إبراهيم محمود - النص الذي لا يشبه اسمه إطلاقاً

منذ زمان طويل وهم يتحدثون، يتحاورون، يساجلون، يكتبون حول النص، وما يكونه النص، ولكن ليس من أحد" أي أحد " اطمأن إليه واستقر عليه، ولا حتى إلى نفسه في قرارة نفسه، ممن يعتبرون أنفسهم معنيين بأمر النص. والنص آمر وليس مأموراً في مفهومه، والنص في وضعية غياب أكثر من كونه حضوراً، والنص لا يُسبَر قاعه: أكثر من كونه ثلاثي الأبعاد، رغم وجود من يتحرى فيه: برّيّه، وفضائيه وبحريه أو برمائيه وبرهوائيه...الخ، فالعملية لا تعدو أن تكون حديثاً عن محاكاة لمحاكاة محاكاة لأصل في حكم المفقود، ويفترَض أنه كان له وجود باسمه ومسمّاه وخانته ولغته وشعبه وسلطته، من خلال هذا الكم الهائل والمهيب من المتردد عنه.
فما أسهل أن تقرأ من يتحدث عن بنيته الكيمائية " لنتذكر تفاعلات النص ومعادلاته "، وما في ذلك من إزاحة لمفهوم مفترَض لصالح ما ليس مفهوماً جهة الجهر بالحقيقة ذات الصلة. وما أسهل أن نسمع من يشير إليه بوصفه فضائياً " كوكبياً، مجراتياً " جهة الاستحالة في الإحاطة به، وعلينا هنا أن نضيف المجموعة الشمسية" وهذا ليس تهكماً " وكيفية الاستئثار المقدَّر بها على مستوى فكرة النص الثاوية والأفكار التي تتمحور/ تدور حولها، وما هو أكبر منها، فنتعدى بذلك مجرة درب التبانة، وما هو أعظم من ذلك " لنتذكر هنا نسَب الكاوس ومرجعيته ".
وما أيسر سماع من يفصح عن البعد الفيزيائي للنص، أي النص باعتباره فيزياء حركة وسكون " لنتذكر كل ما يندرج في مضمار الجاذبية ومحفّزاتها وحراكها الدلالي "، وما يخص المسمى بـ" التثاقف " وهو نوع من التجاذب البيني، رغم استحالة التكافؤ بين نصين، أي نصّين، أو وجود قوتين تتمرأيان داخل النص الواحد، كما لو أننا في مواجهة حلبة " كلمات "، في الوقت الذي يشار كثيراً إلى لا استواء النص: ليس سطحاً مستوياً، ولا بهرمي، ولا بإهليلجي، ولا ببيضوي، ولا مقعَّر أو محدَّب، ولا أفقي أو عامودي " وهنا تحضر وشائج قربى جغرافية ".
وما أسهل أن نتلمس في الحديث عن النص ما يستدعي طقوساً سحرية، وليس من نص لا يخفي سحراً ما، فيه بعض من الخيلة، وبعض من الاستيهام، وبعض من الاستدراج المشهَّى، وبعض من الغموض المهيب وميتافيزيقا المعنى، وهذا يصلنا بـ" الخيمياء "، أو " علم الحيل " ومفارقة التعبير جرّاء وصْل " العلم " بـ" الحيَل "، وكيف تتسينم الصور وأطيافها في العمق .
وما أسهل أن نتحرى السيرة الذاتية للنص في عمومه، وكيف استحال نصاً، فنؤرخ له في الزمان والمكان، وقابلته، ومخاضه " الأمومي "، وأبوّته، ومن يحرص عليه ويعزّز مكانته، ومن يتربص به، حيث إن النص يبقى في عراء الزمان والمكان غفلاً من الاسم القادر على تجنيبه كل أذى: يغيّر أو يحوّر أو يؤثر فيه، وإلا لفقد خاصيته الاسمية، فيكون لدينا تاريخ، كما أن السياسة تحضر بكامل عدّتها المادية والمعنوية، لحظة النظر في نص مرفوع إلى خارج النقد، أو اعتباره " المحكَم "، وأين يكون، ومتى يتم ذلك، ونوعية المجتمع المتنفس فيه .
وما أسهل- أيضاً- أن نقرأ من يسهب في الحديث عن جسم أو جسد النص، أو النص بوصفه جسداً حياً، وله أطرافه، له هامته وقامته وعلامة تمييزه، أي من منظور عضواني، فتكون البيولوجيا ماثلة أمام أبصارنا، وصراع القوى في المسمى متناً ودراما الوجود القائمة فيها.
وما أسهل بالمقابل أن نذكّر بالحساب وأمه الكبرى: الرياضيات، والمستحدثة: الهندسة، جهة المقاييس ذات الدقة، وكيفية دراسة العلاقات النصية من خلال أشكال هندسية وأرقام ورموز، فتتشكل لدينا مشرحة عددية وبيانات كاملة، ورهاب الاسم والمشرف عليه أو مسجّله.
وفي وسع من لديه الجلَد أن يضع لائحة مصنفة تصنيفاً دقيقاً " أكسيوماً " لمجمل الفنون والعلوم، وإبراز الكيفية التي يكون النص حاملاً إياها جميعاً، أو محمولاً بها بإجماع، ومختلفاً عنها دون استثناء، لأن كل ما تردَّد ويتردد عن النص ليس إلا مخاضاً تخيلياً- نفسياً لذائقة معينة، وكل مقاربة تتموضع عند سمت جغرافي- اجتماعي معرفي محدد، يفترَض أن النص بما هو مودَع دلالياً فيه يمر به، أو يعايَن استناداً إليه، والوضع ليس كذلك، لأن حدود النص: ما يكونه نصاً، وما يغايره نصاً، وما ؤجَّل نصاً بانتظار مسمّيه، وما يصبح في وضعية الهلام قيد التحول إلى نص بمقادير جديدة ليس أكثر من قول منزوع الإطار، أو كتابة محرَّرة من حدودها، وإلا لانتصر إقليدس والنتحر آينشتين بالمقابل احتمالياً .
أليس ما جاء به كل من دوسوسير على مستوى اللغة، أو اللسانيات التي أطلقت لاجتهادات ثورية كوَّنت انعطافة غير مسبوقة في التاريخ منذ قرن من الزمان، وكيف يتصارع أو يتداخل كل من الدياكروني- الساكروني: المتحرك- الثابت، أو التزمن- التزامن، وما كان حصيلة هذا التزاوج غير المعمَّد بينهما دوسوسورياً، ومن بعده جاكبسون، وميخائيل باختين " ومبدأ الحوارية أو التعددية في كتاباته " وجيرار جينيت، وباشلار، ورولان بارت " اقرأوا : لذة نصـ:ـه، جيداً، وارفعوا سقف معرفتكم لتلمس نوعية العلوم المسهمة في تشكيله رغم وجود طابع حياوي كبير عليه "، وبول ريكور، وكيف نغَّم الفينوميولوجي بجوار السيكولوجي فالأنطولوجي، واستولد نصه، وجاك دريدا، واعتباره النص نصاً من خلال ثغراته، أو ما يبقيه غير مقبوض على معناه " اقرأوا مستهل : صيدلية أفلاطون "، ودلالة العنوان بالذات في بنية كتاباته وكيفية ربط النص texte بالنسيج toile، فلكل منهما عائده العميق أو عمقه وطياته، وجيل دولوز وفكرة " الطيات " بالنسبة للنص المكون للمعرفة " أمعنوا النص لو تكرمتم في : ما هي الفلسفة "، أو فكرة كتاب " الألف طية "....الخ، صلة بما أثرناه حتى الآن .
وليس في المستطاع تقصّي كل ما قيل في هذا المسلك الوعر طبعاً وغير المحدد بسهولة: بداية ونهاية، إنما هي فكرة مؤثّرة، لا أظنني ملقياً بها في ماء التاريخ الراكد، إنما نهره الذي يستدعي المزيد من مكاشفة حقيقته: عمقاً وسعة ومجرى وسرعة ونوعاً، وكيف يكون النص نهرياً، أو لا يكونه، أي ما يبقيه نصاً، وضمن أي تخوم مواصفاتية أو تعريفية ليُحرَّر من التعليق .
إن كل حديث عن النص ليس أكثر من تصورات تُملَّك قيمة حقيقة معينة لتأكيد يقين يرتد نفسياً إلى معتقد متجذر نفسياً، والنظر من خلال زاوية معينة، ثم طرح " الوليد " البحثي، المعرفي الذي يكون النص، أو " من " يكون النص، جهة التعويل عليه بوصفه كائناً ينبض بالحياة.
وفي البحث عن جماع هذه الكتابات وقلق المعنى القائم في ثنياتها، يُلاحَظ هذا الشغف بما لم يبلَّغ بحقيقته، أو ما لم يُحط به، أو ما لم يُتأكَّد منه، في رهانات المعنى والحقيقة: معنى النص، وحقيقة المعنى، ونص المعنى، ومعنى الحقيقة، ومن يكون الشخص القارىء، وبأي لغة، وفي أي مجتمع، حيث النص نصوص انفجارية، إنه سديم أو " سُدُم " وفي وضعية تحول، إلى درجة استحالة القول بأن اللغة المنطوقة تتبع الأثر المرسوم لها، لتستقر في حيّز نصي محدد، مثلما أنها نبعت من نقطة " نطفة " ولادية معينة، بمقدار ما تكون ناطقة، أكثر من اعتبارها التابع لمتبوع، جرّاء هذا التأكيد على أن هناك ما يودَع في النص نقيض ما يريده أو يرتئيه كاتبه أو مؤلفه، وفي بعض الحالات يكون افتضاحاً إن أهَّلنا للاوعي أن يدلي بشهادته الأثيرة في ذلك، أو فضائحياً، حيث يكون الكاتب منغوياً بما يكتب أحياناً، كما لو أنه يتوسله، وما يعنيه هذا البعد التطويعي من احتواء له، جرّاء سلطة رغبية تستنزف قوة العقل بالذات، في حمى كتابة فكرة، فلا يعود النص المفصَح عنه فيما بعد إلا صورة مستنسخة عن الحالة السالفة " مرضياً "، وما يتراءى من سرد هو نفسه مجرد افتراض.
وفي هذا اللامجال ينعدم أي وجود لنص ذي إقامة أبدية، إنما " يلد ويولد " تباعاً ، ويحيي ويميت اسمه وعلاماته الفارقة، وما يترتب على هذا التسلسل والانشطار القولي من استحالة تسمية الحدود للنص، أو الاصطلاح الفعلي على اسم معين محل تقدير المعنيين بأمره ولزمن طويل، وبذلك نكون في عهدة جواب النص المارق، وهو الوحيد الذي يسحب " شهادة ترخيص ادعاء امتلاك النص السديد " من صاحبه، ويلزمه بالبقاء باحثاً عن المزيد والمستزاد، لأن الكرامة الوحيدة للمعتبر نصاً، هي في تأميمه من كل إيداع في محمية أي كان، وإبقائه طليقاً، كما لو أنه غير موجود بالمطلق، ليكون في مقدور أي كان كتاب نص دون خشية من متزعم نص هو القاعدة والمرجع، والتفكير في سواه، أي أن نعيش في آن واحد: مأتم النص وحداده وعرسه، والمواءمة بين كل من الموت والحياة، تتوقف على من يهضمهما معاً، وهذه استحالة في الزمان والمكان، وبمثابة إيعاز إلى التدقيق الدائم في الكلمات وما تسمّيه، وحقيقة المعتبَر نصاً وتجاوزها باستمرار، في وجود هو في حكم الموجود، كما هو الإنسان بمنتهى تناهيه..!

أحدث المراجعات

تفكيك رائع لاشكالية النص ، لتحوراته وتبدلاته ، لاختفائه وموته ثم ميلاده وحياته ، بلغة سلسة جدا ، ومفهومة وبعيدة عن التقعر. كنت اتمنى ان يتعرض أيضا للتناص كاحدى تشظيات اشكالية النص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى