه، كما لو كنا نقاد أدب. نتداول هذه الأسئلة مثلا:

من كان أفضل شاعر لهذه السنة؟

وهل ابتكروا أو أضافوا شكلا جديدا للشـعر؟ وهل يقلد الشعراء بعضهم البعض؟

ونوجّه النقد اللاذع لبعض الشعراء لابتذال وضعف اختياراتهم الجديدة. حقا كان صعباً في ذلك الزمان ان يكون الإنسان شاعرا يحظى بتـقدير كبير في النجف. إذ لابد أن يثـير مشـاعر المدينة بأكملها. كل محلة تود أن يكون شاعرها في المقدمة وأن يكون هو الأفضل، وله القدرة على جعل الجمهور الغفـير المتدافع أن يذرف اكبر كمية من الدموع. ولما كانت هذه الاحتفالات تكرر سنوياً، لذا كان الطلب على الشاعر مشروطا بالتجديد، وان يقدم ما يذهل ويثــير الحماس من خلال نفــس المواضيع التي أعيدت مرارا وتكرارا في الســنين الســابقة.

الخط والشعــر رافــقاني أيضا في الدار مع خالي الخطيب والهاوي للخط، كان يكتب الشعـر أيضا، ولدية اختصاص بما يسمى: الشـعر العددي، وهو نوع من الشعـر كانت تـتداوله الطبقــة المثـقــفة في النجف، فكما هو معروف انه في الأبجدية العربـية كل حرف يعادل عددا. فيطلب البعض من خالي أن يؤلف لهم بـيتا من الشعـر يؤرخ فـيه ولادة أو زواج أو وفاة أو تكريم لشخص أو مناسبة ما. بطريقة لو تحسب كل الأعداد المعادلة للحروف فيظهر تاريخ الحدث الذي أُريدَ تخلـيدُه. بالنسـبة لي وعند الطفولة كانت هذه الطريقة تسحـرني باكـتـشاف سـر الحساب خلف شكل الحروف و الكلمات الشعرية.
وهذا الخال هو نفــسه الذي أيقــظ عندي الحب للخط العربي منذ الطفـولة.

سمعنا في المدرسة شعر ما قبل الإسلام ثم الفترة العباسية وأخيرا الشعر الأندلسي وشعراء معاصرين. إنها تركة ثرية من الصياغة الشعـرية للكلمات ، على قدر كبير من الجمال. ما قـبل الإسلام وفي الصحراء سجل الشعراء تاريخ القــبـيلة وأصل العائلة والمآثر والمعارك في شعرهم. وهكذا كان الشاعر في ذلك الوقت يمثل ذاكرة القـبـيلة. وكانت عندهم شاعرات كثيرات أيضا، مثلا هذه بنت لقيط بن زراره تـقول:

إن في الشعـر بعض العـوض ومسح المضض، إنْ فرحنا أنشـدناه وإنْ ترحنا رددناه ونحن أهـل البادية نلقى العافـية في وقع القافـية.

أما الشاعرة سليمى بنت المهلهل فتـقول:

لولا الشعـر لاحتـنوت الأرض لي مثـوى، أهون به عليّ وأحمله ما يثـقـل في جنبي، فأنا اردده ترديدا، لا أنافـس به غيري ولكني لا انفـّس به على فؤاد مكلوم ، اردده ترديدا ولا ابغـي مزيدا.

وكانوا يمتلكون الوقت الكافي لصقل أشعارهم، محاطين بفضاء واسع وهدوء وصفاء يحسدهم عليه سكان المدن. فالشعـر لديهم صياغة وضرب من التصوير كما يقول الجاحظ.
الشاعر ككل فنان يبحث عن التجديد لتطوير شعره، وإذا مر يوم يدرك فـيه انه لم يتـقدم ، يهيـمن عليه شعور بالغم والحزن لأنه يدرك بوضوح انه يدور في حلقة مفرغة، ويعي جيدا أن الجمهور في خارج الحلـقة لازال يراقـب وينتظر منه أن يشــير عليـهم بالدروب الجديدة. ويعبّر الشــاعر الجاهلي ـ والأكيد انه غير جاهل ـ عبيد الأسدي في ذلك الوقت عن صعوبة تأليف البيت الشعري، ويشبّه نفسه كمن يسـبح في البحر يحاول اصطياد سمكة كبيرة فتــفلت من يديه كلما امسكها:

اذا قبضـتْ عليه الـكـف حيـنا ً تـناعص تحتـها أي انـتعـاص
وباص ولاص من ملصى ملاص وحوت البحر اسود ذو ملاص

عند قراءة البيتين أكاد اسمع الخليل بن احمد يقول:

إن الشعـراء هم أمراء الكلام، يصرّفـونه أنى شاءوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم.

وما يقوله هنا عبـيد الأسدي عن الشـعر يمكن أن أقوله اليوم عن الخط. فدائما ما أرى صورا في مخيلـتي لتكوينات خطية ممكنة، ولكن عندما أريد أن أضع تلك الصورة على الورق، يهرب التكوين ويفلت كسمكة عبيد الاسدي أو كحفنة رمل في يدي، أتخيل لها شكلا كما لو كانت من الطين فيسقــط الرمل من بين أصابعي. وبعد لحظات قليلة أجد كفي خاوية من الإبداع الذي تخيلـته.
نصوص كهذه عن الشـعر تؤكد أنّ الفنون يمكن أن تـتعاون فيما بيـنها. وكل فن يمكنه ان يضئ الطريق للآخر، فبعد قراءة هذا الكلام عن صعوبة الولادة الشعرية، أعي أنني لســت وحيدا في الترقب للإيحاءات الغائبة ومسكها فأقول لنفسي مهلا. مهلا! وما عليّ إلا الاستمرار والصبر وعدم التراجع عن الطريق الفني الذي أسلكـه في مجال الخط الحديث.

في العصر العباسي فرض الإبداع الشعري تحولاعن الشعر الكلاسيكي. عبر أعمال ما لـُقّـبوا آنذاك بالشـعراء المحدثين، الذين ادخلوا تأثيـرات الترف والرهـافة الآتية من الحضارة المعاشـة في المدن الكبرى. كذلك الالتـقاء بالحضارات الفارسـية والهندية، وعبر الترجمات الإغريقـية حيث تعرف الشعراء العرب على النصوص الفلسفـية القديمة لهذه الحضارة. فـدخلت في مواضيع أشعارهم. ولكن شعـراء ذلك الزمن كانوا فنانين قبـل كل شي ويبذلون الجهد في صياغة البيت الشعري. قـيل لبشار بن برد:

لماذا فـقتَ أهل عمرك وسـبـقت أهل عصرك، في حسن معاني الشعـر وتهذيب ألفاظه ؟

فقال: لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ويناجيني به طبعي، ويبعـثه لي فكري، ونظرت إلى مغارس الفـطن، ومعـادن الحقائق، ولطائف التـشــبيهات فســرت إليها بفهم جيد وغريزة قوية، فأحكمت ســبرها، وانتــقــيت حرها وكشــفت عن حقـائقها، واحــترزت من متكلفها. ولا والله ما ملك قيادي قط الإعجاب بشيء مما أتي به.

بعد الفترة العباسية استمر الإبداع الشعري في الأندلس، فقد أضاف شعراء الأندلس مرح الحياة وخفـتها في تركيبة البيت الشعري، وخـفـفوا الإلقاء الشعري، بالاتجاه نحو الغناء، بإدخال كلمات عامية شعـبية وكلمات إسبانية.



منذ السنوات الأولى في المدرسة الابتدائية، ثم المتوسطة كنت أشعر بميولي نحو الخط بعفوية وسهولة، واصبح الخط جزءً من شخصيتي. إعجاب الآخرين وثــناؤهم كان مصدر قوة داخلية لي، كنت بحاجة ماسة له، فكنت أسعى لتطوير خطي منتظرا من الآخرين مزيدا من الإطراء. بعد ذلك ساورني هاجس داخلي آخر، انه سراب الصور، أردت أن أكون فناناً تـشكـيلياً يرسم ويلوّن الأشخاص. وبقــيتُ على هذه الحال لسنوات طويلة أمارس الخط والرسم، وعندما اضطرتـني ظروف المعيــشة لان أعمل لبضعة سنوات في مجال اللوحات التجارية والإعلان، فكنت إلى جانب الخط ارسم الساعات والمكائن وألونها ...الخ

ولكن انتقالي إلى باريس ودخولي المعهد العالي للفنون الجميلة ـ البوزار ـ وبعد خمس سنوات من ممارسة واسعة لرسم وتلوين الأشكـال البشرية، أدركت جيدا أن هذا الطريق لا يلبي رغـباتي الذاتيـة ولا يمنحني القوة الداخلية التي ابحث عنها، فعدت للخط ومزجته تدريجيا بلوحاتي، واعتــقدت أنّ مشكلة الصورة قـد حُلت. لكن الخط كان أقوى وشغل حيزا أكبر في عملي الفني فيما بعد.
الحقيقة هي اكثر تعــقيدا من ذلك، وبلا وعي اكتشفت تدريجيا تسرّب الصورة كخلفية لخطوطي، فرغم أن أعمالي الفنية كلها من الحروف والكلمات. إلا ان الصورة لم تغادر لوحاتي وصارت كالسراب خلف كل خطوطي.

الكلمات لم تعد كلمات فقط لأنني أعيد تشـكيلها وبناءها من جديد لتـتوافق مع النص الشعـري وصوره، وهكذا وجدت نفـسي اعمل صورا من نوع آخر. صور هياكل هندسية فيها حركات موسيقية أو معمارية البناء، وعلى ضوء الآلام أو الأفراح التي تختــلج في روحي لحظة الخط، فتــكتـسب الحروف طاقات تعبــيرية، تجعل المــشاهد في غنى عن قراءة الكلمات أحيانا إذ تـُفـصح الحركات عن معـناها وتعطي دلائل عن أشياء يفسرها المشاهد كما يرغب، فإن كان القــلب مثــقلا بالأسى جاءت الخطوط سوداء داكنة وتحولت الحروف إلى ما يشــبه الأحجار المتراكمة على بعضها فنـشعر بثــقلها، ونرى تقـلص الفضاء الذي أغـلق الفراغات. و إذا كان القلب يخفـق فرحا تحولت الخطوط إلى ما يشــبه الأغصان الرهيفة ترقص عند هبوب النسيم، مزهرة، مثمرة تعشــقها الطيور المغردة. وهذا أسلوب يخرج عن تقــاليد الخط العربي التقــليدي الذي لم يكن يسمح لمشاعر الخطاط بالظهور عبر الخطوط. لو أردنا تطبيــق الأدبيات القديمة والقواعد بحذافـيرها. وهي أن الخط العربي رغم طابعه الفني يبقى دائما كلمات تحتاج القراءة قبل كل شيء لفهم المعنى.

في ربيع عام 1972 عرض علي الممثل الفرنسي المستعرب كي جاكه أن أساهم بحفلات، وأن اخط أمام الجمهور، على جهاز يعكس الخط لحظة ولادته على شاشــة كبيرة، بيـنما هو يلقي الشـعر بالعربية والفرنسية. ثم انضم إلينا فيما بعد الموسـيقي فوزي العائدي. عملنا فرقة تـتجول في مدن فرنسا وبعض الدول الأوربية، لعمل أمسيات شعـرية وموسيـقية يرافقها الخط، وهنا تمازجت خطوطي مع صوت المـمثل وتناغمت مع الموسيـقى. وخلال سنوات من الأمسيات الحية مع كل ما تحمله ممارسة الخط أمام الجمهور من متاعب ومن مكاسب، فان الخط تحت تأثيرات الموسيـقى لم يعد الخط الذي أخطه عندما أكون وحيدا في مرسمي، وسماع صوت الممثل من صعود وهبوط واستمرارية وتوقـف وإسراع وبطء. أخذ يقود مشاعري ويدي، فأصبح الخط تعبيريا وهو لم يكن كذلك من قبل قط، والكلمة ذاتها يمكن ان تكون عندي منفـتحة هنا ومغلـقة هناك ولا ذنب لها سوى أنها جاورت الفرح تارة و الألم أخرى.

إن تلك الأمسيات الحية أمام الجمهور والتي استمرت لأكثر من اثـنتي عشر عاما تطلبت منا البحث عن أجمل النصوص الشعرية. والتي تحافظ على معناها والقسم الأكبر من نغمها عند الترجمة الى اللغة الفرنسية، وكنا نضيف في كل شهر شعرا جديدا أو نبدل شعرا بآخر.

إن هذا التجديد في الشـعر تطلب مني التجديد في الخط أيضا، كما تطلب تبســيط التكوينات الخطية لإنجازها بأسرع وقت ممكن، لأخذ نفــس الوقـت الذي يستغرقه القول للممثل و العزف للموسيقي. وتدريجياً كنت ادفع الخط العربي للمشي بسرعة تفوق سرعته الاعتيادية. وكنت أتمرن كثيراً قبل كل لقاء، فأعمل تمرينات عبر خط شكل الكلمة عدة مرات بتخطيطات سريعة، واحفظ عن ظهر قلب الشكل الأفضل، ولكن لحظة الخط أحاول نسيان كل شئ وانتظر الإيحاءات من الموسيقى وصوت الممثل والشعر.
والنتيجة تكون دائماً ولادة أخرى قاعدتها الخط الذي حفظته عن ظهر قلب، ولكن بحيوية جديدة آتية من أجواء الحفلة. كلمات راقصة وأخرى ثابتة لا تتحرك، كلمات تتوسع وأخرى تـتضاءل، أقلص كلمة لتــتــسع أخرى. وكما قال إبراهيم ابن العباس الصولي: وربما طغى القلم فوصل منفصلا ً وفصل متصلا ً.

يستعمل الشاعر الكلمات لخلق صور شعرية، يـبتكر لهذه الكلمات تجاورا جديدا بهدف نغم موسيقي مسموع لم يعرف سابقا. الخطاط أيضا يستعمل الكلمات في نغم مرئي ويعمل شبكة هندسية داخل تكوينه الخطي تشابه بحور الشعر. وعندما شعرت بالحاجة لعمل صور غير طبيعية اتجهت بعفوية نحو الشعر استلهم منه الصور، فالصورة الشعرية تبقى من عالم الخيال ، تحرر ما هو في ذهن الإنسان من تصورات، وتسمح بحرية التعبير المختلفة للسامع، ومن شخص لآخر سنجد تفسيرات مخـتلفة لنفـس البيت الشعري. كهذا البيت الشـعري لبدر شاكر السياب:

عـيناك غابـتا نخيل ساعة السحر
أو شرفــتان راح ينأى عنهما القـمر

وهكذا عندما لا أجد الإيحاءات لعمل الخطوط، أقرا الشعر، وفجأة تــثـير مشاعري إحدى العبارات، فاشعــر ان مخيلتي بدأت تنـشط. فكم هي واسعة صورة الشاعر النابغة الذبـياني في هذا البيت:

خـيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تعلك اللجـما

إن بضعة كلمات صغيرة يمكنها أن تـثري وتكبر الصور المتخيلة في ذهني وإحساسي، ويمكنها أن تنقـلني إلى مكان آخر كالحلم لم أكن اعرفه سابقاً، وتدريجيا تظهر الصور في مخيلتي على شكل كلمات كبيرة كنصب في الفضاء الواسع، فأحاول أن اخط على الورق ما أراه جلياً في ذهني، بواسطة أشكال الحروف وبالألوان على الورق، أحاول عمل هيكل عالٍ.

أفكر أولاً بالمركز والذي يقع دائماً في وسط الورقة، بعد ذلك الخط العمودي والخط الأفقي المتقاطعـين في المركز. ثم أفكر بنقطة ارتكاز تدعو كل الحروف لتوجيه ثقلها نحوها، ودائما تقع في أسفل الورقة وأخيرا نقطة هروب في الأعلى تحلم كل الحروف بالطيران من خلالها. هذه الخطوط والنقاط المتعددة الاتجاهات هي جوهر التكوين الخطي الذي اعمله. ودائما ما أفكر بهذه الهندسية البدائية أثـناء الخط، وكل الخطوط تخضع لهذه الشبكة الهندسية، ولكن تغير الكلمات وتبدل الألوان والحجم واختلاف السرعة، يعطي في النهاية تعددا للأشكال في أعمالي الخطية. بينما تولد من هذه الهندسية في كل الخطوط صورة مشتركة في الانتماء إلى نفس صنف الخط. لان الهدف يبقى واحداً مهما تعددت الأشكال.

وعندما أجد أن الكلمة التي عملتها بالخط العريض كالتمثال التجريدي، لا توحي ببناء كامل وتعطي إيحاءً بالسقوط لم أكن ابحث عنه، أضيف كلمات صغيرة أخرى بجانبها لإعطاء القوة المطلوبة للشكل. استعمل كلمات صغيرة لرسم شئ يشـبه الشجران أردت تأكيد مظهر الثبات، وكأشكال الغيـوم إن أردت للشكل مظهر الخفة والإقلاع.
وهكذا يمكنني أن أضيف اسـتقـامة للشكل، أو خلق حركة ديناميكية لإكمال التكوين الخطي. الخط الأكثر نجاحاً بالنسـبة لي هو ما يعطي الانطباع لمن يشاهـده بأنه اكبر من الورقة المخطوط عليها بكثير. البياض خلف الخط لابد أن يبدو كفضاء واسـع بعيد. وان هذا البياض كخلفية للخط لابد أن تكون له قيمة تعبـيرية لا تقل أهـمية عن الخط نفـسه.

أبدأ من درجة الصفر لكل خط جديد، فكل عبارة تفرض إيحاءاتها. ولابد من الاهتمام بمضمونها أي التحسـس بما أراد قوله الشاعر الذي تلـفـّـظ البيت الشعري. ثم إنني احلم بإعطاء شئ جديد في الشكل لكل مرة، وأريد تخطي ما عملته بالأمس. فاكون في كل صباح على اتصال بإخبار كرتنا السابحة في الفضاءوالممارسات البشـرية عليها، سلبية كانت أم إيجابية.

منذ سنوات اخط ما بين فترة وأخرى أربع كلمات للشاعر بدر شاكر السياب:

يا ليل أين هو العراق ؟

ولكن في كل مرة يكون الشكل حسب الأحداث السياسية الجارية في العراق وهذه الكلمات أصبحت كإناء اصب فيه مشاعري لتلك اللحظة نفسها. وهكذا تأخذ نفس الكلمات مظاهر متجددة في كل خط.

بينما اخترت للمشاعر العاطفية نحوالعراق والذكريات مع الأهل والأصدقاء بيتا من الشعر الأندلسي لابن الحسن مطرف:

أرضعـتـني العراق ثـدي هواها وغـزتـني بطرفها بغــداد

وهكذا تكون خطوطي تعبــيرا عن احاسـيسي ومشاعري الداخلية اليومية، تولد عبر علاقاتي البشـرية وارتباطي بالإنسانية، وبسماع أخبار العالم كل صباح، كذلك في الانبهار بالطبيعة وعناصرها كالهواء والنار والماء والأرض.

رهافة خطوط النار الصاعدة، أو على العكس الماء المنساب والمنهمر. الهواء الخفيف وغدره المفاجئ عند سرعته الخارقة حين يتحول لعواصف مدمرة. بينما يقف الحجر بثبات وصلادة غير مبال بما يمر حوله، و يعمّر أكثر بكثير من الإنسان. الأشكال البشــرية الواقـفة والماشــية والراكضة، الأشجار وأزهارها وثمارها، الصحراء ورمالها، موجات البحر الهادئة والــثائرة تصبح أيضا مبعث تأملات وينابــيع صور. فابحث أحيانا في ذاكرتي عن شعر يقابل تلك الصورة المتخيلة.



يحاول الشاعر ابتكار تجاور لكلمات لم تلــتقِ فيما بينها من قبل، والبحث عن أصوات غير معروفة بهدف توسيع عدد الإضافات الجديدة، كذلك الخطاط، يقرب الحروف المتشـابهة ويجعلها تتـداخل فيما بينها ثم يحاول جعل الفضاء ما بين الحروف متـناغما قدر المســتطاع. عمل الخطاط ينصب في آن واحد على التركيز على شكل الحرف والفضاء المحيط به وعلى جسم الحرف واللاجسم المحيط به. على الشــكل المعروف للخط وعلى الشكل التجريدي اللامعروف المحيط به.

لابد من التهــيؤ داخليا قبل عملية الخط. فان مصدر طاقات الحروف هي نابعة من طاقات الخطاط نفسه، والتركيز على النفس يمكنه من زيادة الطاقة، وفي كل بداية خط يسعى كل خطاط منح شحنات أكبر من الطاقة داخل حروفه، وكما تولد النار من ضرب حجر بآخر بلمح البصر، فان امتلاك الأشكال داخليا وخطها بسرعة يمكن أن تخلق ما تصنعه الشرارة، إذ تمتزج الصورة الشعرية بالحركة الخطية، وتتحقق معجزة الفن التي لا يعرف أحداً كيف تــتــم، فيختـلط الفكر بعالم الحلم واللاوعي ويكون الخط المتخيل سـابقا، مادي المظهر آنياً، عبر الألوان وعلى الورق.

ومجيء هذه الإيحاءات لا يتم بأمر من الخطاط، إنما يتم عبر الحالة التي يعيـشها وتأثـيرها على شخصه بأكمله كجسم وفكر وأحاسيس. فإن استطاع الإقلاع عن العالم المادي المحيط به فانه سوف يكون قادرا على الولوج في العالم اللازمني، آنذاك يمكن لصور الشاعر أن تدخل حركات الخطوط والحروف بسهولة. انهما أي الشاعر والخطاط يلــتـقيان بنفـس الفضاء اللامتــناهي. حيث يعود كل شئ هناك إلى عالم الفن. وكل فن ينــيرالفـن الآخر، وبسهولة يمكن أن تتحول الكلمات الشعرية عبر الألوان إلى أشكال خطية شاعرية.
ولكن لابد للخطاط من تقــنيات خاصة به، ككل عمل مهني أخر. تحضير أدواته، كالأقلام القصبـية والأخرى المبتكرة، معرفة تحضير أنواع الحبر ووصفاتها، وكل هذا يسـاهم في اتساع تجربتة الفـنيه ويفتح له أفاقـا لا حصر لها.

إن عملية تحضير الألوان تـتـطلب المعرفة بمصدر المساحيق الملونة والمواد اللاصقة التي تضاف لها كي تـثـبت على الورق. عملية كيماوية بســيطة لكنها تـتطلب الحذر أثـناء عملها. وإلا تجهض العملية الفنـية بأكملها رغم كل الاستعدادت النفسـية لها ورغم كل الصور الواضحة في الذهن.

اختيار الورق ومادة الألوان هي أساس العمل الفني. وهي التي تؤثر على المشاهد من أول وهلة. لابد من أن يلم كل فنان بتقــنياته. ويمكن لهذه المواد والألوان أن تعكس نظرتـنا للعالم أيضا. فهناك ألوان توحي بالعالم الصناعي وأخرى بالعالم الزراعي، وأخرى بعالم الصحراء، ولا يعني هذا أن أحدها أفضل من الأخر. لكن مدى وعينا بالمادة يمكن أن يجعلنا نحسن استخدام الون الجيد بالمكان المطلوب. ولأن الخط الذي اعمله يتطلب السرعة في الإنجاز، سرعة من اجل عكس عالمي الداخلي الذي أجهله في تلك اللحظة، واقل تردد في الخط، سيكون مرئيا بسـهولة للآخرين، لذا لابد من أن تكون ألواني وكل أدواتي طيّعة، ويجب ان لا تسبب لي المشاكل، فلدي الكثير من المعوقات وأحاول تخطيها للوصول إلى الخطوط الكاملة والتي تعكس توترات قلبي.

عندما يتم كل شئ بخير، ويتم الاتصال بين الرؤى الداخلية وما تقوله الكلمات والألوان والورق، ويحدث الانصهار المرتقب، فان حواراهاما سيبدأ. حوار بهدف الارتــقــاء.


حسن المسعود ـ شباط 2006

- نص مترجم عن الفرنسية بتصرف من كتاب ـ نظام ـ دار نشر البان ميشيل



* بإذن من الكاتب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى