عباس محمود العقاد - تناسخ العادات

ماذا يقول السائح الغريب إذا نزل بالقاهرة يوم الأحد فرآها - أو رأى الكثير من أحيائها - مغلقة الدكاكين والمصارف وكاتب الأعمال؟

إنه سيحار في تعليل هذه الظاهرة

وربما رفع بصره إلى الأسماء ليتبين أديان أصحابها فيزداد حيرة على حيرة، لأنه يرى بينها اسم محمد وحسن ومصطفى، كما يرى بينها اسم جرجس ونيقولا وكوهين!

فليس اليوم يوم صلاة دينية عند جميع هؤلاء، وليست البطالة لمعنى من معاني الدين يتفق عليه أصحاب الدكاكين أجمعين

العل القوم إذن خاضعون لحكومة مسيحية؟

ولا هذا أيضاً هو سبب البطالة في يوم الأحد. فأن حكومة البلد حكومة إسلامية، ولم يكن حكامها الأجانب - يوم كانوا يحكمونها - ممن يقترفون هذه الغلطة السياسية التي لا تؤمن عقباها، وهي غلطة الإكراه في مسائل المعتقدات

ولا شك أن الحيرة ستزداد وتزداد إذا طال المقام بالسائح الغريب إلى العيد السنوي المشهور باسم عيد الميلاد

أي إلى اليوم الخامس والعشرين من الشهر الثاني عشر من السنة الميلادية

فإنه سيرى أناساً من المسلمين يسهرون في ليلة هذا العيد ويحتفلون به في المنازل والمحافل، ويطربون فيه ويقصفون

أتراهم يقصدون الاحتفال لمعنى من معاني الدين؟

كلا. ولعلهم لا يذكرون ما معناه على التحقيق. ولكن العادة الاجتماعية هي التي حسنت لهم هذا الاحتفال على سبيل المحاكاة، والعادة الاجتماعية تعززها المصالح الاقتصادية هي التي عممت بين فريق من المسلمين بطالة يوم الأحد، لأنهم يربطون بالمصارف والشركات التي تنقطع عن العمل فيه، فلا يحبون أن ينقطعوا يومين كل أسبوع، ولا يستطيعون أن يعملوا أيام الأسبوع كله. فبطالة الأحد إذن أيسر الحالين

لكن ما العمل إذا كان السائح الغريب من أبناء القرن الأول للميلاد ورأى هذه الأعي الأسبوعية، وهذا العيد السنوي، في لندن أو باريس أو روما أو برلين، ولا نقول في القاهرة أو دمشق أو بغداد؟

أيخطر على البال أنه لا يرى في الأمر عجباً ولا يحار كما حار صاحبه من إحياء هذه الأعياد بين المسلمين في العصر الحديث؟

أيخطر على البال أنه سيرى الأمر طبيعياً مألوفاً لا يوجب التساؤل ولا يتطلب التفسير؟

كلا. فإن حيرته لأصعب، وإن عجبه لأعجب! لأن الخامس والعشرين من شهر ديسمبر لم يكن قط عيد الميلاد في القرن الأول ولا في القرن الثاني ولا في القرن الثالث للسيد المسيح

ولم يكن يوم الأحد قط يوماً يحتفل به المسيحيون في تلك القرون الأولى

بل كان يوم الأحد قط يوماً يحييه عباد الشمس، لأنه كان عندهم يوم الشمس كما يسمى بالإنجليزية إلى اليوم

وكان اليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر هو يوم انتصار الشمس على أعدائها الثائرين عليها، وهم أرباب الظلام.

ففي هذا اليوم - كما ظهر لهم من حسابهم - يأخذ الليل في القصر ويأخذ النهار في الطول، وفي هذا اليوم - على هذا الاعتبار - ترتد جيوش الظلام أمام جيوش النور، وترجع للشمس حصتها الوافية من الزمن، فلا يسلبها الظلام حصتها من الملوين.

فكان المصريون يحتفلون في هذا الموعد بعيد حوريس، وكان اليونان الأسيويون يحتفلون فيه بعيد مترا إله النور، وكان الرومان يقيمون في الأسبوع كله - من اليوم السابع عشر إلى اليوم الرابع والعشرين - عيدا يسمونه ويتبادلون فيه الهدايا ويقدمون القرابين إلى الأرباب

ولم تتفق كلمة الكنيسة الغربية على الاحتفال باليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر إلا في منتصف القرن الرابع للميلاد. أي سنة 254.

وكان رؤساء الكنائس قبل ذلك يرون أتباعهم يقبلون على محافل الوثنيين في تلك الأعياد فيصرفونه عنها ويحببون إليهم أن يشهدوا الصلوات تكريماً للسيد المسيح بدلاً من شهود المقاصف والملاهي ومعابد الوثنية التي تفتنهم عن الأيمان الصحيح.

ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم يثبتون تاريخ الميلاد ويوم الاحتفال، بل لأنهم يرون السيد المسيح أحق بالتكريم والذكرى من مترا وحوريس والشمس وغيرها من الكواكب. ثم تدرجوا إلى الاحتفال بميلاد السيد المسيح بديلا من ميلاد تلك الأرباب.

على أن المتطهرين الذين اشتهروا باسم (البيوريتان) في البلاد الإنجليزية حرموا الاحتفال باليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر واستصدروا بذلك قرارا من البرلمان سنة 1644، وعللوه باستنكارهم لإحياء السنن الوثنية القديمة، واستندوا إلى التواريخ الإغريقية والرومانية القديمة وإلى تاريخ الإنجليز أنفسهم قبل التدين بالديانة المسيحية. فقد ذكر مؤرخهم الكبير بيد الملقب بأبي التاريخ الإنجليزي أن القبائل الإنجليزية الأولى كانت تحي ليلة الخامس والعشرين من ديسمبر وتسميها ليلة الأمومة لأنهم كانوا يقيمون احتفالهم بها قبيل الفجر استقبالا لمولد النور وهو في باكورة أيامه، ولم يكن (بيد) من المخالفين للكنيسة بل كان من كبار رجال اللاهوت، وعاش في القرن السابع للميلاد بين القساوسة والرهبان.

فعادات اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر مزيج من عادات عشرين أمة أو تزيد، وبعض هذه العادات سابق لمولد السيد المسيح وبعضها لاحق له بل متأخر إلى أيام القرون الوسطى.

فأما العادات السابقة فقد ألممنا بطرف منها فيما تقدم.

وأما العادات اللاحقة فمنها عادات الشجرة التي تسمى بشجرة عيد ميلاد وهي من شعائر البلاد الشمالية ولاسيما بلاد الجرمان.

ومنها عادة تعليق الجوارب إلى جانب الفراش وهي مأخوذة من الفرنسيين والبلجيكيين.

ومنها تسمية القديس الذي يطوف بالهدايا على الأطفال وهم نائمون، وهي مأخوذة من الهولنديين. واسم القديس سانتا كلوز من أسماء التدليل والإعزاز للقديس نكولا الذي سجنه القيصر دقلديانوس وأطلقه القيصر قسطنطين. . فليس هو من الهولنديين في أصلة ولا من الأوربيين على التعمم؛ لأنه من أبناء آسيا الصغرى على أشهر الأقوال، واسمه كلوز هو الاسم الذي يستخف على ألسنة الأطفال الصغار للتدليل والتحبيب.

شيء من آسيا الصغرى، وشئ من فلسطين، وشئ من هولندا، وشئ من أوربة على الاجمال، ويحتفل به المشارقة والمغاربة في آسيا وأفريقية. . . ومنهم مسلمون.

فأي دواء لعصبية العادات والشعائر أصح من هذا الدواء؟ وأي سخف في العقول أسخف من عداوة إنسان لإنسان أو أمة لأمة لاختلاف عادة يقال إنها عادة دينية، وقد رأينا كيف يشترك اليوم الواحد في احتفال عباد الشمس وعباد حوريس وعباد الله وعباد سائر الأديان بين سائر الأقوام؟

ومن الطريف أن أناسا من هنود أمريكا الحمر تعودوا أن يقطعوا الجبن في ليلة عيد الميلاد ولا يدرون فيم هذه العادة حين يسألون عنها.

ولكن الإنجليز حملوها معهم إلى القارة الأمريكية فأصبحت من العادات الاجتماعية التي لا علاقة لها بشعائر الدين.

وهل لها مع ذلك علاقة بالدين عند الإنجليز أنفسهم قبل الهجرة إلى القارة الأمريكية؟

كلا. . بل هي من بقايا عادات (القلت) التي كان يباشرها كهانهم المعروفون باسم الدرود. . وكانوا يباشرونها قبل غزوة الرومان للجزر البريطانية.

وأطرف من هذا في باب تسلسل العادات أن ولائم هذا العيد لا تخلو في الشرق والغرب من الديك الذي يسميه المصريون بالديك الرومي، ويسميه أهل الصعيد منهم بالديك المالطي، ويسميه الإنجليز بالديك التركي، ويسميه الفرنسيون بالديك الهندي ' ومنها أخذنا كلمة (الدندي) التي نسمي بها هذا الديك في بعض الأحيان.

فما علاقة هذا الديك الموزع الأسماء بين الأمم بعيد ميلاد السيد المسيح؟

أكان له شأن في قرابين عيد الميلاد التي اصطلح عليها المسيحيون الأسبقون؟

لم يكن له شأن قط بذلك العيد بين المسيحيين الأولين. بل لم يكن معروفا في الدنيا القديمة قبل كشف القارة الأمريكية. لأنه كان من طيور أمريكا الشمالية، ونقل منها إلى جنوب أوربة فأخطئوا في نسبته إلى الشرق، كعادتهم يومئذ في نسبة كل وارد جديد إلى البلاد الشرقية.

ومع هذا يراه السائح الغريب حتما على مائدة الشرقي والغربي في ليلة عيد الميلاد، فيحار ولا يرى آخر الأمر مناص من نبذ الحيرة ظهريا في أمثال هذه الشؤون.

فالعادات الاجتماعية وراثة بين البشر أجمعين، وقلما تنحصر عادة من عادات المحافل العامة في قبيل واحد يستأثر بها من البداية إلى النهاية.

إنها أسرة واحدة. . . ففيم الخلاف على العادات والشعائر والأيام والأعياد؟؟

عباس محمود العقاد

مجلة الرسالة - العدد 703
بتاريخ: 23 - 12 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى