نورالدين الطويليع - الشاعر نورالدين الزويتني وسؤال الكتابة الإبداعية

على سبيل التقديم:
قراءة شعر نورالدين الزويتني رحلةُ متعةٍ تأخذ منك كل تفكيرك وتستفزك لاستدعاء معارفك كلها، عساها تسعفك في فك شفرات نصوص أتاها خالقها من "جهة المعرفة" كما قال الشاعر والإعلامي ياسين عدنان في تقديمه لديوانه المعنون بِــ "قلب الثلج" ، تحتاج وأنت تنتقل بين معانيها العميقة إلى أن تكون ذا ثقافة موسوعية، لأن صاحبها كذلك، وإن لم تسر على أثره، فلن تحيط بشعره خبرا، ذلك الشعر الذي نجد فيه أثر الفلسفة الوجودية والواقعية الاشتراكية وأدب العبث واللا معقول وفلسفة الجمال والسوريالية والبنيوية التكوينية، ونلمس في ناظمه اطلاعا واسعا على الفلسفتين الغربية والعربية، بقديمهما وحديثهما، ومعرفة دقيقة بسير الشعراء وتفاصيل حياتهم ومآزقهم وبداياتهم ونهاياتهم، ودون التسلح بالمعرفة العالمة لن يظفر القارئ المجرد من عتادها الذي شيد به الشاعر نصوصه سوى بالنزر القليل، ولن يرى في شعره سوى الغموض، يقول أحمد بنميمون في كلمة تقريظية للشاعر: "متلقي قصيدته يقف مشدوها لا يعرف من أي الينابيع تستقي ما يفاجئه به من صور، وما تكتسبه من ثم، من قوة تهيمن بها عليه، فهناك سحر رؤى، ونفس ملحمي، وفعل أكثر من شعرية، شرقية وغربية، تدلنا على سعة ثقافة الشاعر" .
كل هذا كان حافزا لنا للاقتراب من العالم الإبداعي للشاعر نورالدين الزويتني، وركوب مغامرة قراءة منجزه الشعري من خلال بدا لنا أسطورة شخصية للشاعر جسدها في هذا الاستدعاء المثير لآله وصحبه من الشعراء، وفي ملء أوراق ديوانيه معا بالحديث عن الشعر والكتابة ومآلهما، مما جعلنا نتخذ سؤال الكتابة عند الشاعر نورالدين الزويتني عنوانا لورقتنا، تساءلنا بداية عن دوافع الكتابة وأسبابها عند الشاعر، وأشرنا إلى ارتباطها لديه بمفهوم الوجع، وبالسؤال القلق عن مصير الشعر في زمن تبخيس الشعر، وهو ما دفعنا للبحث والتنقيب عن مصدر إحباط الذات الشاعرة وتشاؤها، وعما إذا بقي للقصيدة دور ما في ظل وضعية عنوانها العريض "الكفر بالشعر".

لماذا يكتب الشاعر نورالدين الزويتني؟
قد يبدو السؤال من قبيل تحصيل الحاصل، خصوصا إذا تعلق الأمر بمتلقٍّ لا قِبَلَ له بالشاعر وشعره، فهو سؤال يظهر ناشزا عن أجواء الشعر الذي جرت العادة أن يشار إليه باعتباره تعبيرا عن عاطفة الشاعر ولواعجه الداخلية، لكن بمجرد الاقتراب من العوالم الإبداعية للشاعر تزول الدهشة، ويتلاشى الاستغراب، وتُثْبِتُ علامةُ الاستفهام نفسَها دافعة إيانا إلى البحث عن مشاريع جوابية من شأنها إمدادنا بنظرة أولية عن طبيعة الرؤيا التي ينطلق منه الشاعر بهذا الصدد.
مشروعية السؤال تستمد أسَّهَا وأساسها من الحضور القوي والقلق لألفاظ الشعر والشاعر والقصيدة والكتابة في ديواني الشاعر: "قلب الثلج"، و"كيف تصبح شاعرا بعد 2012" ، إذ لا تكاد تخلو قصيدة من قصائدهما من عبارة تلميحية أو تصريحية تُبُؤِّرُ السؤال وتشيد له حضورا قويا، وحسبنا أن الشاعر خص عنوان ديوانه الثاني بسؤال الكتابة "كيف تظل شاعرا بعد 2012"، وطرح ذات السؤال، أو قريبا منه في أكثر من قصيدة، يقول في بئر الضوضاء:
ما الفرق بين
عين الصيرفي
وقبضة الجراح؟
بين أن تكون
ميتا
وشاعرا
أو الوصي في
تركة الذئاب؟
هنا ينهض السؤال ليتكفل بمهمة الكشف عن ذات مكلومة، يؤطرها "شعور بالضجر والقرف والمقت" كما يقول الشاعر نفسه ، شعور استوحته الذات الشاعرة من رحلتها العابرة للثقافات، رحلة جعلتها مختلفة متميزة في طرحها الذي يميل إلى السوداوية ويتجاوز تلك التعابير المسكوكة التي تنصب الشعراء أمراء للكلام، وتبني لهم بروجا من ذهب، لم تتردد هذه الذات في هدمها هدما حين ساوت بين الشاعر والميت والوصي في تركة الذئاب بصيغة إنكارية لا تريد من خلالها جوابا، بقدر ما تنكر وتستنكر الادعاء الذي يتبنى العكس، يقول كمال عبد الرحمان بهذا الصدد: "لا يسأل الشعراء أسئلة من أجل الأسئلة، بل لتأطير صورة الاختلاف بالصورة الشعرية، لكشف المسافة المائزة بين الأسئلة والمساءلة التي لا سلطة لها سوى الأسئلة" ، وتأكيدا لهذه الصورة القاتمة ولسلطة السؤال التي تنغرس فيها علامة الاستفهام منتصبة، دون أن يلوح في الأفق ما يؤشر على زحزحتها من مكانها، تتساءل الذات الشاعرة في قصيدة "هاملت على الخشبة :
لو طلب منك ابنك طعاما
هل تعطيه قصيدة؟
أو فكرت مليا
بهدية عيد،
وبجد،
لحبيبة قلبك..
هل تعطيها شعرا؟
هذا السؤال الإشكال، أو المساءلة الحجاجية وسيلة استندت عليها الذات الشاعرة لإثارة قضية الجدوى من الشعر كبضاعة مزجاة، بخسة الثمن، عديمة الفائدة، لا تسكت طفلا جائعا يلح على أبيه أن يطعمه من جوع، ولا تصلح أن تكون هدية لحبيبة القلب، هنا يبلغ الحجاج منتهاه وغايته، فالشعر الذي خلد قصص العشق العربية، والذي طالما أجرى المياه الراكدة بين القلوب المتجافية، فبعث فيها دبيب الحياة، ورققها بعد غلظة، وحقق الاتصال والوصال راسما ملاحم خلدها التاريخ، هذا الشعر فقد معقله الأخير، ولم يعد يتساوق وعواطف نأت بعيدا عن النبع، عواطف متكلسة لم تعد تؤمن، في عصر المادة، سوى بالأشياء التي تظللها المادة وتحتويها.
هذه الحقيقة الجارحة هي ذاتها التي عبر عنها لويس بورخيس، وهو يتحدث عن شعوره وشعور الآخر المفارق قائلا: "العالم لسوء الحظ واقعي، وأنا لسوء الحظ بورخيس"
وإمعانا من الذات الشاعرة في قطع الطريق أمام أي إجابة إيجابية، قد يبادر إليها حالم تأخر به الزمان، ولم يخرج بعد من زمن مجانين الشعر العربي ، ولم يصل إلى قناعته وقناعة بورخيس، استطرد قائلا:
كفى هذيانا أيها الشاعر.. !
كل هذا الضرب على قفاك
ولم تستيقظ بعد..
كل هذا الضحك
ولا تخجل.
فبهذه الصيغة الآمرة، وبالنبرة الاستفهامية الإنكارية، تدعو الذات الشاعرة هذه الفئة إلى الخروج من جبة وهمها، والانتباه إلى نظرة الآخر التهكمية التي يقابل بها شعره الذي لا يعدو أن يكون، في عرف هذا المتلقي المدجن أو الممسوخ، مجرد إيقاع وموسيقى ولغة، وهو الذي علمته العولمة أن الحياة طائرات وسفن وبنادق وسيارات فاخرة ومبان فارهة، وبالتالي فقد انتهى وولى إلى غير رجعة زمن الشعر، ولا بد للشاعر الحديث أن يعرف قدره ومقداره الذي حرصت الذات الشاعرة على تذكيره به بصراحة نادرة:
تتحول أحيانا
سحلية ذميمة،
غرابا يقتات
على جثث،
شجرة تين يابسة
لا تغري حطابا
في هذا الجو الكابوسي يغدو الشعراء عملة بلا قيمة، أو أهل كهف جددا تغير عنهم الزمن وهم يرقدون في كهوفهم الشعرية، حتى إذا استيقظوا من نومهم العميق وجدوا الزمن غير الزمن، والإنسان غير الإنسان، واستحالوا أشخاصا بلا شخصيات، لا يهتم بهم وبإبداعهم أحد من الناس في عالم عبثي فقد فيه الإنسان الإحساس بالجمال،وانسحق فيه الذوق ليذوب في أقصى درجات البؤس الإنساني.
الكتابة الوجع وسؤال المصير عند الشاعر نورالدين الزويتني
بعيدا عن تلك العبارات المدرسية المسكوكة التي تربط الإبداع الشعري بالطرب والفرح والخلوة بذكر الأحباب، يؤسس الشاعر نورالدين الزويتني نظرته للموضوع انطلاقا من مقولة يرى أصحابها أن "الكاتب يقتات من أوجاعه"، فالذات الشاعرة بركان هادر يغلي غليانا قبل أن يرمي بحممه الكلامية في سوق بائرة لا تلقي بالا لهذا الذي احترقت قبل أن تأتي به إلى العالم، يقول الشاعر في قصيدة الأورفي :
ليس الشعر
يجعل شاعرا ما
شاعرا
شيء هنا في الصدر،
ليس الحب،
يلدغ لدغة الأفعى !
وخزات الذات وندوبها المتقرحة هي إذن ما يمنح الشاعر شهادة الميلاد، فالشعر لا يأتي من فراغ، ولا يأتي عن طريق الحب الذي ولى زمنه، وإنما هو شرارة لا يمكن أن تشتعل وتتقد إلا بالألم والوجع وتجرع جرعات كبيرة من الإحساس بالمأساوية والكآبة والفقد والحرمان في عالم يعيش إفلاسه وخواءه وعدميته، عالم انسحق فيه الإنسان ولم يعد يقوى حتى على الأمل، وشحبت فيه الروح، عالمِ الحروب والقتل بالجملة، من هذه المنابع المأساوية تتغذى القريحة الشعرية فتنفجر كنزيف تحمله الكلمات من صلب جرح غائر، هذا الإحساس يزكيه فرانز كافكا قائلا: "الكتابة هي انفتاح جرح ما" ، وتعلن عنه الذات الشاعرة صراحة في عنوان قصيدة "بالوجع تكتب"، حيث تتخذ من العدول وسيلة لإظهار الألم الممضي الذي يصاحب الكتابة ويسبقها، فهي تستعين بالحبر والقلم، وبهما تكتب، على مستوى الظاهر، أو كما يراها الناس، لكن هذه لا تعدو أن تكون نظرة سطحية لا تعبر عن حقيقة الخيبة التي تشعر بها في عالم اختلت فيه كل الموازين، ويصدق فيه قول ابن القيم:
إن كنتَ لا تدري فتلك مصيبة.....وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم
فالكتابة هي فائض قيمة غيض امتلأ به قلب الذات الشاعرة، ولم تجد سبيلا إلى تصريفه غير كلمات تجسد الوجع وتعبر عنه، وتشهد على مخاض عسير يصاحب ميلاد قصيدة لن تقدم ولن تؤخر، ولن يرى فيها المتلقي سوى كلمات جوفاء وحروف وصور بلا معنى، قد لا يعيرها أو يعير صاحبها ومضة من وقته، ولا يعبأ حتى بصاحبها مهما ناء بحمل الكلمات الموجعة، يقول الشاعر في قصيدته بالوجع تكتب :
قيل للشاعر
بالوجع تكتب
ولا تلد سوى تصاوير وأخيلة
لا تعني العالم في شيء
لذلك مع القلق والرطوبة
والقصائد
تتعفن روحك
فتنتهي كالشاعر "بو"
مخمورا حتى الموت
في بالوعة شارع عام،
أو نخاسا وتاجر سلاح فاشلا
كالشاعر "رامبو"،
إلى أن يقول:
يا لميتافيزيقا الميراث والخلود !
لن يتبقى منك في الأخير
سوى ورق أصفر
يتطاير إلى ما لا نهاية
في ردهات الأبد الفارغة
فهناك أو هنا
لا فرق !
الخيبة تعصرك
وروحك تصطك من البرد !
في هذه القصيدة تتوقف بنا الذات الشاعرة عند مفارقة المسافة الشاسعة بين رؤيتها وطبيعة نظرتها إلى عالمها الإبداعي، وبين واقع حالك السواد تنتهي فيها الذات الشاعرة نهاية مأساوية يؤشر عليها هذا التكثيف الدلالي لحقل المأساة من خلال الألفاظ الآتية: الوجع ـ القلق ـ تتعفن ـ تنتهي ـ الموت ـ فاشل ـ الانتحار ـ المرض ـ الغرق ـ الشنق ـ الخيبة، بما أضفى على القصيدة جوا حداديا جنائزيا، وحولها إلى ما يشبه النعي الرسمي للشعر والشعراء الذين سيستحيل أمرهم في نهاية المطاف ويُختزَل في أوراق صفراء يطويها النسيان كأن لم تكتب بالأمس.
ولتأكيد حجاجية القتامة والمأساة استعانت الذات الشاعرة بالوقائع والأحداث التي تصب كلها في خانة النهاية المؤلمة، وقائع صحبتها بشخصيات وقعت على رحيل يبعث على الألم والشفقة، وكأنها، وبالتراكم الذي حضرت به الشخصيات تقول إن هذا هو مصير كل من سولت له نفسه أن يمتطي صهوة الشعر، خصوصا أن الشعراء الذين استدعوا لإثبات الحجة ينتمون إلى أزمنة وأمكنة مختلفة: (إدغار آلا بو، آرتر رامبو، امرؤ القيس، مارلو، الحلاج، شاترتون، بايرون، سيلفيا بلاث، السياب، كفافي)، وكلهم يخدمون رؤية الذات الشاعرة ويدعمونها، ويعبرون عن خوالجها الوجدانية، لهذا يقول زايد علي العشري: "الشخصيات التاريخية والأحداث التاريخية ليس مجرد ظواهر كونية عابرة، تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، فإن لها إلى جانب ذلك دلالاتها الشمولية الباقية" .
وكما استعانت الذات الشاعرة بالوقائع وأسماء الأعلام والأماكن (بالوعة ـ مصلحة السقي) لإثبات هوان الشعر والشاعر على الناس، لجأت إلى السخرية لتبئير هذه الرؤية، والسخرية، كما يقول محمد الماغوط، تعبر عن أقصى درجات الإحساس بالألم، جاء في قصيدة "كيف تظل شاعرا بعد 2012 ":
لكي تظل شاعرا
بعد 2012
عليك أن تنسى كل الشعر
تماما، وتكرهه،
أو تحبه وتقبل أن يكرهك،
لكي تظل شاعرا
بعد 2012
عليك أن تصير امرأة
وتحبل وتلد،
تصير امرأة ورجلا في آن،
بحرا ويابسة،
مخلب وحش وذيل بجعة،
الاثنين والثلاثة
والأربعة معا
عليك أن تسير في مظاهرات نمل
ومسيرات جناذب
وتقود حروبا طاحنة
ضد تماثيل..
تضعنا الذات الشاعرة في خضم "برزخ فاصل واصل بين عالم منشود غير متحقق، وواقع مفروض، يقوم فيه الساخر بدور إدراك مفارقاته ونقائصه" ، فهذه القصيدة التي اتخذتها الذات الشاعرة عنوانا لديوانها تجسد المفارقة الساخرة عن طريق المخاتلة والتمويه بين ما يود الشاعر أن يكونه، وبين ما هو كائن، عليه أن يجمع في آن واحد سابع المستحيلات: أن يكون رجلا وامرأة، وبحرا ويابسة في آن واحد، أن يكون غريبا حتى عن نفسه:
وتطرق الأبواب
بحثا عنك
ولا تجدك في أي مكان
وكما هي عادة الذات الشاعرة تمضي في سخريتها لتصل بها الغاية، وتربطها ربطا أنطولوجيا بعنصر الموت:
لكي تكون شاعرا
بعد 2012
عليك أن تمسك اللغة
كسكين Gerber Mark القتالية
وتغمدها في قلبك... !!!
من أين للذات الشاعرة بكل هذا التشاؤم؟
عادة ما تجد الشاعر معتدا بنفسه، فرحا جذلان بمولوده الشعري، يمهد لقصائده بحديث مسهب عن فروسيته وفحولته الشعريتين، ورغبته في تغيير العالم، إلا أننا نجد العكس تماما عند الشاعر نورالدين الزويتني، فلا قصيدة واحدة في كلا الديوانين صبت في سياق الاعتداد بالذات الشعرية، ولا حديثا، ولو عابرا، عن لقب الشاعر الثائر والقصيدة القنبلة، إلى غير ذلك من أوصاف تعتبرها الذات الشاعرة وهما، يقول الشاعر بهذا الصدد، فيما يظهر ردا على قولة جان بول سارتر الشهيرة: "الكلمات مسدسات عامرة بقذائفها":
فلننتظر جميعا
على شعفات الأزمنة
المنهارة بطلقة واحدة
من فوهة مسدس وهمي
يخفيه شاعر في أسفل قصيدة
ولتحترق أصابع الضجر
المشبكة على منضدة الفراغ .
هذا التشاؤم ليس مصدره ذاتا عدمية تكفر بكل شيء، وتجرد العبارة من سلاحها المدمر لقلاع الفساد، وإنما هو وليد تراكم خيبات كثيرة جعلت الذات الشاعرة تكفر "بالأقلام والدفاتر" بعدما خاب ظنها وانكسر، وهي ترى العالم ينحو في اتجاه حتفه، غير عابئ بالكلمة الشعرية وبخطابة الشعراء، وهذا يحيلنا على رؤية تتساوق وهذه النظرة التشاؤمية إلى الواقع المقرف، للكاتب خوسيه لويس غاييرو الذي وضع كتابا سماه "أنطولوجيا الشعراء المنتحرين"، وأشار إلى أنه وضعه تكريما للفشل، مذكرا بأن ألبير كامو قال إن الفشل يرتبط بالطموحات الكبرى .
فهذا الإنسان في شكله المطلق خيب ظن الذات الشاعرة وأساء إلى حبيبته الأرض وهو يعيث فيها فسادا، محققا نبوءة الملائكة :"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" ، وهي إساءة بليغة تتسع لتشمل كل جوانب الحياة، وطبعا تقف هذه الذات موقف المستغرب المنكر الذي لم يستسغ العدوان، لكن لا يجد إلى صده سبيلا، فتشعر بالخيبة العميقة، وتنادي مستنكرة:
أيتها الكائنات الآدمية
ماذا فعلت
بحبيبتك الأرض؟
هي آوتك
كطفلة تحضن
في فراشها الصغير
جِروا تعسا بردان،
وأنتِ
بِنابَيْ مَصَّاصٍ
لدغتِها في القلب.!. .
هذا عن الإنسان الكوني، أما عن ابن الوطن، ففجيعة الذات الشاعرة تزداد حدة، وألمها يتضاعف، ما جعلها تعلن انمحاء مفهوم الوطن واختفاءه من قلوب الجميع ، وتُحَمِّلُ القلب الكبيرَ الحالمَ مسؤوليةَ خطإ الأمل الكبير بتعبير ألبير كامو.
كانت بلاد
واختفت،
ولا أحد يعرف السبب،
............................
أخطأت أيها الفؤاد
الكل غادَرَ
ولم يعد سوانا داخل هذا المخبإ .
وتبقى النقطة الوحيدة المشعة في كل هذه الظلمات التي يعلو بعضها فوق بعض، وتمسك الخناق على الوطن لترديه قتيلا، تبقى نقطة الأمل الوحيدة عند الذات الشاعرة هي حركة 20 فبراير، وما دونها عدم في عدم، وسواد في سواد، بما ينم عن ذات يسكنها حب التغيير، وتتطلع إلى غد أفضل، بعدما سئمت من وضعٍ سِمَتُهُ الإفلاس والمأساوية:
يسألك الفقراء
عن الوطن،
قل باب حديد
صدئٍ
يتنازعه
كهنة غلاظ
وبنات آوى
ومفلسو حرب
وفبرايريون
طيبون... .
ها هنا تمنحنا الذات الشاعرة المفتاح لفهم مصدر سخطها، فهذا الوطن الذي تهيم به حبا افترس افتراسا، ووحدهم الفبرايريون، الأمل، لكن، وما دمنا نعرف المصير الذي آلت إليه حركتهم، فلا بد للجرح أن يزداد غورا، وللنزيف أن يستمر، وللخيبة أن تبقى عنوانا.
أي دور للقصيدة في زمن الكفر بالشعر؟
تخلص الذات الشاعرة إلى تأكيد الطلاق النهائي بين إنسان العصر الحالي، وبين الشعر بوصفه قيمة جمالية لم تعد تجدي أو تثير أحدا في زمن الانحدار والسقوط المدوي للقيم الجمالية، يقول الشاعر في قصيدته "لا أمل لا طائل":
في الشعر لا أمل لا طائل
..............................
لا أمل لا طائل
أيها الشاعر
.............................
كما أنك لا تتصور
مدى إشفاق هؤلاء
وهم يرونك كل صباح
متأبطا كساعي بريد أحدب
كيس خساراتك
وإصرارك مع ذلك
رغم التعب الطويل والنذوب والسنين
أن تكون شاعرا .
فالشاعر الذي كان في زمن مجد الشعر ورقي الذوق الجمالي، منارة قبيلته، والناطق الرسمي باسمها، والمنافح عنها، ومصدر تهاني القبائل الأخرى بنبوغه الشعري، هذا الشاعر صار في زمن الردة الشعرية مصدر إشفاق، يعيش عالمه لوحده، دون أن يشاركه إياه أحد، وكنتيجة طبعية لوضع هذه سماته لن يقدم الشعر ولن يؤخر، ولن تعدو كلمات الشعر أن تكون صيحة في وادٍ عميق، لأن المتلقي المفترض صَمَّتْ أذنُه عن سماع الشعر.
هذه إذن نظرة عميقة تكونت لدى الذات الشاعرة من خلال سفرها الثقافي الطويل، ووقوفها على تجارب شعراء ذكرتهم بالاسم في أكثر من قصيدة، ومن المثير أن قناعة كهذه توصل إليها كثير من "الشعراء الثوار" في الوطن العربي، بعد "فترة وَهْمٍ طويلة"، فهذا أمل دنقل المشهور بصعلكته، وبمواقفه السياسية الحادة، يعترف بقصور الشعراء وعجزهم عن تغيير الواقع:
قال لي الشيخ: إن الحسين
مات من أجل جرعة ماء
..............................
إن تكن كلمات الحسين
وسيوف الحسين
وجلال الحسين
سقطت دون أن تنقذ الحق من ذهب الأمراء
أفتقدر أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشعراء؟
والشاعر نزار قباني الذي صاح يوما:
أكتب...
كي أفجر الأشياء، والكتابة انفجار
أكتب...
كي ينتصر الظلم على العتمة
والقصيدة انتصار
هذا الشاعر نفسه آب إلى رشده الشعري، واعتبر قصائده السياسية مجرد فرقعة وضجيج، يقول بهذا الصدد:
جميع القصائد العصماء التي كتبناها بحماس عظيم ليلة الجمعة انتقلت إلى رحمة الله صباح السبت...، وبكل صراحة أعلن أمامكم أن كل الملاحم السياسية التي ملأنا بها الدنيا فرقعة وضجيجا، لم تكن أكثر من ريبورتاجات صحفية وضعها التاريخ في سلة المهملات" .
ونتيجة لهذا الإحساس بالقرف واللا رضا في عالم اختلت موازينه تمني ذات الشاعر نورالدين الزويتني نفسها بالعيش في عالم آخر، لا يشبه الأرض ولا السماء، تعثر فيه على وطن آخر وبشر آخرين ربما تجد فيهم ما افتقدته في البشر الحقيقيين، تقول في قصيدة سماء لا تشبه السماء:
الليلة أضع
أناقة صامويل بيكيت
وقبعة جيمس جويس
ونظرة بوكاوسكي
ثم أصَّاعد
فارهًا كنعش
نحو سماء لا تشبه
السماء،
وملأ لا يشبه
الملأ،
لعل من هناك
أرى وطنا آخر
سوى الوطن،
بشرا آخرين
سوى البشر،
تاريخا بدل التاريخ،
وخارطة بدل
الخارطة ! .
هكذا إذن يرى الشاعر نورالدين الزويتني الإبداع والكتابة، وقد صدر في موقفه هذا عن رؤية عميقة استقت واستمدت أصولها من نظرة عميقة للحياة، ومن ثقافة موسوعية، رأينا كيف تجسدت في شعره من خلال هذا الاستدعاء المثير لقبيلة الشعراء التي لا تعرف الحدود، ومن تناص شعره مع نصوص كتاب وشعراء في الشرق والغرب، ومن تضمين شعره نظريات ومذاهب أدبية وفلسفية مختلفة، وهو ما ينم عن نضج إبداعي كبير ساعده فيه إتيانه القصيدة من جهة المعرفة بتعبير ياسين عدنان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى