إبراهيم مشارة - رومنطيقية القلب الحزين ، الوصف عند خليل مطران قصيدة الأسد الباكي نموذجا

أقحم شعر الوصف في أدبنا العربي ضمن الشعر الغنائي أو الوجداني أو الذاتي وهو الشعر الذي يعبر فيه الشاعر عن ذاته أو "أناه " و بلفظ موجز رؤيا الذات أو موقفها من العالم و الوجود بخلاف الشعر الموضوعي أو التمثيلي حيث يعبر فيه الشاعر عن ذات الأمة ، غير أن شعر الوصف في أدبنا العربي القديم ظل وصفا ميكانيكيا لا تندغم الذات فيه في الموضوع أو لا تتصل وشائج القرابة بين الذات الشاعرة و موضوعها ، فيظل الوصف خارجيا ترى فيه أثر كد الذهن في خلق القرائن أو إدراكها بين المقتبس منه( المشبه به ) والمقتبس له ( المشبه)عن طريق التشبيه الصريح أو الاستعارة وترى التفنن في ذلك ومحاولة السبق في ابتكار التشبيهات و الاستعارات ولكن من غير أن يصير الشاعر قلب الوجود وروحه فلا يسع العالم حينها إلا أن يكون مظهرا لتلك الذات، ذلك أن الوصف بغير هذا المعنى يكون أقرب إلى العلم منه إلى الفن لأن ميكانيكيته تحيد به عن روح الشعر التي هي في الصميم رؤيا وذلك لأنك في الشعر لا تطلب الحقائق الموضوعية وإنما تطلب كيانا شعريا في تفاعله مع الوجود ورؤيته له، وذلك الكيان الشعري هو أشبه بالبناء المشمخر الذي تدخله لأول مرة مكتشفا سراديبه وردهاته وغرفه متذوقا جماله واقعا على فرادته وأنت واثق أنك لم تقع على مثله من قبل على كثرة ما دخلت إلى الدور والقصور وبالمختصر فالشعر هو الرؤيا والفرادة معا لأن الروح الشعرية لا تقبل الاستنساخ والتقليد إعدام لها وتجني على روح الشعر، وقد غاب هذا المفهوم العميق للشعر عن أذهان أسلافنا ونقادنا القدامى فانصرفوا إلى النقد الفقهي أو تتبع السرقات الأدبية واكتشاف مصادرها لولا محاولات من هنا ومن هناك تخرج من تلك الصحراء منقذة أناها ملقية بها في إصرار في مملكة الشعر المعروفة بحدودها المتعالية على سواها من الممالك ولعل امرأ القيس أفضل الشعراء الذين فروا بجلدهم من صحراء التيه لائذين بمملكة الشعر وترى الوصف عنده لصيقا في معظم الأحوال بذاته ويغدو الوجود بمظاهره ملونا بلون ذاته وخير مثال على ذلك هو وصفه لليل:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علي بــأنواع الــهموم لــــيبتلي

فقــــــلت لـــه لما تمطى بصلبه

وأردف أعـــــجازا وناء بكلكل

ألا أيـــها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فالليل هنا ليس ليلي وليلك أو ليل الكائنات الذي تسكن فيه إلى بعضها البعض وليس بليل موضوعي نستمتع فيه بجمال النجوم وروعة السكون بل هو ليل خاص ملون بلون الذات
الحزينة الخائفة منه والذي ترى فيه غولا يناور ويتهجم محاولا إزهاق روح الشاعر وسكينته وأنت إذا أردت مثلا للوصف الموضوعي أو الذي أسميناه ميكانيكيا فلن تعدمه لأنه الكثرة الطاغية في شعر الوصف في أدبنا القديم فمنه قول امرئ القيس في وصف سرعة جواده :

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السيل من عل

أو قول طرفة في وصفه الطلل :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

أو كقول الأعشى في وصف مشية حبيبته:

كأن مشيتها من بيت جارتها

مر السحابة لاريث ولاعجل

أو كقول المتنبي في وصف جثث الأعداء:

نثرتهم فوق الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم

أو كقول أبي تمام في نفس الغرض :

تسعون ألفا كــــــآساد الشرى

نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب

وتستطيع أن تجد لذلك أمثلة كثيرة في شعر البارودي وإسماعيل صبري وحافظ وشوقي ولا يتسع المقام للاستطراد في ضرب الأمثلة.
غير أن الشعر الحديث وفي تأثره بالشعر الغربي الفرنسي والإنجليزي خاصة وفي العب من نظريات النقد عند أعلامه في الغرب تنبه إلى ذلك وأدرك بعض الشعراء أن الشعر في حقيقته رؤيا وكان هذا أهم مظهر من مظاهر التجديد قبل النظر في الأوزان والقوافي لاأثر فيه للتقليد أو الاستنساخ ولعل شاعرنا الكبير خليل مطران أبرز الشعراء المحدثين الذين أدركوا ذلك ونفذوا ببصيرتهم إلى حقيقة الشعر ولبابه.
وخليل مطران( 1872- 1943) شاعر القطرين العربي الصميم المنحدر عن الغساسنة ملوك الشام وكان أخر ملك منهم جبلة بن الأيهم الذي أسلم وقد قال الشاعر مشيرا إلى نسبه العريق هذا:

ألا يابني غسان من ولد يعرب

وأجدادكم أجدادي العظماء

وبقيت بقية منهم لم تسلم محتفظة بنصرانيتها، ونزحت إلى لبنان بعض العائلات منها كعائلة مطران التي تمذهبت بالأرثوذكسية في البدء ثم تكثلكت وأما اللقب الذي لحق بهم فذلك أن أحد أجداد الشاعر كان مطران كنيسه ببعلبك، وقد تعرضت عائلة الشاعر للاضطهاد وإلى مصادرة الأملاك التابعة لهم في وادي البقاع من قبل الولاة التابعين للباب العالي في استانبول فنزحت إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة وفيها عاش الشاعر ونبه ذكره مشتغلا بالصحافة في جريدة " الأهرام" ثم أصدر عام 1900 "المجلة العربية" وعام 1902 أصدر الجوائب.
والشاعر أحد أركان النهضة الشعرية في العصر الحديث جمع بين الملكة الشعرية والملكة اللغوية ودقة التصوير والدفق العاطفي والتمكن من الأدب العربي قديمه وحديثه إضافة إلى اتقانه اللغتين الفرنسية والإنجليزية ومطالعته للأدبين الفرنسي والإنجليزي خاصة الرومنطيقي منه كشعر ووردزورث وشلي وجون كيتس وبايرون وألفريد دي موسيه وفرلين ورامبو وهوغو ولامارتين وغيرهم ثم فوق ذلك كله حس إنساني رفيع ونبالة خلق وصفاء ضمير واستقامة نفس فلا يذكر غيره إلا بالخير كما ترفع عن النقد الجارح والقذف والحسد وأخلاقه شهد له بها معاصروه، ويكفي دليلا على رهافة حسه ووفائه أنه دخل مرة إلى حديقة في القاهرة فلقي فتاة في عمر الزهور أعجب بها وخفق لها فؤاده بمشاعر الوداد فحام حولها حومان النحل حول الزهر من 1897 إلى 1903 غير أن الفتاة ماتت مصدورة فحزن الشاعر لموتها وصمم على حياة العزوبية وكتب في رثاء الراحلة قصيدة يقول في مطلعها:

سررت في العمر مره

وكنت أنت المسره

فقد كان مطران إذا رجل عفة واستقامة عانى من شظف العيش وكدح بشرف مترفعا عن سفاسف الأمور وفي نظراته حزن تكشف عن ألم دفين وحسرة متمكنة من النفس لعلها حسرة الزوال وانفضاض المجالس وبطلان الحياة وتهافت ملذاتها ورغائبها ثم سلطة القدر وسيفه المسلط على الإنسان إذ لا يمكن الإنسان من نيل رغائبه ولعل موت حبيبته أسوأ مؤشر على ذلك. وفي شعر مطران هدوء وسلاسة فهو غير شوقي المقتفي أثر الشعراء الكبار كالمتنبي وأبي تمام والبحتري وهو غير حافظ صاحب المزاج الحاد وقد كانت كلماته المنتقاة موحية بذلك ، مجلجلة بتأثير من طفولته المشردة وكهولته التعيسة من غير زوج وولد وكأنه أراد للناس حياة غير حياته فثار على الخصاصة سليلة الفقر والطبقية .
أما خليل مطران فهو كالنهر إذ استوى في سهل يجري هادئا متمهلا بلا صخب أو ضوضاء متأملا الوجود بنظرة حانية لا يخفى على المتأمل انكسارها ونفس يغلفها شعور بالأسى ولكنها هادئة لا تثور كالبركان وتقذف بحممها في شعرها فتحرق القارئ معها .
لقد كان الشاعر الإنجليزي ووردزورث ينصح الشعراء أن يتمهلوا فلا ينبغي أن يمسك الشاعر بقلمه كلما خفق قلبه أو اضطرمت مشاعره، أي أن يكون الشعر استجابة عارضة لمؤثر خارجي بل يجب عليه أن يتأنى ويترك المشاعر تهدأ والزمن يفعل فعله ليذهب الزبد جفاء وما ينفع الناس والفن يبقى وتنجلي الغاشية عن الأشياء لأن العاطفة القوية تلفها كالضباب، وهي قوية صاخبة معربدة تلمع كالشهاب فجأة ثم تخبو رويدا رويدا وتنتهي رمادا.
وقد سلم مطران من هذه الآفة التي تسئ إلى الشعر فصانه عن أن يكون زبدا أو رمادا.
وفي قصيدته" الأسد الباكي" وهي من عيون الشعر الحديث ولاتعني الحداثة أن يكون الشعر على نسق شعر التفعيلة والكثير منه رغاء، إنما الحداثة هي الوعي بالزمن و الإندغام في العصر في علاقته الجدلية بالماضي منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا وبإضافة شيء إلى المعمار الإنساني لا بكلمة تلوكها الألسن وتمجها القلوب الانسانية الحقة.
ولقد كتب الشاعر هذه القصيدة إثر أزمة خانقة عاشها الشاعر وطوحت به ذلك أنه فشل في مشروع من مشاريع حياته حيث عمل من عام 1909 إلى عام 1912 بالتجارة وربح وخسر ثم قام بصفقة مضاربة خسر فيها أمواله واعتزل بعين شمس يائسا ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد توسل الأحباب والأصحاب.
والعنوان ذاته موحي بعمق الأزمة فالأسد على سبيل الاستعارة دال على معاني الرجولة وصفاتها الجوهرية كالقوة الروحية والشهامة والترفع عن الصغائر وتأتي الصفة لاحقة بالموصوف لتوحي بالعجز تحت وطأة الظروف وقسوة الزمن فيأبى الشاعر أن يريق ماء وجهه ويتزلف وينافق استجلابا للسلامة أو الرفاه ولا يسعفه غير الدمع أبلغ تعبير عن عمق الجرح وهو في حد ذاته لغة قوامها كيمياء الجسد لا اللفظ السالك مجرى الطعام وسخونته وشفافيته البلورية هما آية الصدق مع النفس والعالم ، والحق أن خصيصة الوصف الحلولي هذه لم يكن مطران وحده هو ممثلها في شعرنا الحديث فقد تخلص هذا الشعر في صيغته الحداثية من آفة الذات والموضوع فهما واحد وليس العالم إلا حلول الشاعر فيه وتلونه بلونه فهو ليس عالما حياديا بل مزاجيا وفي وسع علم النفس أن يمدنا بمفاتيح تفتح أبواب الفهم وتنير حلكات الطريق ولعل الإسقاط خير ما يسعفنا به هذا العلم من مكتشفاته في دنيا النفس القريبة البعيدة، ذلك أن عالم اللاوعي وعظمة خطره في الحياة الإنسانية واستعصائه على المراقبة والتحري فهو كالحزب السري ينشط في الخفاء ويجيد المكر والتلاعب ولا يحب العلن لتعوده على حياة الخفاء فيجئ الوصف أحيانا فيه إشارات من العقل الباطن بل هو كضربات الفرشاة التي تكمل رسم اللوحة وكثيرا ما تكون تلك الضربات حاسمة، وهنا تحديدا يتجلى معنى التمايه بين الذات والموضوع وهو ما عنيناه بالإندغام، ولا تقف الصورة الشعرية عند هذا الحد فالرؤيا الشعرية تتمرد على الواقع وتخرق المألوف ولا تساوم في حريتها وشفافيتها واندفاعها نحو الآفاق بقوة عجيبة يضفي عليها الحلم مسحة رومنطقية أو صوفية ويزيدها الرمز أحيانا إيحائية أو ضبابية تحافظ بها على رونقها، وخير مثال على هذا الوصف الذي أسميناه بالحلولي هذا المقطع للسياب في وصف مصباح الإضاءة الليلية في دروب المبغى البغدادي:

وكأن مصباحيه من ضجر

كفان مدهما لي العار

كفان بل ثغران قد صبغا

بدم تدفق منه تيار

فإذا كان هذا المقطع يعكس حالة الشبقية التي كانت تعذب الشاعر حد الفناء ، فإن الوصف هنا تجاوز الحدود المألوفة ففيه حركية الكفين والثغرين والتشبيه هنا خلاق فهو من قبيل تشبيه الجامد بالحي ثم تأتي دلالة العار وهي دلالة دينية أخلاقية في ذات الوقت موحية بالإحساس بالذنب وارتكاب المعصية، غير أن النزوة الجسدية والقوة الشهوانية أقوى وأغلب فتلون الوجود كله بلونها القاني .
وأما في قصيدة خليل مطران فكثيرا ما نقع على هذا الوصف الذي أسميناه بالوصف الحلولي حيث يتأنسن الوجود بفعل رؤية الشاعر التي ترى الوجود حيا فاعلا ديناميكيا بمظاهره لا مجرد أحجام وكتل وأرقام فترى الشاعر يحاوره محاولا الوقوف على خفاياه كاشفا إياها كقوله:

شاك إلى البحر اضطراب خواطري

فيجيبني برياحه الهوجاء

واللمسة الرومنطيقية واضحة هنا خاصة في قوله " برياحه الهوجاء" إلا أن البحر هنا صار يجسد جبروت الطبيعة وقهرها وهو موقف للذات المغلوبة التي صارت ترى الوجود وكأنه تآمر عليها فلتحمل صليبها إلى ذروة الجلجلة وحيدة في معاناتها ولو كلفها ذلك حياتها !
ثم يأتي الوصف متتابعا متلاحقا فالشاعر ود لو أن قلبه كالصخر لا يتألم ولا ينزف وكأنه حسد الصخرة على بلادتها وعدم إحساسها ولو أن السقم والبرحاء نفذا إلى أعماقها فهدت صلادتها وخففت من غلواء الداء وتباريحه على الشاعر .
لقد غدت الطبيعة والشاعر هنا واحدا ولم تعد موضوعا وهذا ما يضفي على التشبيهات ديناميكية ويخرجها عن رتابة التشبيهات الكلاسيكية:

ثاو على صخر أصم وليت لي

قلبا كهذي الصخرة الصماء !

ينتـــابها موج كموج مكارهي

ويــــفتها كالسقم في أعضائي

أما البحر ذاته فعاد إليه الشاعر ليضفي عليه سمة الإنسان فألحقه بزمرة اليائسين، وأي يأس؟ إنه يأس الشاعر ذاته الذي أسقطه على الوجود فتلون كله بلون أسود ، وكأن مفتاح الرؤيا تجلى في معنى لفظة " كن أيها الوجود" فكان كما أراده الشاعر وجودا ذاتيا لاحقيقة له إلا في قرارة نفس الشاعر.
ويمكن فهم ذلك كله بالعودة إلى علم النفس حيث تبحث الذات إذا وقعت في كمين عن نظراء لها أصيبوا بما أصيبت به لتخف الغلواء وهو ما يجسده القول المأثور " إذا عمت خفت" وقد عمت البلوى هنا الوجود كله فالصخرة بلواها في بلادتها والبحر في كمده والوجود كله سأمان والأفق معتكر:

والأفق معتكر قريح جفنه

يغضي على الغمرات والأقذاء

ولن تجد في الشعر العربي قديمه وحديثه شاعرا أبدع في وصف الغروب شأن خليل مطران وفي الواقع فوصفه استبطان للذات وكشف لخفاياها بترصد عناصر اللوحة الطبيعية المتجلية في غروب الشمس ، ولقد رأى فيه الشاعر عبرة، وأية عبرة؟ لعلها عبرة الاضمحلال والزوال وقديما قال الشاعر:

منع البقاء تقلب الشمس

وطلوعها من حيث لا تمسي

وطلوعها حمراء صافية

وغروبها صفراء كالورس

اليوم أعلم مايجيء به

ومضى بفصل قضائه أمس

غير أن الشاعر يرى الظلام طمسا لليقين وذهابا بالنور الذي تمثل جنازته ، فالظلام يذكر بالهجوع الأبدي لولا أن الشمس تشرق غدا والحياة تبدأ دورتها من جديد لكن وحشة الروح وكآبة النفس ظلمة دامسة لن تشرق عليها شمس السرور وحق للشاعر أن يتألم لها:

ياللغروب ومابه من عبرة

للمستهام وعبرة للرائي !

أوليس نزعا للنهار وصرعة

للشمس بين جنازة الأضواء؟

أوليس طمسا لليقين ومبعثا

للشك بين غلا ئل الظلماء؟

أوليس محوا للوجود إلى مدى

وإبادة لمعالم الأشياء؟

حتى يكون النور تجديدا لها

ويكون شبه البعث عود ذكاء

ولا غرض للاستفهام هنا إلا الإثبات.
أما السحاب فقد تلون بلون الدم والدم في عرف الرومنطيقيين رمز المعاناة والتباريح فلا بأس أن يشبه به خواطره الحزينة مادام قد رأى الوجود كله بتأثير من نفسه كئيبا:

وخواطري تبدو تجاه ناظري

كلمى كدامية السحاب إزائي

وولع الشاعر بالحمرة يمتد حتى إلى الدمعة وقد عهدناها بلورية شفافة عند الرومنطيقيين ولكنها عند الشاعر غدت حمراء:

والشمس في شفق يسيل نضاره

فوق العقيق على ذرى سوداء

مرت خلال غما متين تحدرا

وتقطعت كالدمعة الحمراء

وقد خان الشاعر التوفيق هنا فلو أننا سلمنا معه بحمرة الدمعة وقلنا أنها اختلطت بالدم الذي كان الشاعر ينزف به مما به من تباريح ،فأي شئ يقطع الدمعة الحمراء؟ وهو يريد وصف احتجاب جزء من قرص الشمس وراء السحاب الأحمر ولو كان أراد غير ذلك لكان أجدر به أن يقول "وتنزلت " مثلا إذا برز قرص الشمس ثانية بعد احتجابه بالغمام.
وترى الشاعر في النهاية أقام مناحة وجودية وتأبينا كونيا له ، ومادام الشاعر هو قلب الوجود وإذا كان القلب تعيسا حزينا فلن يضخ إلى الوجود إلا الكآبة واليأس، فبكت الطبيعة لبكائه والزمن جسد للشاعر معنى الزوال بهذا المشهد الرومنطيقي الحزين الجامع بين لوعة المعنى ودلالة اللون:

فكأن آخر دمعة للكون قد

مزجت بأدمعي لرثائي

وكأني آنست يومي زائلا

فرأيت في المرآة كيف مسائي !

وأما البحر الذي اختاره الشاعر لقصيدته فهو الكامل وهو يتسع بتفعيلاته الست المتكررة "متفاعلن" السباعية لتضمن المعنى والشجن والدفق العاطفي ويزيده إضمار " متفاعلن" جرسا موسيقيا عذبا تستلذه الأذن ويعلق بالقلب وأما الضرب بإضمارمتفاعلن وحذف النون مع إسكان اللام لتغدو " مستفعل" فهو أعذب ما في الكامل على كثرة أعاريضه وأضربه وحتى البارودي في رثائه لزوجته تخير هذا الضرب.
لقد كنا نعد الوصف في الشعر مهارة ذهنية ولغوية معا تظهر براعة الشاعر فيه في تمثل المشبه به وكلما كان فريدا غير مسبوق وكانت علاقته بالمشبه وطيدة كلما كان الشاعر ذا عبقرية مفلقة فجاء مطران وزاد على هذا بأن أنسن الطبيعة واندغم فيها ووصفها من خلال وجدانه على سبيل التمايه أي أن تغدوا الذات والموضوع واحدا وهو بذلك مدين بلا شك للرومنطيقية الغربية التي اغتذى بلبانها وتمثل " الرؤيا" التي نص عليها وليم بليك، وقد ساعده على ذلك إضافة إلى الدفق الوجداني وقوة المخيلة وخصبها امتلاك الأداة أي اللغة التي طوعها لأغراضه البيانية ولا عجب فمن يزعم أن الغساسنة أجداده لا جرم أنه يمتلك ناصية اللغة وقد أفلح الشاعر في ذلك إلى حد بعيد وستبقى قصيدته " الأسد الباكي" خير ما يمثل مذهبه الجديد في فن الوصف على الرغم من مسحة الكآبة البادية عليها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى