سلام إبراهيم - مريم الأوكرانية*.. فصل من رواية

باغته وجهها المذهل حال دخولهم الغرفة.. كانت تجلس في الركن المواجه للباب لامةً ساقيها تحت كتلتها وتخالس النظر وكأنها خجلة من الحضور. الغرفة تضيق بالمائدة الطويلة المصفوفة عليها أطباق من مختلف أنواع اللحوم المشوية والفواكه والخضر والخمرة.. أفسحوا له الطريق مرحبين.. خطا مقتربًا من جلستها. ارتعد لما صار على بعد مترين منها.. ساكنة، مسبلة الأجفان، وكأنها موشكة على النوم. في المسافة من الباب حتى الكرسي القريب منها كانت تباعد أجفانها خطفا، وترشقه بنظراتٍ خاطفة ناعسة، بعثت في عظامه الرعدة. فهتف مع نفسه بصمتٍ:
- يا إلهي!.
في الخطوات القليلة، أبحر في الكتلة المنحوتة ببراعة شاعرا نحوها بألفة شديدة، وكأنه يعرفها منذ زمن سحيق.. تقاطيع تسحر القلب وتملك الكيان، تحفر لها فورًا مكانًا في الذاكرة وتبقى مادامت الذاكرة.. ستظل تعاوده حية وفي ملامحها الخجل والحياء نفسه المصحوب بحمرة تطليها بغتة، وهو يتطلع في وجه «مريم» المطل على وقفته في الكنائس، التي جابها كلها في فترة تشرده المريرة.. سيخلد ساعاتٍ جالسًا إزاء الملامح الطالعة من باطن الجدار الصخري.. سيخلد مسترخيًا، وكأنه يجلس في تلك الجلسة العابرة في غرفة بسكن جامعي في «ﻛ-;-ﻴ-;-ﻴ-;-ﭫ-;-»؛ حيث كانت تجلس جواره، يفصل بينهما كرسي صاحبها الشيوعي اللبناني الشاب النحيف الرقيق صاحب الدعوة.
- هل ثمة وجوه نساء نراها في المخيلة قبل اللقاء الفيزيقي، أم أن ذلك من شطح محروم أدمن الأخيلة؟!.
قبل أن يجلس إلى كرسيه، عرّفهُ صاحب الدعوة بالحاضرين. شاب لبناني من قرى الجبل، طويل القامة، نحيف، باسم الوجه مع زوجته الروسية الشقراء، يوناني أبيض وديع القسمات، روسية مع صاحبها.. كان «إبراهيم» يصافح بحرارة كل من يشير إليه صاحب «مريم»، إلى أن وصل إليها فقال:
- هذه حبيبتي «ماريا»، أسميها أنا «مريم».. أوكرانية.. لكنها أشدّ تحفظًا من شرقية!.
لم تقُم من كرسيها.. رفعت رأسها نحوه، وتبسمت بعذوبة هازةً رأسها هزة ترحيب، فجعل شعرها الناعم المنسدل حتى حافة مقعد الكرسي يهتز برقصة خفيفة.. التهمها بعينيه النهمتين خطفًا، وهبط جالسًا..
هتف مع نفسه بصخب وصمت:
- لو ألمس هذه «المريم».. أكمل ديني!.
kh salam alhayat lahdaإلى جانبه جلس «جلال التونسي» وصديقته الروسية «أستيرا» الشقراء الطويلة، التي لا تغادر قسماتها البسمة والتي تكبرهما قليلًا. أخبره «عزيز» بأنها أي صاحبة «جلال» شريفة جدًّا بتورية محض عراقية تشير إلى عكس الكلام الظاهر.. رد عليه معلقًا بضيق:
- تبقى شرقي الشرف بس بذاك الشق اللي طلع منه كل البشر!.
كان الترحيب بـ «إبراهيم» عاصفًا.. الجميع يحدق نحوه بعينين مفتوحتين باسمتين، يختلط فيهما الإعجاب بالدهشة، مرددين كلام الترحاب باللهجة اللبنانية الناعمة، فتذكر تعليق «صالح» لما عثر عليه:
- قصة ضياعك صارت على كل لسان!.
هاهو «إبراهيم» يجد نفسه في دائرة ضوءٍ ساطعٍ مربك؛ فالعيون شاخصة نحوه، والهمس يدور بالروسية بآذان النسوة الحاضرات، وكأنهم ينتظرون منه شيئًا خارقا لعادة يومهم.. كان مع نفسه يعجب متسائلا:
- ماذا ينتظرون مني، وأنا شبه صعلوك ضائع!.
جعله الأمر يشعر بالحرج ويلزم الصمت ساكنًا.. لكزه «جلال» بكتفه هامسا:
- يحكون عنك لعشيقاتهم.. كيف خطفتك الأوكرانية، وأنت الذي لا تحكي الروسية وضمتك في الشقة، وكأنك شخص هبط من ألف ليلة وليلة!.
- ..!.
لم يعلق «إبراهيم» بل راح يتأمل قسمات الوجوه المحيطة، التي بدت شديدة الود مثلما يشعر هو لما يتعاطف مع شخصية في رواية، أو حكاية ما يقرؤها في كتاب.
- هل يرون بي شخصا طالعًا من باطن رواية؟!.
همس مع نفسه بصمت منتشيًا من خيال الفكرة، التي قطعها صوت «جلال» وهو يضيف:
- «إبراهيم» يحكون الآن عن خوضك الكفاح المسلح طوال الثمانينيات!.
كل ما يذكره «جلال» مرَّ بـ «إبراهيم» دون أن يفكر هو فيه، بل كان ذلك مسارًا منسجمًا مع مغامرة الخلاص من موت يحيط بك من كل جانب في العراق، ولكن يبدو أن التجربة التي خاضها تكتسي معاني مختلفةً لدى هؤلاء الطلبة الجامعيين اليساريين في رخاوة حياة الدول الاشتراكية، التي توفر لهم السكن والدراسة بأسعار رمزية لأسباب أيديولوجية، تتعلق بتنظيمات أحزاب بلدانهم الشيوعية.
- ..!.
أمعن في صمته متكورا وشاعرا بالضيق من شدة الهمس وحرارة العيون.. وحاول أن يشغل نفسه بالنظر إلى المائدة العامرة بأنواع اللحوم المشوية على الفحم، والمقبلات الشامية، حمص بطحينة، فول، تبولة، أنواع مختلفة من السلطات المزينة اللامعة تحت مصباح الغرفة المتدلي من السقف، وكؤوس النبيذ الأحمر القاتم الموزعة بدقة؛ فأمام كل كرسي كأس مملوءة حتى الثلثين..
كان فارغًا من كل شيء، ويبدو أن هذا الشعور قد وصل إلى الحضور فانشغلوا عنه متحدثين بشأنهم، الجامعة، والدراسة، والصراع، وسقوط الشيوعية المدوي، وقضية تسليم السلطات الروسية «أريش هونكر» رئيس ألمانيا الشرقية سابقا إلى ألمانيا التي أسقطت جدار برلين وتوحدت.. مواضيع جعلت «إبراهيم» منزويًا في صمته يتأمل الوجوه والمشاعر والعيون الغاضبة، المتلصصة، المحبة.
لاحظ أن «مريم» كانت ترمقه من تحت أهدابها الناعسة خلسةً لما كان مشغولا في الإنصات والمراقبة.. وجد في ذلك لعبة تلهيه عن الحديث الممجوج المتكرر، فاندمج فيها متخيلا نفسه صبيا يخالس صبية، تخفي جسدها خلف باب نصف موارب تسده وتفتحه تبعًا لعيون الرقباء في زقاق من أزقة «الجديدة» في الديوانية.. كان جسد اللبناني صاحب الدعوة هو الباب المتحرك لما يشارك بالحديث، فيندفع إلى الأمام حاجبا تكور «مريم»، ولما يهدأ، يتكئ على مسند كرسيه، فتظهر العذراء الناعسة الصامتة الحالمة دانية ترمقه من تحت أهدابٍ شبه مطبقةٍ، ولا يستمر ذاك النظر غير لحظة خاطفة؛ إذ سرعان ما ينفعل الشاب ويخوض في الحوار دافعًا جسده إلى الأمام، فيحجب مريمَ السارحة وكأنها تحلم..
دفعه ذاك اللعب إلى عبّ الكأس تلو الكأس من النبيذ الأحمر الذي صعَّد من الأخيلة.. وخزه «جلال التونسي» بكوعه منبهًا، ولما لم يفهم علامَ، قرب رأسه وهمس بأذنه طالبًا منه التروي بالشرب فالجلسة في أولها.. قابله ببسمة ساخرة وقرب فمه من إذن «جلال» قائلا:
- أريد فودكا!.
حدق فيه باستغراب، وهمس:
- «إبراهيم»!.
أصرَّ «إبراهيم»، فتناول «جلال» قنينة الفودكا وملأ له كأسه. استرخى على كرسيه منفصلا عن الحضور، وحالما بمكان ناءٍ مع امرأة فريدة، تجتمع فيها صفات كل النسوة اللواتي تعرف عليهن في حياته… لا يدري كم بقى سارحًا، لكنه فاء من جديد، وعاد يرمقها خلسة عبر جسد صاحبها النحيل.. في سكونها وتكورها وأهدابها المسبلة وعينيها لحظة النظر الخاطف بدت امرأة حلمٍ بعيدة المنال.. امرأة طالما حلم في صباه بمثلها بين بساتين النخيل والسواقي وفيء الجدران.. الجنية دانية جالسة على مبعدة أقل من مترٍ تفصله عنها الثقافة واللغة والعمر والوضع البشري.. لكن ثمة شعورًا غريبًا جعله يحس بأنها تبادله المشاعر نفسها، وإلا لِمَ لمْ تكف عن اختلاس النظر صوبه، ومبادلته التلصص الخاطف كلما سنحت الفرصة:
- تريد الغور بي مثلما أريد أنا!.
تبسّمَ لهذه الفكرة حالما، لكنه نفض رأسه:
- تبقى مجنونًا تُلقي على البشر ما تشاء من أخيلة لحظتكَ!.
حاول التخلص من الكتلة الجاذبة المتوارية والظاهرة خلف جسد حبيبها اللبناني الشاب بالإصغاء للمتحدثين في محاولة للتوازن والاندماج من جديد بمناخ الجلسة.. وجد الحديث يتناول يوميات الحياة الباهتة، ومتقطعا بالصمت المربك، الذي يكاد يجذبه ثانيًا نحو «مريم» الصامتة الساكنة، بعد الكأس الثانية وصعود النشوة إلى الرأس وسرت في الأطراف، فقطع حديثهم قائلًا:
- نظل بهذا الحديث؟!.
استدارت الوجوه نحوه. وكأنهم كانوا ينتظرون كلامه!.
حلَّ صمت وأنشدّتْ الوجوه نحوه مترقبة إلى أن قال أحدهم:
- حدثنا أنت يا «إبراهيم» عما جرى في فترة اختفائك في ﻛ-;-ﻴ-;-ﻴ-;-ﭫ-;-!.
رد على الفور، وهو يستعيد فترات الاختفاء في بغداد، التي كان يقضيها مرعوبًا في الغرف والظلام متوقعًا القبض عليه والهبوط به إلى العالم السفلي في أقبية، تضخمها مخيلة المرعوب، وتحيلها إلى أمكنة فزع مطلق:
- أول مرة أختفي في الجنة!.
وأردف:
- ليس في القصة أي شيء مسلٍ، ما عدا ما يحدث بين امرأة وحيدة ورجل صعلوك ضائع!.
ضجوا بالضحك مما تومئ إليه جملته من مباهج.
قال الشاب اللبناني الوسيم الجالس في مواجهته:
- كلنا نريد أن نسمع منك قصتك في الكفاح المسلح، وما رأيته من تجارب!.
وافق الجميع على قوله، فحملق «إبراهيم» مفكرًا بشرودٍ لحظةً، عن ماذا يحدثهم؟! فالتجربة واسعة غزيرة ومتنوعة، ولما كان الطلبة من اليسار.. فعلى الأغلب يريدون سماع بطولات ومآثر تذكرهم بـ «جيفارا»، وهذا بالضبط ما لا يريد الكلام عنه، بسبب موقفه من الأيديولوجيا والقتل من ناحية، ولا يريد فتح نقاش يحوِّل السهرة إلى ندوة وحوار، فتضيع عليه «مريم» الناعسة التي قد لا يراها مرة أخرى إلى الأبد.
شمل الحضور بنظرة مرت خطفا على المتكورة، فوجدها تحملق فيه منتظرة، مثل الجميع.. لمعَ بذهنه خاطرٌ فقال:
- لا أريد الحديث عن القتال والبطولات.. ذلك شبعتم منه من خلال قصص الأنصار الروس بالحرب العالمية الثانية. فكل العملية تتلخص بالقتل والقتل المضاد، ولكن سوف أروي لكم طرفًا من نوادر من عشت معهم من شخصيات أغرب من شخصيات الروايات، وهم من لحم ودم، عاشرتهم ورأيت منهم ما لم أره إلا في الروايات.
كانوا ينصتون بسكون.. أنهى جملته الأخيرة وصمت لثوانٍ وسأل:
- ما رأيكم؟!.
هبوا فورًا قائلين:
- احكي.. احكي يسلم فمك!.
تمعّنَ فيهم، قبل أن يشرع في الكلام، فوجدهم متشوقين يشخصون نحوه بعيون منتظرة وملامح متحفزة.. فكر وهو يحملق بالوجوه المحيطة عمن يحدثهم، فالكثير من الشخصيات التي عاشرها في الجبل تستحق الروي، وعليه أن ينتقي ما يتناسب مع الجلسة وهذه الوجوه الجميلة الناعمة.
ومن بين كتلة الوجوه المزدحمة في ذاكرته.. سطع وجه «أبو لينا» المكنى «بولد سالك» لشبهه الكبير بأشكال الصوماليين ممن كانوا يبيعون الفستق في شوارع بغداد في السبعينيات، بوجهه المخروطي، ولحيته الملمومة كقبضة صغيرة، ونحوله الشديد، وطول قامته، وشروده الدائم المصحوب بصمت المتأمل الحلمان.. من أين يبدأ؟.. لابد من تقديم ما عن هذه الشخصية الطريفة الغامضة التي تدور حولها النوادر المضحكة والتي لما يروونها له عنه يقابلهم ببسمة واسعة ولا يعلق بشيء.. وصف شكله، وأخبرهم بإيجاز عن سلوكه الهادئ في مواجهة سيل النوادر، التي يسمعها عن نفسه في المقدمة، قبل أن يدخل في متن القصة:
- رأيته أول مرة لما صعدت من القاعدة في أسفل الوادي إلى موقع مقاومة الطائرات الكائن جوار نبع الماء تحت القمة مباشرة. كان بصحبتي رفيق فنان مسرحي «عدنان» معجبا بشخصية «أبو لينا» جدًّا، وهو الذي حكى لي عن طرافته، وأكد لي بأنه مثقف ثقافة موسوعية ومتذوق للشعر، ويحفظ جلّ أشعار «سعدي يوسف».. وفعلا لما جلسنا تحت شجرة حور عملاقة جوار النبع، قرأ علينا باقة من تلك الأشعار بصوت متهدج شديد الحساسية والرقة يوشك على البكاء.. لكنه بعد ذلك لزم الصمت ولم تفلح كل محاولاتي لجعله يحكي أو يحاور في الثقافة وما يجري حولنا في خضم يوم حرب العصابات العسير.
كان يحكي أكثر ما يحكي عن الشاي وكيفية تخديره، وهو المكتشف طريقة خاصة بتخدير الشاي، إذ يقوم بغسل ورق الشاي الجاف قبل إضافته إلى الماء الفائر الموضوع على الجمر، وبلحظة معينة يضيف أعشاب خاصة يجمعها من الفسحة الكائنة على قمة من قمم سلسلة جبال «متين»، تعطي للشاي نكهةً وطمعا مميزًا ومختلفًا لم أذق مثله حتى هذه اللحظة. قلت مع نفسي:
- إما أن في علاقة صاحبي المسرحي سرًّا ما مع «أبو لينا»، وإما أن يكون «أبو لينا» من نمط المثقفين الموسوعيين، الذين كنت التقي بهم في بغداد أواسط السبعينيات وكانوا يلزمون الصمت ولا يعلقون إلا عند الضرورة، طوال جلسات الحوار الضاج في بارات «أبو نواس»؟!.
لكن الاحتمال الثاني راح يضعف رويدًا.. رويدًا مع تكرار تلكؤه في أي حوار، واكتشافي أن « أبا لينا » يوفر لـ «عدنان » العرق المهرب من القرى المسيحية سرًّا إلى القاعدة.
عند هذا الموضوع، قاطعوه:
- شو شرب الخمرة ممنوع في الجبل.. شو من منعه؟!.
بدتِ الأصوات مستغربة جدًّا، فعلق «إبراهيم» ضاحكًا:
- ممنوع.. يعاقب الرفيق على الشرب عقوبة شديدة بقرار من آيات حوزة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي!.
ضجَّ الجميع بالضحك، فيما كان الجميع منغمرًا فيه التفت نحو «مريم»، فرآها قد غادرت تكورها، واستقامت بجذعها العلوي فنهد ثدياها الصلبين من تحت القميص الناعم، محملقة نحوه بعينين مفتوحتين، فبان عسلهما الصافي اللامع تحت ضوء مصباح معلق على الجدار المقابل لجلستها.. أحس أنها تلعقه بعينيها، ارتجف للحظة وشرد بعينيه، ليسمع تعليق الشاب الجالس في الناحية القريبة من الباب المردود:
- معقول.. حزب شيوعي يمنع على أعضائه الشرب!.
لم يرد الخوض في هذا الموضوع، فقال:
- هذا موضوع ثاني، دعوني أكمل القصة!.
صمت الجميع منشدّين إليه.
- صارحت صاحبي المسرحي مشككًا في ثقافة صاحبنا، قلت له إنه من عباد الله المساكين.. رمقني بعينين غاضبتين واتهمني بالتعالي وهمس وكأنه يكشف سرًّا :
- «أبو لينا» كاتب مهم لا يختلف عن أي كاتبٍ مشهور لكنه صامت كشخصه في الحياة الاجتماعية.
قلت له يعني:
- نفس قصة «البريكان» البصراوي،
«أبو لينا» أيضا من البصرة.
قال بكل ثقة:
- نعم إنه كذلك!. قلت له:
- كيف يا صاحبي؟!… بصّرني!.
قال:
- أستطيع، لكن أريد منك وعدًا إذا جلبت لك نصًّا له أن تدع الأمر سرًّا.. الموضوع صار مختلفًا، قلت في سري.. قد أكون إزاء كاتب عراقي غامضٍِ صامتٍ، عاش تجاربَ قاسية يكتب بصمتٍ. قلت: إذن سيُعلمني الكثير!. وعدته بعدم البوح مقابل قراءة نصه الروائي، الذي أخبرني أنه في طور الإنجاز..
في الظهيرة التالية لحديثنا، أخذني صاحبي المسرحي على انفراد، وأخرج من جيب سرواله دفترًا مدرسيًّا من ثلاثين صفحة، مكورًا على هيئة أسطوانة، وقال لي: سوف تقرأ نصًّا اللغة فيه والموضوع يتفوق على لغة «عبد الرحمن منيف».. لم أكن أشك بذوق صاحبي المسرحي خريج أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، والذي أخرج عديدًا من النصوص المسرحية الشعبية، وقدمها في قواعد الأنصار في الجبل. قلت مع نفسي، شاعرًا بمزيجٍ من الفخر باكتشاف كاتب عراقي جديد، وحسد المنافسة فأنا بدوري أكتب قصصًا ومقالات:
- لعلني أمام كاتب صامت!.
تقتُ بفارغ الصبر ورود المساء حيث نؤوب إلى غرفنا.. وفي تلك الغرفة التي بنيتها بيدي على السفح، والتي لا تسع إلا لفراشنا المشترك ومنضدة أضع عليها الفانوس والكتاب.. رحلت بعد سقوط زوجتي في النوم مع الدفتر الصغير، وخط «أبو لينا» الرشيق بحروفه الناعمة التي أخذتني إلى مجنون يكمن في الجبل لصيد غزال بري يسمى «كيوي».. ثلاثون صفحة مسبوكة الصوغ صفعتني وقتها.. صفعت لغتي، التي كنت أكتب بها في طلاوة الجملة المنسابة اللاهثة المناسبة لفعل لهفة صياد، يخسر صيده في كل محاولة.
في اليوم التالي قلت لـ «عدنان»:
- أريد الحديث معه على انفراد، فما قرأته في الدفتر شيء مذهل، بالمقارنة مع ظروف حياة «أبو لينا» والنوادر الدائرة حوله.
أجابني محرجًا:
- إنه خجول.. لا يريد الخوض بأي حديث عن هذا الدفتر هذا أولًا، وثانيا أنا لم أخبره بأني أطلعتك على الدفتر!.
أصررت على الحديث معه على انفراد، وكنت موقنًا وقتها: إذا كان فعلا «أبو لينا» كاتب مثل هذا النص الذي قرأته، فخسارة إذا لم يكتب عن الحياة التي نعيشها كثوار في الجبل.. كنت أريد الخوض معه فيما يتعلق بتجربته الخاصة جدًّا في الكفاح المسلح.
- أتدرون فداحة التجربة التي عاشها؟!.
وجه «إبراهيم» سؤاله إلى المنصتين بدهشة، وأخذ نفسًا عميقا وصمت دقيقة، وهو يتفحص الوجوه في محاولة لجس مدى رغبتهم في مواصلة الإصغاء.. هبوا وكأنهم ينهضون من عالم آخر:
- ما هي.. ما هي؟!.
امتلأ «إبراهيم» بنشوة من لهفتهم.. فكر بـ «مريم» الأوكرانية.. من المؤكد أنها تراقب إنصات الحضور لما يقول مندهشة، رغم عدم معرفتها العربية. صمت هنيهة وشمل الوجوه المنتظرة بعينيه ومدَّ يده نحو كأسه المترعة بالفودكا.. عبها دفعة واحدة على طريقة الروس، وكان يظن أنه يتقرّب في فعل الرشف دفعة واحدة من «مريم» المتوهجة على بعد مترٍ لا أكثر.. مسح حافة فمه، وتأمل الوجوه التي رآها في نشوة الخمرة المتصاعدة حميمة قريبة، وكأنها وجوه إخوته وأخواته العشرة في بيتهم، الضيق بغرفته الوحيدة، قبل أكثر من أربعين عامًا في «الحي العصري».. واصل الكلام بنبرة ساخنة وهّجها شعور الأخوة المباغت:
- قصة عجيبة!.. هل تودون سماعها؟!.
سأل بنشوة قصاص شفهي، فردوا على الفور:
- نعم.. نعم!.
- أنتم لا تعلمون طبعا أن «أبا لينا» كان من أوائل المقاتلين الذين تسربوا من خارج العراق من جنوب لبنان تحديدًا، إلى كردستان عبر الحدود التركية والسورية أوائل الثمانينيات.. وقتها كانت السلطة قوية جدًّا، مسيطرة حتى على القرى البعيدة في الجبال النائية.. وكانت مفارز الثوار تجوب تلك القرى النائية بحذر، ولا تستطيع المكوث فيها إلا ليلًا إذ تغادرها قبيل الفجر.. أما حلم إسقاط النظام فوقتها كان مستحيلا، يتهرب الثوري من التفكير فيه حتى لا يُحبط..
كانت الظروف صعبة والتنقل فوريًّا، لا يحتمل أي طارئ.. وكان طارئ مفرزة من تلك المفارز هو مرض «أبو لينا» الغامض.. حرارة مرتفعة جدًّا، أقعدته عن الحركة، لا أدوية، لا طبيب، لا غذاء، استحالة البقاء في قرية معرضة لدخول الجيش في أية لحظة.. يضاف إلى تدهور حالة «أبي لينا» ساعة بعد ساعة؛ مما جعل المفرزة تعتقد بأنه موشك على الموت. ولما كان الوضع خطيرًا واحتمال وصول قوات السلطة في أية لحظة.. اضطرت المفرزة إلى تركه في بيت شيخ القرية جوار الجامع، واتفقوا على ترتيبات الجنازة معه، فدفعوا تكاليف الدفن.. ومع آذان الفجر قبيل الضوء، غادروا القرية وتركوه على فراش الموت.
لزم الصمت بغتةً.. وحدق في الوجوه المذهولة السارحة في محنة الثوري المريض.. قال مع نفسه:
- أية لذة هذه.. لذة القص الشفهي!.
انتشى متلذذا بلهفة وجوه الطلبة المنصتين، واقعًا على سر «شهريار»، قال في سره:
- الوهم رب السرد وطريقة القول ورسم الحدث بالكلام سرّ حكاية هذه الحياة، وشدّ السامع هو المفتاح، طوّلَ صمته مستمتعًا بفعل القص الذي جربه كتابةً، فلم يحس لذةً مثل لذة إنصات المستمع؛ فتمنى وهو يتأمل وجوه الطلبة أن يكتب قصصا تشبه ما يحكي لهم عن مصير رفيقٍ، عاد لا يعرف عنه شيئًا، فآخر مرة التقى به صدفةً، قبل سفره إلى روسيا بشهرين أمام باب «جامعة دمشق» جوار جسر «الرئيس»، كان يحمل قنينة عرق «ريان».. حضنه وسأله عن أحواله، فأخبره أنه في «الحسكة»، وهي محافظة سورية على الحدود العراقية، ويعاني من آلام بالقولون، وسوف يجرون له عملية جراحية في مستشفى «الحسكة»..
انفجر «إبراهيم» بغتة لاعنا المسؤولين، حيث يتمتع من يكون قريبا منهم، أو من يخشون من لسانه بالرعاية والتداوي لدى أفضل الأطباء والمستشفيات في «دمشق».. «هذا ما جرى له ولزوجته حيث عرضا على أفضل الأطباء»، بينما يُنْسى من يكون فقيرًا ساكنا في مدينة نائية، كما هو حال «أبي لينا». نصحه بعدم إجراء العملية في تلك المدينة النائية؛ وحرضه كي يطالبهم بنقله إلى «دمشق» أولًا، ثم يطالب بعرضه على الأطباء فيها. كان الوقت ظهرًا والشمس ساطعة.. عانقه مودعًا، خازنًا قسماته الناحلة، المعروقة، الساكنة، وفمه الذي تأتأ بهمهمة مبهمة.
لم يزل يتأمل وجوه الطلبة المنتظرة وعيونهم، التي تستحثه لمواصلة القص، فقال مخاطبًا نفسه:
- «إبراهيم» تمتع واحكِ لهم.. وكأنك تكتب وحيدا على ضوء فانوس، كما كنت تفعل في غرفتك الضيقة بالجبل، أو حينما تكون في مفرزة جوابة وتعود من نوبة حراستك، وترقد جوار محراب صلاة جامع قرية منسية!.
أطربه خيال الخاطر، فتبسّمَ وشرع في الكلام:
- هذه الحكاية لما سمعتها شغلتني أيامًا، لا بل شغلتني ولم تزل إلى هذه اللحظة وأنا أرويها لكم.. تخيلت نفسي في مكانه وحيدًا مريضا عاجزا لا أعرف الكردية، ثاويًا على فراش في غرفة بيت شيخ جامع قرية لا أعرف اسمها، وأمر بها أول مرة، وشبح الموت يحوم حولي، وكل ما فكرت فيه كثوري يتبدد في تلك اللحظات.. العنفوان والعزم والمقاومة وحتى رفاقي تركوني وحيدًا. سهرت لياليٍ طوالًا ماسكًا قلمي، تحت ضوء فانوس مرتجف شاحب الضوء.. رائيًا فراشًا منزويًا في غرفة، يحتضر فيها ثوري عافه الكل.. لكن القلم عصى عليَّ، فالمشهد والحالة من القوة والعنفوان وقتها لم أصلها بالحرف بل بالحس فقط.. وبقيت ولم أزل حتى هذه اللحظة أحلم بكتابة قصة عن مصير «أبي لينا»، التراجيدي الشبيه بمصائر شخصيات «شكسبير»، عشت هواجس ليله المحموم وغربته لغة ومكانا ومصيرا، وكتبت عن هذيان وحدته، لكن في كل مرة أمزق ما كتبت لعدم قناعتي بكلماتي، التي لم تستطع الرقي لمخيلتي وأنا أعيش وضعه البشري في تلك التجربة..
كنت أعيش تفاصيل حسية تتعلق بعمق الخذلان الهابط في لحظته حتى جذورها، وهو يراهم يغادرون القرية من دونه، كنت أرى المشهد كاملاَ.. هو يرقد على فراش بزاوية غرفة فقيرة عارية الجدران، ومسؤول المفرزة يتباحث مع شيخ الجامع في الزاوية القريبة من الباب، ومن وهج الحمى الصالية جسده، يحملق بعينين عاجزتين نحو الرفيق، وهو يناول كيس نقود للشيخ، ويغيب خلف ضلع الباب المفتوح.. تخيلت المشهد وبقية القصة!.
صمت «إبراهيم» وشمل الجميع بنظرة فاحصة، ولم ينس أن يتوقف للحظة خاطفة على كتلة «مريم» المنتصبة والمنصتة، وكأنها تعرف العربية.. وجدهم يمعنون في الدهشة والصمت والانتظار.
تبسّمَ «إبراهيم» وخاطبَ نفسه:
- هأنت تجعلهم ينسون القصة الأصلية التي شرعت في روايتها، وينشغلون في تفاصيل عن مصير الثوري المتروك داخل غرفة في قرية منسية، وكأنهم يفكرون هذه اللحظة في «جيفارا» في قرية بأحراش بوليفيا قبيل القتل.. يا لسحر السرد.. لكنك يا «إبراهيم»
سوف تفقد غرض القصة والليلة والجلسة، ومريم التي يقول قلبك أنها ستؤوب ناحيته هذه الليلة!.
وسّع بسمته شاعرًا بالمرح من فرط صمت الوجوه المتوثبة المنتظرة المشدودة نحو شفتيه، وقال:
- لم أكتب عنه حرفًا، لكنني لم أزل مثله وكأنهم تركوني، ودفعوا تكاليف دفني لشيخ جامع في قرية لم يعد لها وجود!.
لقط نفسًا وأردف:
- رتب صاحبي المسرحيّ موعدًا معه.. وجوار شجرة توت على حافة مجرى جاف في باطن وادٍ، أقبل نحوي مرتبكًا.. صافحته بحرارة وأبديتُ إعجابي بما كتبه عن ذلك «الكيوي»، العصيّ على الصيد والذي صورهُ بدقة، وكأن المكان هو جوار نبع تحت قمة الدوشكا المظاهرة لمدينة «العمادية»، التي أعرف تضاريسها الموصوفة.
لم ينطق بكلمة.. بدا ملبد الملامح، وكأنه في حضرة محقق.. لم أحس بذلك بشكلٍ مباشر، بل لاحقًا وأنا أتأمل الحكاية وترتيبها. أتذكر بالضبط أنني قلت له: لديك لغة رشيقة مكثفة، أسرتني فلم تخفِ هذه النصوص عنا نحن في عطشٍ إليها، رغم أنها تحكي عن تجربة بعيدة عنا « محاولة صيد غزال بري مستحيلة».. أتذكر المشهد الآن بوضوح شديد.. كنا نقف تحت شجرة توت، سوف أدفن في حفرة جذورها المعراة بسيول الربيع رفيقًا آخر، قضى بقصفٍ بغازات كيماوية في السنوات اللاحقة..
كنت أفيض في الكلام والإعجاب، وكان يمعن في الارتباك والتأتأة التي حيرتني وجعلتني مرتبكًا أيضا وحائرا، بين متانة النص الذي قرأته في الدفتر، وارتباك كاتبه الواقف في ظلال شجرة التوت في تلك الظهيرة.. لكنني في نهاية المطاف قلت له:
- «أبو لينا» مادامت موهوبًا بحيث كتبت هذا النص، لم لا تكتب عن تجاربك الأكثر غرابة والأهم، مثل ترك مفرزةٍ أيام الكفاح المسلح الأولى لشخصك في قرية، معتقدين موتك القريب. أليس في هذه التجربة عمق يفوق محاولة صيد خائبة لغزال بري في جبل؟!
أمعن في التأتأة والارتباك، وهو يثني على ملاحظاتي.. لكن لما استدار وتسلق المسلك الجبلي الصاعد، نحو موقع مقاومة الطائرات المسؤول عنها.. لبثت واقفًا في مكاني في ظل شجرة التوت الوارفة، أتابع بعينين شكاكتين بقصة كونه كاتبًا، وبهذا التماسك السردي والصمت الأدبي، مع خبرتي بصخب العراقي لما يكون موهوبًا. تابعت خطوه البطيء، وهو يدلف بين صف أشجار تظلل المسلك الصاعد مع مجرى نبع الماء حيث موقعه، الذي يبعد ساعة كاملة.. قلت مع نفسي:
- سيكتب هذا الصامت أعظم النصوص العراقية!.
قلتُ ذلك لما غاب خلف صف الأشجار صاعدًا، لكن في الليلة نفسها فُجِعْتُ بهِ!.
قال ذلك وكفَّ عن الكلام، متأملًا المنصتين بلذة.. وَجَدَ الصمت مطبقًا والوجوه صاغرة منتظره مآل القصة وشكل الفاجعة. تعمَّد لزوم الصمت والتحديق، وكان يرمي «مريم» الجالسة جواره بفرق كرسي، بنظرات أكثر حدةً، وكأنه يقول لها:
- شوفي ما أفعل!.
سكتَ حتى طفح كيلهم، فهتف «جلال التونسي»:
- «إبراهيم» لا تلعب بأعصابنا كمّلْ!.
هتف الجميع مؤيدا.. بلغ ذروة «شهرزاد»، وبات على يقين أن الروي بالكلام أمتعَ من الروي بالحرف.. برك في لذة فريدة، والوجوه الفتية الناعمة تنتظر البقية قائلا مع نفسه، قبل أن يواصل:
- و- قصتي ليست متخيلة ولاتحتاج إلى ترتيب حبكة، بل ما أروي هو ما حدث حقًّا لي وللشخوص. ويا لسهولة الروي هنا. ما عليَّ سوى وصف خيبتي في مساء ذاك اليوم، الذي تبادلت فيه الحديث مع «أبي لينا» المسكين!.
عدت ليلتها إلى غرفتي الضيقة المنزوية أسفل سفح جبل.. حشرت نفسي جوار منضدة صغيرة تسع الفانوس والكتاب مفتوحًا، مفسحًا المجال لحبيبتي كي تنام براحة، فتحتُ رواية «عبد الرحمن منيف»، التي استعرتها من مكتبة القاعدة ـ حين تركنا الجسر ـ وبعد عدة صفحات، أحسست أنني قبل أيام مرت بي هذه الجمل والتراكيب اللغوية.. لكن أين ومتى، وأنا لم أقرأ رواية «منيف» من قبل؟!.
وفجأة لمع الخاطر، فهرعت إلى دفتر «ولد سالك» الموضوع تحت المنضدة وفتحت صفحته الأولى، وقارنت مع صفحة الرواية الأولى.. دققت في الحروف والجمل والقصة فوجدت أن كل ما كتبه « أبو لينا» هو مجرد إعادة تركيب « للصفحات العشرين الأولى من رواية «منيف» مع تغيير طفيف، تقدم وتأخر لتحويل السرد إلى الوجهة التي يريد وتوظيفها لعرض لهفة الثوري الشارد، الذي يفكر بصيد غزال بري مستحيل.. شعرت بالشفقة على ما خطه «أبو لينا» في دفتره، فهو فعلا كان ينصب الكمائن في الجبل لذلك الغزال البري، دون أن يصيبه مرةً.
وصمت «إبراهيم».. وكأنه أتم القصة، حملقوا به بعيون مفتوحة وهتفوا:
- وماذا فعلت؟!. هل.. وهل؟!.
رفع كأسه نصف المملوء ورشف رشفة صغيرة، وشمل الوجوه وجها وجها، تريث قليلا كما يفعل مع كل وقفة عند قسمات «مريم» الرانية نحوه.. وبدت الوجوه مذهولة بالصمت والعيون المحيطة به وكأنها تستجدي.. أعاد الكأس إلى مكانها قائلًا مع نفسه:
- لا بد من نهاية ما لكل قصة، وما النهايات المفتوحة غير بدعة لا تلبي فضول الإنسان!.
وندم على كل قصة كتبها بنهاية مفتوحة.. أراد اللعب قليلا فقال:
- لا شيء!.
هبوا مستنكرين:
- كيف لا شيء؟!.
كان يعرف أنهم ينتظرون نهاية حادة، ظانين ومتخيلين الذروة لحظة مكاشفة «أبي لينا» بسرقته!.
- لا شيء.. أقول لا شيء، حملت الدفتر في اليوم التالي إلى صاحبي المسرحي، وجلسنا على صخرة منعزلة بعد وجبة الغداء، وطلبت منه مقارنة الجمل سطرا.. سطرًا.. كنت أراقب قسماته المتضجرة، وهو يهوي حتى السطر الأخير من الصفحة الأولى متنقلا بين الدفتر والرواية، إلى أن رفع وجهه، الذي بدأ ينضح بغزارة نحوي، وقال مرتبكًا بصوت واهن:
- أرجوك «إبراهيم» دع الأمر بيننا.. مسكين.. هذه الفضيحة ستجعله محط سخرية بين الثوار في أنحاء كردستان!.
لزمتُ الصمت، وبقيت علاقتي بـ «أبي لينا» قوية فهو شخص ظريف يخزِّن لنا العرق المستكي المهرَّب من القرى المسيحية.
سأل جلال:
- حتى هذه اللحظة لم تكاشفه!.
- نعم.. حتى هذه اللحظة!.
لقط «إبراهيم» أنفاسه وعبَّ وَشل كأسه، وأردف:
- «جلال».. لقد نسيت الأمر تمامًا.. والآن في هذه الجلسة تذكرت هذه التفاصيل!.
قال ذلك وأردف ضاحكا:
- اسمعوا من نوادر «أبي لينا».. كما قلت لكم هو طويل نحيل، لا يغادر «الدوشكا» إلا لغرض جلب العرق من قرية مسيحية قريبة، وكان لا يحب المشي.. يكره ذلك بعد أن ظل طوال أكثر من سبع سنوات، يتجوّل بين قرى الجبل والحدود، فكان يركب على بغل المقر المحمل بأكياس التموين، وفي مرة.. وبينما البغل ينزل بعناء من قمة الجبل صوب مقر الفصيل، فقد «أبو لينا» توازنه وسقط مرتطمًا بضجة على صخور منحدر السفح، فصدرت عنه صرخة قصيرة، كتمها فورًا أثناء تدحرجه حتى حافة المنبسط الضيق.. ركضنا مذعورين وجلين ظانين أن ظهره انكسر.. نزلنا نحوه وأحطنا به متلمسين جسده، وهو يحاول الانتصاب متسائلين:
- «أبو لينا» سلامات!.
أزاح أيدينا مبتسما بنشوة، وقال:
- ما صار شيء.. ما انكسر!.
صمت «إبراهيم» شاملا الوجوه المنصتة بعينين، تتأرجحان على حافة الضحكة الهادرة.
سألوا:
- شو هو اللي ما أنكسر.. ظهرو!.
- لا قنينة العرق المخبأة في حقيبة القماش المعلقة على ظهره!.
ضج الجميع بالضحك العاصف، وفيما انشغل الجميع بهدير القهقهات.. التفت نحو «مريم» فوجدها تحملق فيه بعينين شبّتْ فيهما النيران، أو هكذا خيل إليه في تلك اللحظة الخاطفة، فصعدت به النشوة إلى مناحٍ، وكأنه في عربة القطار الخائض في ظلمة سهوب روسيا وإزاءه على السرير الضيق اليهودية البيضاء.. وبينهما كتلة «عزيز» الخشنة. نشوة لا مرسى لها، خطفته إلى الأعالي من هدير الضحك الضاج إلى فسحة تشبه الجنة.. هدأ الضحك وراحوا يمسحون عيونهم الدامعة بالمناديل وقفا الكفوف، متسائلين عن وجود «أبي لينا» الآن. قال لهم:
- لا أدري تركته خلفي في الشام!.
سألوا:
- ماذا يفعل؟!.
أجاب ضاحكا:
- يعمل في البناء عاملا كي يحصل على ثمن الشرب!. ولشدة العوز أصبح لنصائحه مريدين من رجال العصابات، الذين وجدوا أنفسهم عاطلين مرضى، غير قادرين على العمل أو الأمل.. ينتظرون معجزة الوصول إلى الدول الاسكندناﭬ-;-ﻴ-;-ﺔ-;-.. أشهر تلك النصائح هي التي يطلقها قبيل الشرب قائلًا للجليس:
- لا تأكل مو زين؟!.
فيسأله:
- لماذا؟!.
- كِلْ لقمة إِطيرْ بيك!..
لم يفهموا فحوى جملته باللهجة العراقية للوهلة الأولى.. شرحها لهم، فضجوا من جديد بالضحك!.. أنهى حديثه عن «أبي لينا» قائلا:
- «أبو لينا» هو من كان يجلس على مقعد الدوشكا الدوار؛ ليقاوم الطائرات العراقية المغيرة على الموقع بين يومٍ وآخر. فتخيلوا!.
ضجوا من جديد بضحكة مجلجلة!. وتلك فرصة لمخالسة مريم النظر.. وجدها ترمقه بشرود، فشعر بالنشوة تنتشر بكل أنحائه.. صار خفيفا يود لو يحلق في سماء الغرفة الضيقة.. وما أن هدأوا من موج الضحك حتى اقترح عليهم تبادل إنشاد الأشعار، أسمعوه شعرا لبنانيًّا عاميًّا.. كان ينصت بعمق، ويعب من كأسه رشفات محسوبة، قائلا مع نفسه:
- لابد من الذهاب إلى ذروة ما في هذه الجلسة!.
زادت الأشعار العامية باللهجة اللبنانية الأنثوية من نشوته وأخذته إلى مناحي «الحلاج»، ورغب بشدة في إنشاد بعض أشعاره. فانتظر سانحة وقال لهم:
- هل قرأتم الحلاج!.
تلكأوا في الإجابة، تعجب من ذلك.. لكنه تذكر أنهم عبيد الأيديولوجيا وثقافتها العرجاء.
- سأسمعكم!.
سكتوا منتظرين.. تفحصهم وجها وجهًا.. مبتدئا من وجه «جلال» الجالس جواره إلى اليمين؛ ليصل إلى «مريم» الجالسة جواره إلى اليسار بفرق صاحبها.. تلكأ ناظره على قسماتها، التي راحت تضيء وتطلق وهجًا من عينيها المفتوحتين إلى آخرهما، واللتين تتابعان كل حركة يأتي بها.. تزحزح قليلا، ودفع الكرسي إلى الخلف؛ ليستقيم بقامته الفارعة قائلا:
- هذه الأشعار تنشد وقوفًا!.
أغمض عينيه وكأنه يعتنق ذاك الشاعر الشهيد.. استرخى تمامًا قبيل النطق بأبيات، حضرته بغتة مثل لمع برقٍ:
يا نسيمَ الرّيح، قُولي لِلرَّشَا
لَمْ يَزِدني الوِِرْدُ إلا عَطَشَا

لي حَبِيبٌ حُبُّهُ وَسطَ الحَشَا
إن يَشأ يَمشي عَلَى روحي مشا

رُوحُهُ رُوحي وَرُوحي رُوحُهُ
إِنْ يَشَأ شِئتُ وإن شِئتُ يَشَا

تعالت الآهات والصرخات، وطالبوا بالمزيد.. حملق في وجوههم المنتشية المكتشفة صراخ «الحلاج»، فأيقن بأن الجلسة ستفضي إلى ذروة.. لا يدرك شكلها الآن.. لكنها سائرة نحو ذلك. أغمض عينيه وأنشد المزيد من أشعار الحلاج، وكلما أكمل عدة أبيات، طالبوه بالمزيد ووجوههم منتشية كأنها سكرتْ لا من الخمرة بل من الشعر.. بينما استمر هو و«جلال التونسي» في الشرب.. ألقى كل ما كان يحفظه من أشعار «الحلاج» واقفًا منتشيًا بالوجوه المتأوهة، المتمايلة، الصارخة:
- الله.. الله.. الله!.
لما جلس بدأ حوار متشعب عن «الحلاج».. حكى لهم ملخص مقتله في ساحة ببغداد، واصفًا مشهد تقطيع أوصاله ورجمه بالحجارة من أهالي بغداد بشيء من التفصيل؛ ليصل بهم إلى لحظة رمي وردة من مريد له وصرخته لما مست جسده.. انشغل عن وجه «مريم» قليلا، ثم تفقدها، فوجدها مشغولة في حوار مع صاحبها اللبناني الذي بدا منفعلا.. التفت نحوه وسأله:
- كم عمرك؟!.
أطرق قليلا مفكرا، ثم تملى وجهيهما المتسائلين محاولا سبر الأمر.. تاه في التخمين دون أن يجد تعليلًا ما للسؤال المباغت.. الأمر ملتبس.. الوجهان منفعلان، في قسماته غضب وانزعاج مقابل نشوة قسماتها ونيران متأججة في عينيها المحملقتين فيه، دون أن تطرفا.
- ما مناسبة هذا السؤال؟!.
ألقى «إبراهيم» سؤاله بصوت، رقّ تحت إلحاح عينيها الدانيتين.
- تراهنَّا أنا ومريم حول عمرك؟!.
قال مع نفسه:
- صح ظنك يا «إبراهيم»!.. هاهي «مريم» تبحث عنك!. فماذا تقول؟! من المؤكد أنها أبدت إعجابًا ما بك، وإلا ما تفسير علامات الغضب والانزعاج على ملامح عشيقها!.
أجاب بهدوء:
- ستة وثلاثون عامًا.
تهللت قسماته والتفت نحو «مريم» متحدثا بصوتٍ امتلأ ثقةً، وعاود النظر إليه مردفا بالعربية:
- قلت لها فوق الثلاثين، تقول لا في العشرين!.
تبسَّم «إبراهيم»، وهتف مع نفسه:
- اتضح الأمر إذن.. «مريم» أوكرانيا وَضَعَتْكَ في رأسها.. والسبيل إليها يعتمد عليك فقط .. كيف الوصول إليها في هذه اللجة، وزحمة الغرفة الضيقة وعشيقها الحارس؟!.
لم تزل تتابعه من تحت أهدابها شبه المسدلة، بعد أن عادت إلى صمتها وتكورها جوار جسد صاحبها النحيل.. رفع رأسه محدقا بالسقف العالي، متخيلا أصابعها الناعمة الصغيرة بين أصابعه الضخمة نائمة مستكينة، فاهتزَّ جسده هزةً لم ينتبه إليها أحدٌ سواها إذ وجدها تلاحق بقايا الاهتزاز، فغمز لها فورًا بعينيه اليسرى غمزة واحدة.. تبسمت بطرف فمها، فهتف بصمتٍ مثل درويش:
- .. لو.. لو تمسها يا مسكين مدد.. ستمس باب الجنة .. مددد!..
بعد الغمزة والبسمة الخفية واتته القوة، فوجد جسده يطفح بالحيوية، رغم عبه أكثر من نصف قنينة من الفودكا. حدثهم عن الفرح والدنيا والألم والغناء والعمر المار خطفًا والموت، الذي كان يحوم حوله في مدن العراق؛ حيث كان يختفي أو بين الثوار في الجبل. وسألهم ألا من يستطيع الغناء، فدونه لا طعم للدنيا واللحظّةِ. فرنَّمَ القروي اللبناني الجالس جوار زوجته الروسية بمواجهته، عبر الطاولة، بموالٍ جبلي أعقبه بأغنية حب.. ظل يترنح طربا لا من الغناء فحسب، بل من البصبصة والبسمات المتبادلة مع «مريم» بعدما ظنَّ عشيقها أن إعجابها خفت لاكتشافها فارق العمر، فهي لم تتجاوز الحادية والعشرين كما أخبره، فتراخى منسجمًا مع المحيط، مخففًا من مراقبته الخفية لهما. في تمايله، كان يشحذ ذهنه كي يجد مخرجا يحول فيها هذه الجلسة؛ بحيث يستطيع التحرك والقرب منها:
- كيف السبيل إلى ذلك يا «إبراهيم»؟!.
- …!.
- كيف يا «إبراهيم»؟!.
كان يهتف سرًّا وعيناها المتوهجتان، تلاحقان تمايل جسده المتأرجح على صوت المغنى.. خف الغناء وبدأ الكلام، فانفرد فيه وكأنه جالس على منبر في جامع «حي العصري»، وبدلا من الحديث المرتب عن مقتل آل البيت ويوم الطف، شرع في الحديث عن فقاعة الدنيا و«شاكر ميم» المصور الفوتوغرافي الزنجي، القادم من الناصرية كما يقال.. عن قامته النحيفة وكرسيه البالي على الرصيف؛ حيث يجلس كل عصرٍ يحدق بالمارة، ويدخل بين الحين لأمرين اثنين: إما لقدوم من يريد التصوير، وإمّا لِعبِّ كأس من العرق السادة. عن جملته، التي خطها بنفسه وعلقها على واجهة المحل « الحياة فقاعة فصورها قبل أن تنفجر»، والتي أخذته منذ أيام إلى مناحٍ وتجارب لم يظن أنه سوف يمر بها.. حدثهم عن اليهودية بالقطار وعن الأرملة في البار والشقة المعلقة العجيبة، التي لا يعرف الآن أين تقع؟!. ، وعن الزوجة البعيدة والحب العجيب المنبثق باللحظة والمكان..حدثهم عن الموت وضفته الغامضة، منذ فجر الحضارات وبلاغة «شاكر م» في اللحظة.. كانوا ينصتون بذهول، من لم يعرف غير أفق واحد رسمته الأيديولوجيا، ما عدا – «جلال التونسي» – الذي كان يكبرهم سنة وتجربة بأعوام.. كانوا يحدقون بولهٍ، كما كان يحملق – هو – بالمثقف الصيدلي «عزيز حسون الكربلائي»، أو الرسام «نايف السامرائي» أو « منقذ شريده النحات»، أو بـ « عزيز السماوي الشاعر» قبل أكثر من عشرين عامًا في بار «سرجون» على «أبو نؤاس» ببغداد. الدهشة نفسها.. الانفعال نفسه المرتسم على الوجوه المحدقة به بخشوع كما خشوعه وقتذاك، خشوع فتح له دروبا شائكةًَ وأفضى به إلى هذه المناحي المقفرة في عواصم لا يدري كيف بلغها وما سيؤول إليه؟!.. حملهم إلى مناص اللحظة الحارة لحظة الكلام، وهتف صارخًا:
- دعونا في جوف الحاضر.. باطن الفقاعة!..
هبوا مثل مخدرين سائلين:
- كيف؟!
- نستمتع بلا كلام!.
صرخوا مثل سكارى:
- كيف؟!.
هب واقفًا شادًّا قامته الفارعة بكل ما بوسعه، فبدا مثل صقر خيم على الجلوس، وصرخ:
- الطاولة.. الطاولة.. تخنق أنفاسي!.
هرعوا بحماسة نساءً ورجالا؛ لينقلوا الصحون التي مازالت مليئة بأصناف الطعام، لم ينس أن يحجز قنينة فودكا لم تفتح بعد.. قام بدسها بين كرسيه وكرسي «جلال المجاور».. لما بدت ساحة الغرفة فارغة صرخ مثل مجنون.. كان منفعلًا حتى أنه نسى «مريم»، مندملًا بجوف الفقاعة والساحة والرقص:
- الموسيقى.. الموسيقى؟!.
وضعوا الكاسيت واحتدم الرقص.. صار مثل درويش في لحظة وجدٍ.. لف في الفسحة الضيقة صارخًا:
- فقاعة..لحظة الحياة.. فقاعة.. لحظة، فقوموا!.
لم يدع أحدًا في جلسته.. الكل قام إلا «مريم» التي وقف عشيقها اللبناني جدارًا بينه وبينها.. في اللجة الصاخبة، لم يهتم للأمر بل كان في سورة وجدٍ صوفيٍ، لا يفهمه إلا من عاش في الحي العصري بالديوانية، أو من رأى «شاكر م» المصور الزنجي.. أو صادق الشاعر «عزيز السماوي».. جعل الكل يرقص وهو، وحيدًا، يفتل قامته بطريقة هي مزيج من رقص الغجر الإسباني، ورجفة كتف الرقصة العراقية الشديدة الفحولة، وصرخة الدراويش المبهمة، وهو يفتر بين الأجساد الغائبة في الإيقاع:
- مدددددددددددددد.. مدددددددددد!.
كان ينفض رأسه لحظة اللفظ؛ طلبا للمدد المأمول من السماء المثلجة خلف النافذة، ومن عيني «مريم» الشاخصتين المشتعلتين دون حول ولا قوة، وعشيقها اللبناني صار يرقص في نقطة محددة حاجبًا عنها المشهد، فتميل بجسدها الغض، متكئة على الجنب؛ كي تطيل رقصه المنتشي وصراخه المجنون، وهو يستدعى «شاكر م» وجوف فقاعته العظيمة، التي سحب إليها كل هؤلاء الطلبة العرب الثوريين بغتةً.. كان يقول في سريرته:
- لو عملت المستحيل يا رفيقي.. صاحبتك خَيِلَتْ.. والمرأة لا يمنعها شيء ولا حيطان الدنيا!.
انشغل «إبراهيم» في ترقيص النساء والرجال.. رقص مع «أستيرا» صاحبة «جلال التونسي»، ومع زوجة المغني اللبناني القروي، ومع كل النسوة بروح الراقص المحايد البريء في ضيق الغرفة المزدحمة.. كان يصرخ:
- في جوف الفقاعة نشب!.
في جوف الدنيا نذوب
في جوف اللحظة نضيع
في جوف «ميم» لا نجد أنفسنا
في جوف المنفجرة بعد لحظة
نتجلى ونغيب!.
كان ينشد القصيدة تلو القصيدة في وجدٍ لا ضفاف له.. سواها إلى أن وجد منفذًا لما تعب عشيقها متهالكًا على مقعدٍ مجاور.. لم يترك الفرصة السانحة تمر.. تقدم نحوها بخطوتين مادًّا ذراعه كي تقوم وتراقصه.. تشبثت أصابعها بأصابعه حارة، متشنجة، متشوقة إلى درجة لم يتوقعها!. أخذها إلى صدره.. كانت لينة ليونة أنثى راغبة.. تمنى لو ينفرد معها، ولكنها بدت وقتها أمنية مستحيلة. في زحمة الرقص وضيق المساحة المحشودة بالأجساد، همس لها برقم بنايته، والطابق ورقم الغرفة.. كانت ترمقه أثناء الرقص بعينين مترعتين بالدهشة والرغبة.. خيل إليه أنها أومأت برأسها موافقة، ولكنه ظل مضطربًا غير موقن أنها فهمت أو عرفت أو حفظت الأرقام.. فانسل من زحمة الأجساد الراقصة إلى الممر، وسجل على ورقة صغيرة الأرقام، وعاد ليندس بينهم.. البناية لا تبعد سوى ثلاث بنايات فقط عن هذه البناية..
راح يصرخ ويهذي ويرقص ويراقص هذه وتلك حتى أحاطها بين ذراعيه.. وظل يتحين الفرصة لتسليمها الوريقة، إلى أن رأى صاحبها اللبناني يضم وجهه المتشنج بين كفيه، فوضع الوريقة براحة كفها.. التفتت بغتة مثل قطة مذعورة؛ حيث يجلس صاحبها.. وعندما وجدته ضاما رأسه دستها بحركة خاطفة بين نهديها الرامحين خلف الرداء الضيق.. لحظتها اشتعل «إبراهيم» من جذره، فراح ينغم صراخ الدرويش القائم من مناحيه المنسية:
- مدددددددددد يا حبيبي مدددددددددد!.
يا «مريم» العذراء مدددددددددددددددد!
يا «فاطمة» الزهراء مددددددددددددد!.
دخل فيما يشبه الغيبوبة، وكأنه حلَّ في الحلم، والمفتاح أصابع «مريم»، وهي تدس الورقة بين نهديها الصاخبين.. تجلى فيها، فطلب من الجميع الجلوس؛ كي يقدم لهم رقصةً.. جلسوا فبقى وسط الفسحة متوتر القامة منتشيًا لا بالخمرة، ولكن بأصابعها الناعمة، وهي تخفي ورقته بين لحمها النابض..
وجد نفسه أول مرة يدير كل شيء.. والجميع ينصت له. هذا لم يجده لا في بيت أبيه، ولا في العائلة لما تزوج ولا في تجربة الجبل.. بالعكس، كان الجميع يستغرب ما يقول ويعتبره فجًّا عنيفًا، يذهب كلامه إلى موضع الجرح فيؤلم.. لكن أية رقصة.. كان يوتر قامته الطويلة الرشيقة مغمضا عينيه، ملتفتا صوب جهة ما مجهولة، باحثًا عن مقطوعة ما تناغم وضعه الحسي.
ساد الصمت دقيقة متوترة وأجساد الطلبة المعروقة المنتظرة تطرف في جلستها؛ دهشة من هذا الكائن المتفجر الذي حلَّ بغتة.
صرخ دون أن يفتح عينيه:
- موسيقى.. موسيقى!.
كان يصرخ موترًا جسده رامحًا بوقفته، دون أن يفتح عينيه، راسمًا في مخيلته دهشة العيون المحدقة نحو قامته الطويلة الممشوقة في فضاء الغرفة.
ظل مشبوحًا هكذا حتى سمع إيقاع معزوفة شهيرة.. فراح يتلوى ويتوتر ويشب، وكأنه يريد بلوغ السماء بجسده الغائب في النغمة المتصاعدة رويدا وريدا، وكأنها الطريق الخفيف السلس نحو جنة مخبوءة في سماء دانية.. يتذكر «إبراهيم» لقطة خاطفة، حينما قطع الرقصة، وصرخ بصاحب «مريم» اللبناني الذي قام من كرسيه ليشاركه الرقص.. راح يتلوى بجسده النحيف بإيقاع أنثوي، يتنافر مع المعزوفة الرجولية العنيفة، لم يستمر سوى ثلاث أو أربع خطوات.. كان ينقل ذراعيه المرفوعتين باستقامة، متحركًا بإيقاع مستقى من الأغاني اللبنانية، فأمسكه «إبراهيم» بعنف وقذف به نحوه كرسيه صارخًا:
- لا تشوه الإيقاع.. لا تخرب الرقصة!.
وقلد ميوعة رقصه.. فأثار عاصفة من الضحك.. توقف وصرخ:
- بل هكذا!.
ووتر قامته مستندا على أطراف أصابع قدميه، ودافعًا ذراعيه إلى الجانبين، وكأنهما جناحا صقرٍ موشكٍ على الانقضاض، واندمج بجسده، غير آبه بالوجوه المحملقة المندهشة. ما يتذكره «إبراهيم» من المشهد هو ملامح اللبناني، لحظة سقوطه على كرسيه المخذولة، وضياعه في سورة الرقص.. كان يصرخ أثناء رقصه صراخًا مذبوحًا، نازعًا ألم اللحظة وعنف التجربة، علنًا أول مرةٍ أمام جمع مأخوذ بحضوره.. يرقص ويصرخ.. يرقص وينادي منقذًا ما من الدنيا وعذاب العيش فيها. في تلك اللحظة اختلط كل شيء، فتداخل الماضي والحاضر والمخيلة والحلم..
وجد نفسه في يوم ماطر بسوق الشورجة ببغداد في مصنع صغير، يرقص على إيقاع الفلامنكو الإسباني مع «جار الله»، الذي ضاع في المعتقل.. وسط غرفةٍ ضيقة في «الحيدر خانة» يلاصق أحبته، الذين فقدهم إلى الأبد.. كفاح عبد سوادي، «هاشم لفتة»، «صلاح مهدي» الصياح، «علي عبد الباقي» البناء، «حازم الصمياني».. في تلك اللحظة يشعر بوجودهم الفيزيقي القوى إلى حد مس أجسادهم، فيهلهل جسده في الرقصة ويغيب في نشوة فريدة.. ولما يفيق منتبهًا للغرفة الغريبة والوجوه، و«مريم»، يُطعَنْ فيتلوى تلوى محتضرٍ، يشب منتفضًا، وكأنه يبغي الصعود إلى السماء.
* * *

حينما استيقظ «إبراهيم» صبيحة اليوم التالي، وجد نفسه يرقد على سريره وحيدًا في غرفة السكن الجامعي، التي حلّ فيها ليلة وصوله «ﻛ-;-ﻴ-;-ﻴ-;-ﭫ-;-».. أغمض عينيه شاعرًا بصداع شديد، جعله يوقن أنه شرب كثيرا ليل البارحة.. أنهض بعناء نصفه الأعلى، واضعًا قدميه على الأرض.. وشخص صوب النافذة المزاحة الستائر، والمفتوحة على سماء ملبدة بالغيوم الثلجية.. تلمس قسماته محاولًا التيقن من سلامتها، وكأنه كان في حومة حرب.. هو فعلًا لا يتذكر سوى عنف اللحظات الأخيرة لليلة الماضية. لكن أين كان؟!.ومع من؟!. وما سبب ذاك العنف الذي يشعر به؟!.
كل شيء بدا مبهمًا وسماء النافذة الوحيدة المعلقة الشاحبة البياض، تخترق عينيه المتعبتين وجسده المنهك.. قام بعناء وأعد فنجان قهوة.. وعاد إلى السرير.. جلس على الحافة متأملا الغبار المغطي كل شيء في الغرفة.. المنضدة، والسرير الآخر، والكتب القليلة المصفوفة على أدراج المكتبة الصغيرة، والأردية، وأشياء المطبخ.. خطف طيف زوجته وطفليه مثل برقٍ في حلكةٍ..
هو فعلا تحول وجودها إلى دخان تبدد في السماء منذ اللحظة، التي طارت فيها إلى الدنمارك.. خطف وتبدد مثل دخان ككل الأشياء التي تدلف في ثوب الماضي.. رشف من قهوته وحاول ترتيب أحداث الليلة الفائتة، ليس لشيء بل ليعرف كيف وصل إلى السرير الذي يجلس عليه الآن.. وبغتةً بانت كل التفاصيل منذ لحظة دخولهم الدعوة ومائدة الطعام و «مريم» الأوكرانية إلى ما جرى.. لكن عند النقطة التي تلاشى فيها في الرقص وحيدا وسط الغرفة الضيقة يُسدَلْ ستارٌ أسودَ.. صبَّ فنجانا آخر وعاد ليجلس على حافة السرير، ويرشف بهدوء قهوته قليلا.. قليلا.. تعجب من جرأته لما تذكر كيف همس لـ «مريم» بعنوان سكنه، تعجب لا من جرأته فحسب، بل من نذالته وهو يحاول الإيقاع بعشيقة صاحب الدعوة..
لكن ما يشفع أو يبرر هذا الفعل هو جو السكر المتصاعد والأخيلة وما يفضي إليه مقام الحديث. طيب نفسه بهذا!.. لكن يريد الآن فقط تذكر كيف عاد إلى هذا السرير الجالس عليه.. سلسل الأحداث؛ ليكتشف أن في دخيلته خبثًا دفينًا لم يظهر في تجارب عمره إلا بهذه الجلسة العابرة، وإلا ما معنى محاولته الإيقاع بـ «مريم»؟!. لكن.. فكر قليلا هي كانت راغبة.. ومتوهجة نحوه بحيث أدخلته بمدارها عنوةً، وإلا فلمَ قبلت همسه والورقة وَتَقَبُّلَها لغزل عينيه!..
رشف جرعة من قهوته، وحاول تذكر لحظات الجلسة الأخيرة.. لكن كل شيء يضيع لما يبدأ في الرقص وحيدًا في فسحة الغرفة محاطًا بعيون المدعوين.. نهض واتجه نحو النافذة؛ ليطل على الشوارع المغطاة بالثلج وخطى الطلبة المتقاطعة نحو مقاصدها.. وحده لا مقصد له سوى العبث في فسحة عمره الذي ضايقته السنين.. سماء مثلجة غريبة.. وحيدا في غرفة ببناية غريبة.. لا صديق.. ولا رفيق.. ولا أفق.. تشاءم وتأرجح على حافة البكاء لما لمس في يده أثناء وقفته جسد زوجته الأسمر الحار، الذي ضاع في بلدٍ لا يعرفه هي وطفلاه، لاعنًا نفسه، وهي تمعن في تصديق خرافة «شاكر م» عن فقاعة العمر الموشكة على الانفجار.. صب كأسا من الفودكا ورشفه محدقا ببياض النافذة الثلجي وتوتر مركزا على لحظة غيابه في الرقصة المنفردة.. لم يرَ سوى غيابه الأكيد في فضاء اللحن.. ورويدا .. رويدًا.. وجد نفسه، وكأنه يستيقظ من مخاض رحمٍ؛ ليجد نفسه في فسحة الغرفة الضيقة وحيدا معها هو يركع على ركبتيه، و«مريم» تتلوى بين ذراعيه المحيطتين بجسدها، دون مسٍ على إيقاع أسطوانة لا يعرف هذه اللحظة ماذا كانت؟!..
وجد نفسه يصرخ ويصرخ متلاشيا في رجفة خصرها الداني المائع الراجف في إيقاع، جعل جسد «مريم» يتجلى ويكشف كنوز حركته الخبيئة، متوهجا تلك اللحظة بين ذراعيه وعلى إيقاع صراخه المبهم.. صراخ مغتصب ينتفض معلنا عذابه.. في اللجة المضيئة تلك، التفت فلم يجد في الغرفة سوى «جلال التونسي»، و«سليمان الجولاني»، واللبناني عشيق «مريم» المتجلية في فسحة الفضاء المحصور بين ذراعيه، وهو راكع في الوسط، يحيط مثل سور جسد «مريم» الغائب في فلك المقطوعة..
في تلك اللحظة وهو معطلٌ في ركوعه، رأى عشيقها ينهض مخذولًا ويسحبها من بين ذراعية ويلقيها بعنف على كرسيها، فتكورت ساكنةً، تضم ركبتيها إلى صدرها وتحدق من تحت أهدابها تطورات الموقف.. التفت صاحبها، وقال بصوتٍ مخذول:
- يا جماعة أنا تعبت!.
وحده «إبراهيم» كان يدرك ما نطق به اللبناني وهو يتهالك جوارها منهكًا.. بينما احتدم «جلال التونسي» و«سليمان الجولاني» غضبا من فعله معتبرين ذلك طردًا غير مباشر لهما.. فهجما على اللبناني بالعربية طبعا فاضحين غيرته غير المبررة مستندين على صدفة حضوره الجلسة، ووضع «إبراهيم» الاجتماعي والسياسي والأدبي وفارق السن، وعدم معرفته باللغة الروسية. استعاد «إبراهيم»، وهو يجلس محدقا في الغبار والنافذة والسماء الثلجية، شعوره بنشوة وهو ينصت لسيل التقريع الجارح وملامح «جلال التونسي» المحتقنة أثناء الكلام وأصابعه المهتزة بوجه اللبناني المسكين، الذي اضطر إلى الوقوف وترديد:
- لا تفهموني غلط يا جماعة.. تعبت.. والله تعبت!.
انشغل عنهم مخالسًا النظر إلى تكورها الذي استعاد هيئته الأولى لما وقع نظره عليها لحظة دخوله الغرفة. تحاشت التحديق نحوه رغم انشغال صاحبها، وهو يدافع عن نفسه دون جدوى.
احتدم الحوار.. فأقترح صاحبها التحول إلى المطبخ.. فقام معهم. يتذكر «إبراهيم» هذه اللحظة المفصلية، وهو يكتشف في نفسه نشوة التشفي بعاشقٍ مجروح، يكتوي تحت ناظريه بنيران الغيرة:
- أي خبث يكمن في عمق الإنسان!.
فهو لا يتذكر أنه كان خبيثًا في يومٍ ما، بل بالعكس المعروف عنه أنه شديد الطيبة..
- هل كان ذلك بسبب ضعفه وشعوره بالسحق المبكر؟!.
بات يميل إلى هذا التفسير، فها هو أول مرة يجد نفسه في موقع المسيطر يتشفى بالعاشق المخذول، لا يكشف عما فعله طوال الجلسة من أجل التقرب لصاحبته، وكأنه ينتقم من تقديم العاشق لـ «ماريا» كونها أكثر من الشرقية تحفظا؛ إذ هتف لحظتها مع نفسه «شاب غض بلا خبرة لا يدري ما تفعله الشرقية سرًّا».. ما زاد من استغرابه من نفسه هو مشهد المطبخ الصغير.. سحبه «جلال التونسي» سحبًا..
كان العاشق فعلا منهك الجسد والروح منقادًا لكف جلال الضخمة.. لما توسطا فسحة المطبخ الضيقة، انفجر «إبراهيم» في مشهد مسرحي، مقلدًا هاملت، فخطب خطبة عصماء عن الحب والحياة والتجربة والغيرة، نائيًا بنفسه عن كل ما أحس به إزاء «مريم» وما خطط له فصور نفسه نبي الثوار، وقرنها بـ «شبيب الشباني» الخارجي، الذي قاوم الأمويين في حرب عصابات، لا مثيل لها في العراق وعشق «غزالة» زوجته التي لما طلبت منه الصلاة في جامع الكوفة احتلها زمن «الحجاج» لفترة وجيزة؛ كي تصلي فيها.. ذكر القصة باقتضاب، وقال له:
- لك لدي «غزالة» تنتظرني في الدانمارك..
المسكين مطأطئ الرأس لا يقوى على القول؛ إذ سَعَّرَ قوله غضب «جلال» و«سليمان» اللذين امسكاه من ذراعه وسحباه قائلين:
- هيا لنخرج ما يستأهل أن نزوره حتى!.
قال مع نفسه:
- لم لَمْ أصبح ممثلًا؟!.
- يا لتفاهة الممثل في الحياة خارج الخشبة!.
- تافه..
صرخ بغتة، وأردف بصوت مسموع:
- أحتقر لحظتي.. أحتقر قناعي والعاشق المسكين يعالج جراح روحه بصدق.. فهو أحس بهوى وميل «مريم» نحوي.. وتجلى له الأمر لاحقا بالرقص.. لكن من يصدقه وكيمياء الجذب سرية لما تسري بين شخصين بغتة.
رشف من قهوته وعاد إلى سريره، شاعرًا بغضب من نفسه، وسلوكه، وطريقته في تصوره نفسه صوفيًّا.. شريفًّا.. زوجًا..مناضلًا.. مثقفًا.. حياديًّا.. وكل هذا حقيقي فيه.. لكن ما أزعجه في القصة وأسئلة الحياة.. كذبه؛ إذ كان الطرف الفاعل في الإغواء وجهد كي يصل الأمر إلى هذا المآل.. وبقول آخر، لو تجاهلها لما كانت هذه القصة.
قام وصبّ فنجانا آخر من القهوة، عله يفيق من نفسه وسكره، ويتخلص من دونيته مشاعره، وهو يكتشف خبثه وتآمره على حبيبة طالب غض مسكين، يشاركه في الأفكار، فهو يساري يتوهم جنة المدينة الفاضلة مثله، الفرق أنه في أول الطريق.
خطا نحو النافذة العريضة.. التصق بزجاجها المزدوج.. حملق بشرود في المارة المبقعين بخطاهم الشارع المغطى بالثلج المتساقط بغزارة.. صرخ بنفسه:
- ما الفرق بينك وبين «عزيز» إذن! بل هو أشرف منك، يحاول مع العابرات لا مع العشيقات!.
رغب في السكر وإتلاف نفسه!.. فهرع نحو قنينة الفودكا، وصبَّ كأسًا وقبل أن يرفعها إلى شفتيه، سمع قرعا خافتا على الباب.. سكن وبيده الكأس منصتًا.. عاد القرع خجولا خفيفا غير مألوف، فهذه الكف هى غير كف «عزيز» الغليظة، أو كف «جلال» الهرقليه.. أو «سليمان» المضطربة.. قرع ناعم غريب متقطع، متوجس، وكأنه يختبر الباب والعنوان.. وضع الكأس المملوءة على طاولة المطبخ واقترب من الباب بخطى هادئة متسقة مع إيقاع الطرق.. نظر إلى ساعته اليدوية، فوجدها تشير إلى الواحدة ظهرًا.. معنى ذلك أن الجميع على مقاعد الدرس.. خلد جوار الباب منتظرا معاودة الطرق.. فجاء خفيفا متوجسا متأنيًا.. دوَّر المقبض وسحب الضلفة قليلا.. قليلا، وقليلا.. قليلا تجسد وجه «مريم» المضطرب المتوهج اللاهث؛ ليحتل المشهد ماحيًا كل مشاعر الدونية، التي ألمت به منذ لحظة استيقاظه.. جمد مأخوذًا.. ساكنًا فاغر الفم، غير قادرٍ على النطق.. لم تتوان.. دفعت الباب ودلفت وكأنه بيتها. نزعت معطفها الثقيل بحركة سريعة، وارتمت نحوه ضامة جسدها بين ذراعيه ودافنة وجهها الصافي تحت إبطه. لم تدعه يفلسف المشهد.. كانت عملية، وكأنها «شاكر م» تعيش في جوف الفقاعة.. عرته وتعرت وصعدت عليه وبلغت كوكبها البعيد.. كان مذهولًا غير مهيأ لموقف محتدمٍ كهذا.. لكنه التحق بها.. جرى الأمر بسرعة خاطفة. واقعته مرات ثلاث باللهفة والشوق نفسيهما. ونظرت إلى ساعتها وتركته عاريا في السرير لترتدي ملابسها مضطربة.. تبسمت وهي تقترب منه؛ لتهمس بأذنه بصوت عذب:
- سباسيبا «شكرًا»!.
ثم قبلته في كل ناحية من وجهه، واتجهت نحو الباب التفتت مرة أخيرة وغابت خلفها.. لبث في السرير يتلمس جسده شامًّا رائحتها في جسده، في الفراش، في فضاء الغرفة.. وقفز من السرير راكضا نحو النافذة المشرفة على المدخل؛ عله يراها خارجة لكن دون جدوى.
ظل «إبراهيم» يستعيد المشهد وكأنه حلم يقظة؛ إذ لم يرها أبدا بعد ذلك، حتى أنه شك بواقعية ما جرى له معها في غرفة مهجورة، مغبرة في سكن جامعي بـ «ﻛ-;-ﻴ-;-ﻴ-;-ﭫ-;-»، التي سيغادرها إلى الأبد بعد أيام.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من رواية - الحياة لحظة - صدرت عن الدار المصرية اللبنانية - القاهرة 2010 -

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى