عبد السلام بن عبد العالي - هجرة النص الفلسفي..

يحيلنا لفظ الهجرة الى الفاظ النقلة والنقل والانتقال، وهي الفاظ استعملت كما نعلم للدلالة على معنى الترجمة، كما ان المرادف الفرنسي لها، اي Translation هو اللفظ الذي كانت اللغة الفرنسية حتى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي تعتمده دلالة على المعنى نفسه. يتعلق الامر اذن بحركات الترجمة على عرفتها النصوص الفلسفية. وما يهمنا هنا هو ال`وقوف عند الترجمات التي تمت الى اللغة العربية بهدف تحديد العلائق التي ربطت وتربط فلسفتنا العربية بآخرها، خصوصاً عند لحظتين اساسيتين من تاريخها.

لنتساءل في البداية ما هي العلاقة التي اقامتها الفلسفة العربية الكلاسيكية بالنصوص التي نقلتها؟ والجواب عن هذا السؤال نلتمسه من نصين اساسيين: الاول مأخوذ من المناظرة المشهورة التي نقلها ابو حيان التوحيدي في "الامتاع والمؤانسة" والتي جرت بين المنطقي متى بن يونس وبين النحوي ابي سعيد السيرافي. والآخر مأخوذ من كتاب "الحيوان" للجاحظ.

نقرأ من المناظرة:

"قال السيرافي: انت اذاً لست تدعو الى علم المنطق، انما تدعو الى تعلم اللغة اليونانية وانت لا تعرف لغة اليونان، فكيف صرت تدعونا الى لغة لا تفهم بها؟ وقـد عفت منذ زمـان طويل، وباد اهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتخاصمون اغراضهم بتصاريفها، على انك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة اليونان الى لغة اخرى سريانية ثم من هذه الى اخرى عربية؟
قال متى: يونان وان بادت مع لغتها، فان الترجمة حفظت الاغراةض وادت المعاني واخلصت الحقائق.
قال ابو سعيد: اذا سلمنا لك ان الترجمة صدقت وما كذبت (...) فكأنك تقول: لا حجة الا عقول يونان ولا برهان الا ما وضعوه، ولا حقيقة الا ما ابرزوه.

قال متى : لا، ولكنهم من بين الاسم اصحاب عناية بالحكمة (…) وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر… من انواع العلم، ولم نجد هذا لغيرهم.

قال ابو سعيد: اخطأت وتعصّبت وملت مع الهوى، فان علم العالم مبثوث في العالم بين جميع من في العالم".

يطرح هذا النص مجمل القضايا التي عاشتها تجربة هجرة النص الفلسفي في الثقافة العربية الكلاسيكية من تعدد الوسائط اللغوية ومن تحويل قامت به الترجمة وطرأ على النص المترجم، ومن تشكك في مدى اهمية التفتح على ثقافة الآخر الاوحد، وتخوف من الوقوع في احضانه وتعصب لثقافته.
وقبل ان نعود لتفضيل هذه القصايا والتساؤل عما اذا كنا ما زلنا نحيا بعضها، لنقرأ النص الثاني الذي نقتبسه من نص مشهور للجاحظ في مسألة الترجمة: "وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسناً وبعضها ما انتقص شيئاً ولو حولت حكـمة العرب لبطـل ذلك المعـجز الذي هـو مع الوزن مع انهم لو حوّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعانيهم وفطنهم وحكمهم".

المعنى الاساسي لهذا النص ليس كون الشعر لا يترجم كما قيل، وانما كون العجم ليسوا في حاجة الى ان ينقل اليهم الشعر العربي، ليسوا في حاجة الى ان تنقل اليهم النصوص العربية، ويقول الجاحظ حكمة العرب.
ان النص العربي ليس في حاجة الى ان ينقل. لس في حاجة الى ترجمة.

لا يتصور الجاحظ الترجمة من اللغة العربية نحو لغة اخرى. الترجمة الممكنة هي دوماً في الاتجاه المعاكس. ذلك ان اللغة العربية هي لغة الثقافة، لذا فعندما تنقل اداب الفرس وكتب الهند وحكم يونان فانها ترتقي وتزداد حسناً او على الأقل لا تفقد شيئاً، لذا فلا داعي لإعادة ترجمتها.

لعل هذا ما يفسر كون كبار فلاسفتنا القدماء لم ينتبهم الشعور مطلقاً بالرباط بين اعادة التأويل والشرح، وبين اعادة الترجة والرجوع من جديد الى الأصول. يتعذر علينا نحن الآن ان نتفهم عدم شعور فلاسفتنا القدماء، وهـم يشـرحون المعلم الأول مثلهم، عدم شعورهم بضرورة اعادة الترجمة على غرار ما نلحظه اليـوم عند كبار المفكرين الذين نلحظ عندهم مواكبة مستمرة بين التأويل وبين اعادة الترجمة، أو عـلى الأقل مراجعتها وتنقيحها... لنستـحضر هايدغر قارئاً ما قبل السقراطيين، وألتوسير قارئاً فيورباخ وماركس، ودريدا قارئاً هيغل ونيتشه.

قبل ان نتساءل لماذا لم يستشعر قدماؤنا هذه الضرورة لنر هل يصدق ما قلناه سابقاً على فلاسفتنا المحدثين؟ والـظاهر ان وضعيتنا نحن الآن مخالفة، وان العلاقة التي نقيمها مع نصوص الفلسفة الغربية مغايرة لتلك التي أقامها أجدادنا مـع النصـوص التي نقلوها. ويبدو ان عندنا ولعاً بالاسئناس المتواصل باللأصول التي ننقلها والمراجعة المستمرة لما نترجمه على قلـته. يشـهد عـلى ذلك تعدد الترجمات العربية للنص الواحد. فقد أحصى أحد الدارسين سبع ترجمات ظهرت متلاحقة للنص نفسه. ونعرف ملاً اننا نتوفر على أكثر من ترجمة لمقال ديكارت وتأملاته. ولكن هل يكفي وجود حالات معينة كي تسمح لنا بأن نستخلص ان العلاقة الني نقيمها نحت الآن مع الفلسفة الغربية خالف كل المخالفة تلك التي ربطت اسلافنا بغيرهم؟

للإجابة عن هذا السؤال ربما وجب التمييز بين نوعين من التعدد في الترجمات: هناك ما يمكن نصفه بالتعدد المتناثر، وما يمكن ان ننعته بالتعدد المتناسخ. المثال الذي يحضرني لهذا النوع الثاني من التعدد هو الذي طبع، وتطبع، العلاقة التي ربطت، وما تزال تربط، الفلسفة الفرنسية بالنصوص الألمانية التي نقلتها. نعلم ان كبار الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين مترجمون للنصوص الألمانية. إلا ان ما يلفت النظر في ترجماتهم انها تنسخ بعضها بعضاً. الظاهرة المميزة لحركة الترجمة الفرنسية هي ظاهرة "اعادة النظر". وهذا لا يصدق فحسب على ما اشتهر من النصوص الألمانية بالصعوبة كنصوص هايغر، وانما على نصوص نيتشه وفرويد وهوسرل وهيغل. منذ ان بدأت أعمال هؤلاء تنقل الى اللغة الفرنسية وهي تترجم وتعاد ترجمتها. هناك اذن رجوع دائم الى النص الأصلي.

والأهم هو ان هذا الرجوع هو دوماً مراجعة واعادة نـظر. فكأن النص الألماني لا بد ان يهاجر كي يبقى وكأنه يحيا في ترجماته المتلاحقة بحيث تغدو الترجمة هنا نوعاً من الاستثمار الفكري. بين ترجمات نيتشه الحالية والترجمات التي بدأت تنجز منذ الاربعينات مسافة زمنية، لـكن ايضاً مسافة فكرية. وهذا يصدق كذلك على ترجمات فرويد ومـاركس وهيغل.

لا اعتقد اننا يمكننا ان نقول الشيء نفسه عن ترجماتنا الحالية لما نقلناه وننقله من نصوص أولاً لأنها ترجمات نادرة. وحتى ان وجدت متعددة للنص نفسه فلا مسافات فكرية تفصل بينها، بل ربما ليست هناك حتى مسافات زمنية. اذ اننا نلحظ انها تتلاحق من غير ان تتفاعل لا فيما بينها، ولا مع النصوص المنقولة والفكر المترجم. فلـيس هناك استثمار فعلي للنص المترجم. ليس هناك تملك فكـري له. معنى ذلك ان العلاقة التي تربطنا بهذه النصوص علاقة غير منتجة.

يؤكد ذلك كون بعض النصوص الفلسفية التي نقلت منذ وقت غير قريب كزرادشت نيتشه او رسالة سبينوزا أو رسالة فتكنشتاين وبعض نصوص فرويد ولوك، ان هذه النصوص عُـربت دون ان تعرف امتدادا او تثير انتباها او تطرح اشكالا او تلج شبكات جديدة من العلائق، اي انها لم تدخل في حوار مع الثقافة المنقولة اليها. فكأنها نقلت من غير أن تترجم.

هل يمكن أن نستخلص من ذلك ان العلاقة التي تربطها الآن بالنصوص التي ننقلها لا تختلف في العمق عن تلك التي ربطت فلاسفتنا القدماء مع ما نقلوه؟
امر اساس نيبغي التأكيد عليه هنا، وهو ان هذا التشابه الظاهر يخفي اختلافاً جوهرياً بين اللحظتين التاريخيتين، وأقصد اختلاف علائق القوة التي ربطت الثقافة العربية الكلاسيكية مع آخرها عن تلك التي تربطنا نحن اليوم مع غيرنا.

ذلك ان الثقافة الكلاسيكية كان تعتبر ان لغة الثقافة هي العربية، لذا فإن النص كان عندما ينقل الى العربية يزداد جمالا، كما يقول الجاحظ، أو على الاقل لا ينتقص شيئا. لا عجب اذن ان تعتمد الترجمات العربية فيها بعد كنصوص اهلية، كأصول. ويكفي مثال على ذلك أن نذكر بأن الترجمة العربية لـ"كليلة ودمنة" هي التي ستُعتمد كأصل عند ترجمة الكتابة الى اللاتينية والانكليزية والفرنسية، بـل حتى الى الفـارسية الحديثة كمـا يؤكد أحد الدارسين.

علاقة القوة التي تربطنا الآن أو على التحديد، التي تربط اللغة العربية الآن، والفكر العربي بالنصوص التي يتعامل معها علاقة مخالفة لهذه، ان لم نقل مناقضة، بل ان لم نقل مقلوبة. فنحن لا نشعر اننا نرقى بالنص عندما ننقله الى العربية و"نزيده جمال"، بل اننا نحس، على العكس من ذلك، ان نصوصنا هي التي تزداد جمالا عندما تنقل الى اللغات الاجنبية.

هذه الوضعية التي اكتفي بأن أنعتها بأنها مخالفة كل المخالفة للوضعية السالفة لا تسمح بطبيــعة الحال لا بالتعامل المنتج والترجمة اللاستثمارية للنصوص الاجنبية فحسب، بل انها تحول دون التعامل المنتج حتى مع النصوص العربية ذاتها.

لا يمكننا والحالة هذه ان نؤسس لهذا التعامل المنتج إلا اذا حاولنا أن نقلب علائق القوة التي تربطنا بغيرنا. وهذا لن يتم الا بتملك فعلي لفكره، أي التحرر منه أولا، ذلك أن التملك في ميدان الفكر لا يعني الملكية. لا يعني الاعتناق والاقتراب، وانما الابتعاد وخلق المسافات وانتاج الاسئلة.

وهذا يعني انه لا يمكننا أن نؤسس لفكر فلسفي عربي الا بالتمكن من اقامة ترجمات تتحرر من مينافيزيقا الترجمة، لا أقصد ترجمات تتحرر من مفهوم النص الأصلي وانما من الرغبة في التحول الى أصل، أي ترجمات ما تفتأ تعلق بأصولها، وما تفتأ تراجع ذاتها، ترجمات حـوارية تستثمر النص وتعيد انتاجه، ترجمات تنعش الفكر وتحوله وتشق له دروبا جديدة وتفتح له آفاق مغايرة فتسمح للنصوص بأن تبقى وتدوم عندما تطير وتهاجر.


جريدة الحياة اللندنية
- أول يونيو 2003

* بإذن عن فلاسفة العرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى