عبد القادر لحميني - ليس كل اللعب ينتهي!(مقطع من مسودة رواية)

ما كنت واثقا منه إلى درجة اليقين الذي لا يعتريه شك هو أنني كنت تافها، وتحت شمس مدينة "المرس" الصغيرة التي لا تغيب أبدا عن مخيلتي ثمة من كان يعاديني على ذلك كون أنني كنت في اعتقادهم خبزا سهلا على طبق خفيض لا أبحث عن أي شيء و لا أطمح إلى أي شيء و هذه رواية أخرى، و صادفتُ جماعة و صرت أدين لها و صارت تدين لي، كنت لا أجد غضاضة في إتباع سبيلها و تنفيذ أوامرها على الوجه الأكمل الذي يليق، أقصد الذي يليق بها كجماعة. و كأنها صادفت مني هوى غريبا من نفسي أو صادفته منها، أو ما شابه ذلك. ولا أحد من أعضائها التافهين كان له الحق في الرفض أو الاعتراض أو إبداء رأي أو ملاحظة، ما كان يغرينا أكثر هو أن نكون نشازا وصعاليك لا أن نكون منضبطين بالمرة كما البقية، وكانت أفعالنا الخرقاء في معظمها تلك، تأتي بغتة و من غير مقدمات، والحاصِلُ من أعضائها ـ أي الحاصل في اللعبة ـ وإن تدمر وانفعل، لابُدَّ له وأن يخضع و يستجيب، مهما فعل وتعذر بالأعذار الواهية و إلا لكان خارج اللّعبة السخيفة، وبعدها يدبِّر الأمر الذي يراه مخرجًا ملائما من المأزق أو الورطة التي أُوقِع فيها بنجاح. بقدر ما كانت تغويني الجماعة بطيشها كنت أتجافى أن أقع معها في الأسوأ أو في المحظور على الأقل من الناحية الأخلاقية، كأن يُطلبَ مني على حين غِرّة أن أمشي عاريا إلا من تبان بشارع ( لويس جانتي) العريض أو أطارد كلبا ضالا في المحطة ( لاكَار) من أجل انتزاع قبلة من فِيه أو أصافح قائد ملحقة "المرس" وزيه العسكري و وُجُومه وصرامته أو ألِجَ دارا للغير وأدلف على أهلها إلى قيعان البيوت وأجلب معي بعض الأغراض أو الأمتعة، وقد حدث وتكررت حماقات من هذا النوع وطلبات يندى لها الجبين و لا يصدقها إلا الخيال وحده. ما هرِبْتُ منه وقعت فيه، لكن ليس بالحدة أو القدر الذي كان يؤرقني أو الذي كنت أتوجس منه وكنت أحصي أيامه إتباعًا و أعُد لها العدة. وجدت نفسي في "سويقة" الغبار أمام العرافة، وهي "السويقة" التي كانت تنبت كالحدبة يوم الجمعة على ظهر مدينة "المرس" غربًا. وإن كان الحدث ليس له من الأهمية ما يجعلني أذكره، لكن ما تفرع عنه أكثر مما كنت أتصوره منه في الغالب وقد كنت أظنه شيئا عابرًا، لا يرقى في ظني إلى مستوى ما كنت أتهيب منه، ينتهي بانتهاء الوقوف أمام العرافة أو يتلاشى بريقه مع أول خطوة أرمي بها خارج الحلْقة، ونتلهى به بعض الوقت بالشد والجذب وبعدها يُنسى إلى الأبد، لكن ليس كل اللعب ينتهي، منه ما يبقى حاضرا إلى أمد في الذاكرة وفي الوجدان!. كان منَّا بدر عاتب هو من يقف وراء تلك المقالب بطبيعته المرحة وروحه الميَّالة إلى اللعب ويخدُمها إلى حد المفارقة الصارخة ليصنع منها الحدث. وفي غفلة وقد كنا ننوي طي صفحة النهار تلك من غير شيء يذكر باستثناء بعض المناوشات الباهتة التي لاتسمن ولاتغن، دفعني من الخلف إلى داخل الحلْقة و تبعني بإيماءة من عينه اليمنى، وكأن لسان حاله يقول لي : تفضل ! تلكأت في البداية ووقفت أمامها، والدافع من هذا كلّه هو تحقيق متعة أو لخلق جوٍّ مخالف نتلهى على بقاياه أو على فتات طعْمه يوما آخرا أو ليومين آخرين. صدَّقت العرافة ما يحدث من ذلك الهراء وفي رهبة العجائز سحبت بيدها المرتعشة عظم لوح الكتف التي كانت تحفظها مابين ركبتها والبساط المبقع الذي كانت تفترشه،و بصوتها الخَافت ولغتها الأقرب إلى الإشارة أخذت تدندن و مقدمة رأسها في بطء جيئة وذهابا، تتأمل وجهي العفر وتارة تصرف النظر إلى جوف العظم اليابسة، وكأنها بذلك تحاول أن تعثر على ضالتها الشاردة التي تنشد أو على عبارتها الجامعة التي ترغب والتي في أسرار مهنة العِرافة تقول كل شيء ولا تقول أي شيء؛ من جهتي أظهرت نحوها رغبة المتلهف الولهان الذي قاده الشوق والظمأ إلى التقصي والارتواء و كي لا ينفلت مني عِقْد الحزم و تضيع خرزه الثرى وتنكشف اللعبة، قطبتُ حاجبي، كتمت أنفاسي و دفعت عني الضحك الجارف الذي يخالطني ما استطعت؛ ثم نَظرتْ إلى العظم اليابسة، وزاد من تهكمي أنها المسكينة كانت مهتمة كثيرا وبارعة لما تفعل، بعد هنيهة رفعت رأسها وقالت:

ـ ...أنت ابن البحر.. !!

مع هذه العبارة الغامضة التي لا تعني شيئا في ظاهرها إلى الجماعة التي تقف من ورائي، إلا كلاما فارغا في كلام فارغ، ذهبت عني كل تفاصيل الانتشاء الصغيرة وكأنها لامست جزءا من السر الذي لطالما أخفيته على نفسي وأجلت النظر فيه إلى حين وعلى الجماعة التي أدين لها بالولاء . وأنا أقف أمامها متأبطا محفظتي، حلقت بي بعيدا و فصلتني عن الواقع و أعادتني أميالا إلى الوراء، أرجعتني إلى قماشي الأول، إلى تلك الحَلَقَة الضائعة بين ثنايا الروايات المتضاربة،إلى ملتقى شارع (زمْرَان) ومدخل حديقة (الصليب)، حيث وُجِدت أول مرة بالقرب من حاوية قمامات.. ثم نَظرَتْ إليها أخرى وقالت :

ـ كان الحر، وعندها هاج البحر وماج واحتضن اليابسة، قذفك ماءً على الشط، بعدها تَبَخَرْتَ و تحوَّلتَ إلى سراب !

ذُهِلت من هذه التي كانت واثقة من نفسها وأصابني الخرس أيما إصابة وهي ترجعني إلى هذا التلاقي الغريب الذي كنت استبعد زمنًا أن يكون تحت الشمس وعلى الشاطئ بين البحر واليابسة، وهي على مهل العجائز تقلب بين أصابعها المتغضنة عظْم لوح الكتف اليابسة و تنفذ إلى عمق أسرارها في سمْت وتنسج معها خِرقاً بالية من الحكاية. لم يدرك أحد من الواقفين ممن تمتد أعناقهم كثعابين القصب إلى داخل الحلقة ولا من جماعة زملائي التافهين، تلاميذ الصف الثاني الثانوي، أن هذه القابعة في البياض غلقت عليَّ الأبواب والنوافذ وما من شيء أتوخى منه النجاة إلى حيث المواربة أو الهروب وأصابت سقف انتظاري وتركتني تائها لا ألوي على شيء، قشة تافهة من دمار كبير، و اختصرت ذلك كله في جملة واحدة : « أنت ابن البحر » ، بل وأيقظت من كُمونها العميق خطْبٌ منَ الأسئلة الحافية التي لا يحد من غضب جموحها شيء ولا تهب الحواجز والأسلاك ؛ صنعت فُزعة ابتسامة من ثغر فاغرٍ وغصة حلق مريرة و كي لا تتعقبني من القفا بدعواتها الطائشة، مددتها مما تحصَّل عندي من بقشيش قروش. صرت أتسلل شَبَحَ ظِلٍ من بين جموع "سويقة " سوق الغُبار، الغفيرة ، التي لا تخلُف وعدها مع كل يوم جمعة أتخطى الأوتاد و الحبال، و صرت أبتعد عن جماعة بدر عاتب شيئا فشيئا، لا أدرك مما يقع من نزق الهائمين على وجوههم و لا من حركات شفاههم شيئا إلا من طنطنة* تملأ سمعي وغشاوة تحجب بصري؛ كان لكلام العرافة يومئذ وهي تنظر إلى العظم اليابسة وقْع الموت الزؤام من أرض فلاة موحشة حيث يحضر الموت وحده دون نعيٍّ من أحد أو مواساة و هي تتطلع إلى تقاسيم وجه تلميذ ثانوي، يدعى سعيد بدري، ساقه إليها بلا كلل زمن الظهيرة وحب الفضول وصحبة الأقران.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى