مبارك ربيع - محمد بيدي، قدرة إبداعية، حدة وعي نقدي، مجتمع لافظ

معادلة ثلاثية العناصر، قد لا تستقيم منطقياً أو معقولياً، لكنها أكثر استقامة ومثولا في واقع وفي تعبير عن واقع كذلك؛ معادلة لعلها تبقى الأمثل لحديث عن الفقيد الأديب محمد بيدي، أو هي ضرورة ما يفرضه واجب صداقته والتعرف عليه عن بعض قرب.
شخص متعدد المواهب والقدرات في المجالات الإبداعية، كتب القصة والشعر والدراسة باللغتين العربية والفرنسية، رغم إيثاره العربية أساساً في إبداعه القصصي بالذات(1)؛ فلقد انبعثت في أعماقه شعلة الأمل والطموح، منذ نشوته الأولى بالتفوق في البكالوريا (المزدوجة)، ولعلها كانت كامنة متحفزة قبل ذلك، أو فاعلة متفاعلة ببعض تجليات ما تحتمله المرحلة الثانوية من تجارب أولية، لكنها بنهاية تلك المرحلة، وجدت متنفسها الأمثل لتنبثق معلنة عن ممارسة وجودها بإرادة وعزم وتصميم؛ إذ لم يكن شئ يتحقق في حياة محمد بيدي، سواء قلّ أو علا شأنه، إلا وهو ثمرة الجد والجهد والاجتهاد، لذلك كان رحمه الله كثيراً ما يعبر عما يتضمنه تركيب اسمه العائلي، أو يُضمنه إياه من مفهوم العلاقة، على نحو «ب ... يدي» قاصداً بذلك اعتماده في الحياة على إرادته وجهده الخاص، وكأنه بذلك يقدم المثال الحي على استيعاب الدرس المدرسي الأخلاقي المأثور: « إن الفتى من يقول هانذا ؛ ليس الفتى من يقول كان أبي».
والواقع، أن هذا النهج في حياة الفقيد محمد بيدي، هو ما يبرر عنونة الحديث عنه، بعناصر معادلة ثلاثية مكوناتها القدرة الإبداعية، حدة الوعي النقدي، والبيئة المجتمعية غير الحاضنة، إن لم نقل المتجاهلة أو الرافضة اللافظة.
بخصوص البيئة المجتمعية هذه، يمكن تأكيد ما سبق أن أثرته أكثر من مرة، وبخاصة في ندوة عن «نجيب محفوظ» بعيد وفاته، من مفهوم «مجتمع الظاهرة»، وأقصد به أكثر من مفهوم المجتمع الحاضن، إنه المجتمع اليقظ المنتبه المنصت والمتتبع إلى ما ينتجه من ظواهر، والواعي بوجوده ووجودها، وهو بذلك أيضاً، أكثر من راع لظواهره الإيجابية بالذات، بل هو قبل ذلك صانع لها وواع بذلك، بدرجة وكيفية ما، بحيث لا يمثل الاحتضان والرعاية والتتبع، إلا بعضاً من اشتغال البيئة المجتمعية العامة، بالنسبة إلى ظواهرها، والمقصود هنا الظواهر الإيجابية الإبداعية على وجه الخصوص، مهما كانت مجالات ذلك الإبداع، أدبية أو فنية أو علمية.
لا نتردد في أن نؤكد ما يبدو واضحاً من أن مجتمعنا المغربي، لم يصل من التبلور والنضج هذا الميل التحضري المخصوص في هذا الباب، أي ما يؤهله ليشمله مفهوم «مجتمع الظاهرة» بالمقصود به في هذا السياق، وهو ما نراه ثقافياً إبداعياً وفنياً، يتحقق في مجتمعات أخرى، في طليعتها المجتمع المصري على سبيل المثال.
يمكن القول إن الفقيد محمد بيدي، قد «اختار» مبدئياً أن يقتحم مجال الحياة العملية باكراً إلى حد ما، اختيار يبدو منسجماً مع نهجه في الحياة، لكي يتكفل بنفسه بجهده الخاص، ولا يكون عالة على غيره مهما كان هذا الغير؛ لكن «اختياراً» كهذا في وقت مبكر من حياة الشخص، لا يمكن أن يكون نتيجة حرية فردية مطلقة، أو إرادة ذاتية خالصة، بل لابد أن يكون للظروف المجتمعية المحيطة دورها في ذلك، وليس الأمر خلافه في حياة الفقيد محمد بيدي وسياقه، كما أنه لم يكن منزعجاً من ذلك كل الانزعاج في ظاهر الحال على الأقل، بل ربما يمكن القول إنه كان جد متفائل، وواثقاً من قدرته على الاقتحام والتحدي، أو بمعنى أدق على تحمل المسؤولية؛ فقد كان فعلا رجل المسؤولية والواجب بامتياز.
لم تكن النشوة الذاتية للفقيد، تقتصر على مجرد تفوقه في البكالوريا، ولكن بتفوقه أيضاً في ولوج الحياة العملية من أوسع أبوابها بالنسبة لظروفه الخاصة، وبالنسبة للظروف العامة لمغرب الستينيات من القرن الماضي، فقد كان البلد في حاجة إلى سواعد وأدمغة بناءة في شتى المجالات، ومحمد بيدي كان من المهيئين للدور بإتقانه لغتين (يلعب بهما لعباً) كما تقتضي العبارة، وأكثر من ذلك، يحالفه الحظ في ولوج إدارة المؤسسة المعدنية الكبرى، في طليعة لائحة الفائزين المقبولين، من جملة المترشحين الحالمين بالعمل في نطاقها.
ما يمكن ملاحظته في هذه المرحلة الرئيسية من حياة محمد بيدي، أنه في غمرة مسؤوليات عمله اليومي، خاصة وأنه ألحق بالإدارة المركزية بالرباط، لم يتخل عن توجهه في الكتابة الأدبية، تماماَ كما يبدو أنه بدأ ممارسة الكتابة باكراً قبل ذلك، بغض النظر عن النشر من جهة، وعن هاجس التثقيف واستكمال الدراسة الجامعية من جهة أخرى، بيد أن حدة وعيه النقدي الاجتماعي، كما تمثلت من خلال التعبير عنها في أعماله الإبداعية، ولاسيما القصصية منها، وضمنها رؤيته المتجلية من خلال مجموعته القصصية الأولى «المثلث المكسور»، علاوة على ما انفتح لخبرته من عوالم مستويات وعلاقات مختلفة، في المجالات الإدارية التي تتصل بعمله ونشاطه اليومي ضمن دائرته، كل ذلك جعله يستشعر شبه نشاز غير مريح، في إيقاع ما به وما يجري حوله، ومن ثم، بدأت تتسلل إلى أحاسيسه نغيلة تلامس مشاعر ثقته بذاته ومحيطه، وتخالط بوجه خاص براءة رؤيته للعالم والقيم، ومن هنا بدأ تتفاعل فيه مشاعر الرفض لما يعاين ويختبر على امتداد حياته الإدارية، من غياب معايير الموضوعية، في المنظومة الداخلية لعمل الإدارة في تقدير الكفاءة والأداء، بل بدا له بالملموس حسب ما يعبر عنه في الحديث المباشر، أنماط من تفشي التحيز والمحسوبية، في إقرار الترقيات والمكافآت على اختلافها، وبطبيعة الحال كان هو بذاته ضحية ذلك، إذ لم تكن تسنده أسماء وازنة، ولا تقف وراءه شخصيات ذات اعتبار، كما هو حال غيره ممن كان يراهم دون أدائه وكفاءته، لكنهم يحظون بالترقيات والامتيازات، بل إنه كان شاهداً على ما يعبر عنه اليوم بمصطلح «الموظفين الأشباح»، وتمثله ظاهرة الموظفين غير المرئيين، وإن كان أغلبهم أو بعضهم على الأقل، كان معروفاً من قبله وقبل غيره، إذ كان بعض أولئك الأشخاص، خلافاً للأشباح الحقيقية إن صح التعبير مغروفين بأسمائهم وحيثياتهم الاجتماعية، يظهرون عندما يشاؤون وفي المناسبات المنتقاة، لا يؤدون شيئاً ولا يوكل إليهم شئ يتعلق بالعمل، سواء في المؤسسة المركزية أو مراكزها الجهوية، لكنهم يتقاضون مقابل ذلك رواتب مجزية، علاوة على الامتيازات بمختلف الأصناف والأشكال.
ويعتبر انعكاس مثل هذا المشهد عاملا في تلوين حساسية الفقيد محمد بيدي، كما يعبر عن ذلك في ردود فعله الذاتية تجاهه، وهي ردود تتسم بتقييم سلبي ولا إنساني لما حوله، ومن الطبيعي أن يتعزز ذلك كله، عندما يحصل محمد بيدي على الشهادة الجامعية التي كانت تبدو شبه تعلة ضمنية، لما يلمسه من عدم اعتبار لأدائه في المؤسسة، مقارنة مع وضع زملاء حوله من ذوي الشهادة الجامعية أو ممن بدونها، فقد ترسخ في نفسه بعامل أو آخر، أن حصوله على الشهادة الجامعية، سيعفيه من هذه المقاساة الباطنية، ويتجاوز به الوضع الشاذ من الباب الواسع، بل يفرض ذلك فرضاً ويحققه واجباً؛ لكن ما سيحصل هو عكس ذلك تماماً، فالحصول على الشهادة الذي كان دعامة لبعض زملائه في الإدارة، باتجاه إصلاح أوضاعهم وترقيتهم، لم يشفع له هو بالذات، مما فاقم من تأزم حساسيته الداخلية ومن نوعية تفاعله مع ما حوله، علماً بأن محمد بيدي طبيعته المسالمة، ولم يكن منتمياً لأية قوة ضغط، مهما كانت طبيعتها، مما لعله يؤهل لتركيز تفاعلاته الباطنيةً.
يجب القول إن محمد بيدي كان في كل الأحوال، يجد عزاءه في الكتابة بشتى أنواعها، باللغتين العربية والفرنسية، من مقالة وشعر وترجمة وقصة، وهذه الأخيرة كانت إلى حد ما مربط الفرس وباللغة العربية، وكانت أولى ثمارها جماع ما كان قد نشره متفرقاً في المنابر الثقافية، ولا سيما الملحقات الأدبية للجرائد الوطنية، والتي حملتها مجموعة «المثلث المكسور» التي صدرت بمقدمة ذات أهمية ودلالة للأستاذ محمد برادة؛ والواقع أن هذه المجموعة تمثل من الناحية المضمونية على الأقل، تعبيراً عن عالم ومحيط مكسور في علاقاته وبنياته، كما يلمسه ويراه محمد بيدي في خبرته.
رغم كل شئ، لم تكن حياة محمد بيدي لوحة بالسواد، فقد كانت إنسانيته وكما كانت إرادته أيضاً، كفيلة لتتجاوز به المشاكل والعوائق، مع بسند معنوي وعملي، من بعض المتفهمين من حوله خارج المؤسسة أو داخلها على ندرتهم، وفي طليعتهم الزميل محمد برادة الذي كان في كثير من المراحل سندا متفهما ومعيناً. وتبدو هذه كلها من العوامل التي تدفع باتجاه ما يجب من تحقيق التوازنات الضرورية، للقيام بالالتزامات واللوازم الوجودية الحياتية والوظيفية على السواء؛ وإلى ذلك كانت ثم إشراقات هامة في حياة محمد بيدي، تمثل السند الأقوى في كل ذلك، وتتمثل في أسرته الصغيرة وعشه العائلي، مع رفيقة حياته وأولاده، وهنا يسجل لمحمد بيدي حرصه الشديد على القيام بدوره كرب أسرة، وعلى تعليم أبنائه تعليماً جيداً في المدارس الخصوصية، وفي الأجود المعروف منها إذ ذاك، فهو لم يكن يبخل بشئ في هذا السبيل، بل إنه كان مسلمة وجوده، ومبعث إشراق حياته الخاصة، وبمكن أن يضاف إلى ذلك، أنه سيحظى بسكن وظيفي إداري في مرحلة من وجوده بالعاصمة.
بيد أن هدوء الحياة العائلية، والتزام الواجبات التي تتطلبها، بل وتوافر مناخ الهدوء الضروري للذات الإبداعية المرهفة، لم تأت فيما يبدو مكافئاً لما تعانيه الذات من الضغوط ومولدات الصراع في المحيط الخارجي، وبخاصة محيط المؤسسة الإدارية في نشاطها اليومي، كما لم تشكل بدورها أيضاً مكافئاً لذلك فيما يبدو، مرافئُ الإبداع والحياة الثقافية برمتها؛ مما أعطى فرصا مواتية، لبوادر خلل في العلاقات ما بين الشخصية المبدعة وعالمها الواقعي.
لقد كان لحدة الشعور بالضيم و»الانظلام»، بمولداتها الخارجية التي بدت محسوسة معلومة في حالة محمد بيدي، من جهة انعكاسها على ردود فعله واستجاباته، وهي دائما ردود مسالمة مرتدة إلى الداخل في معظمها، أثر سلبي على توازناته الذاتية فيما نفترض، حتى وإن كان من المغامرة في الفهم والتحليل، إرجاع كل شئ إلي العامل الخارجي المرتبط بدائرة المؤسسة وحدها، وأجواء اشتغالها، إذ لا تنزه عوامل أخرى ذاتية شخصية وأخرى موضوعية خارجية مختلفة، تفترض فاعلة بدرجة ما في تشكيل اللوحة.
وهنا أشير إلى أن توجهاً سيتبلور، وكأنه انقداح شعاع النور المضيئ المؤنس، يتراءى ولو من بعيد في نهاية النفق، إذ يرتسم في ذهن محمد بيدي، سواء باقتناع ورغبة منه، أو بإيعاز أو توجيه موضوعي إداري، يتمثل في أن عليه الانتقال إلى بعض المراكز الجهوية في الأطراف، للعمل وإنجاز دراسة ميدانية أو شبهها، تتعلق بالمؤسسة أو مجتمعها في جانب من الجوانب؛ وبعبارة أخرى، يتمثل الأمر في أن على الشخص إنجاز بحث يتعلق بشؤون المؤسسة، وفي مجال مجتمع إنتاجها الميداني، ليعرض ويناقش في النهاية أمام لجنة متخصصة؛ وأذكر في هذا الظرف بالذات، أنني لمست ما لم أكن أشك فيه، مما كان يحدو محمد بيدي من أمال، في أن هذا الإنجاز كفيل بأن يبني له ما يستحقه من اعتبار، وما يترتب عليه لصالحه وصلاح وضعه الإداري من إجراءات، وأذكر أنه استشارني في بعض المراحل من اشتغاله بهذا العمل وكنت جد مقتنع بمنجز محمد بيدي في هذا الصدد، ومن ثم كانت الصدمة ثقيلة الوطأة عليّ شخصياً، ربما أكثر من المعني بها نفسه، عندما علمت أن النتيجة كانت سلبية.
وثقل رد الفعل عليّ شخصياً كان مضاعفاً، للنتيجة في حد ذاتها من جهة، ولما رأيته من استسلام ذاتي داخلي من محمد بيدي، متمثلا في رضوخه للأمر، على غير عادته ولو في مستوى التعبير عن مشاعر الغبن و»الانظلامية» من جهة ثانية.
وأشعر بأن كل ما تفاعل في داخلي بهذه المناسبة كان له ما يبرره، فقد كنت على علم بالخطوط العامة على الأقل، لما بذله بيدي من جهد، كما أن بعض الجوانب التي استشارني فيها، لم أبخل حسب خبرتي في الإشراف على البحوث الجامعية، بتوضيح ما كنت أراه مناسباً أو ضرورياً من الناحية المنهجيةً على الأقل، كما أن قدرة بيدي الثقافية وأداءه التعبيري، وتكوينه الجامعي، علاوة على ما اكتسبه من خبرة سنوات في الإدارة المركزية، كل ذلك كان كفيلا بالمكمل والمتبقي، وحتى لو اعتبرنا أن بعض العناصر الذاتية أو الشخصية، يمكن أن تتدخل في عمل اللجنة المقررة، وهي لم تكن أمام مباراة تفضيلية، بل أمام حالة أو وضعية إدارية يجب تسويتها، فإن من شأن ذلك كله حسب المتوقع، أن يعمل لصالح الموظف الباحث، رب الأسرة الجامعي، والمراكم لأقدمية هامة في العمل بالمؤسسة؛ لكن «موضوعية» اللجنة المناقشة والمقررة فيما يتبين من النتيجة السلبية، كانت من طبيعة خاصة.
أما الوجه الأهم والأعمق لتفاعلي مع هذه الحادثة، في مسار صاحب «المثلث المكسور»ه والذي أحسست به شخصياً، كما جسده تعبيره عن هذه الحال، هو لهجة الخضوع ولا أقول الاقتناع، من قبل بيدي بما جرى، أقول إن محاولته تبرير فشله، أي الميل إلى إعطاء اللجنة الحق فيما ذهبت إليه، أو على الأقل عدم تعميق مؤاخذته لها، وكله على خلاف عادته التظلمية عن حق واستحقاق حسب ما كان يروي من معاينات، إنما يدل على احتجاج عميق معكوس في نظري، وهو أخطر أنواع الاحتجاج من الناحية الإنسانية: لنتصور الضحية الحق في أي مجال (حتى في مجال الضحية الذبيحة البكماء) تنصب نفسها مدافعاً عن غريمها، أو مبررة فعله في الإجهاز عليها؛ هذه الصورة في قراءة الموضوع، أخذتني من كل وجهة، وما تزال بعض أثارها إلى اليوم ملازمة مؤثرةً؛ فلقد بدا لي محمد بيدي، وكأنه يفقد شيئاً فشيئاَ سلاحه الذاتي الحق، الذي يجب أن نظل على امتلاك له، ولو جزئياً مهما بلغت الأحداث.
بعد ذلك بمدة أعجز عن تحديدها، سيحال محمد بيدي على التقاعد، وهو ليس تقاعد من بلغ من العمر عتياً، بل كان يبدو في أوج القدرة على العطاء، هو إذن نوع من «تقاعد مرضي» أو «تقاعد عجز» أو استثنائي أو غيره، كما لست أدري شيئا مدققا عن المسببات المباشرة له، لكن السياق يجعلها قابلة للفهم على الأقل، فالصراعات والضغوط التي تشتد على الشخص، وبخاصة إذا لم يكن الوسط مسانداً بقوة وفاعلية، بل إذا كان لافظا غير حاضن، فالنهاية معروفة، وهي دوماً على حساب انهيار الذات، باستسلامها ووضعها السلاح، وبفقدان آليات الدفاع .
مرة أخرى لا يحتجّ محمد بيدي، بل يبدو وكأنه صانع تقاعده «القهري» أو الساعي إليه، لا أدري بأية مادة أقنع أو اقتنع بذلك، لكنه عندما علمت بالأمر، كان قضياً مقضياً.
لم تكن حياة محمد بيدي في ذاتها ظلاماً ولا سوادا،ً كما أسلفت سابقا، لكن هذه الخطوط في مساره العام، تبدو لي ضرورية لاستيعاب مفهوم «المجتمع اللافظ»، لا في دائرة محيط الوظيفة الإدارية وحدود المؤسسة في العمل اليومي فحسب، بل في عديد من دوائر محيط لا يتبنى، يحسن التنكر وطبيعة التجاهل والمجافاة من جهة، ولفئة معينة، كما يتقن أدوار المجاملة والمحاباة من جهة أخرى، عندما يريد ولمن يريد؛ ومسار محمد بيدي من هذه الوجهة يوحي بأن ثمن الحياة المجتمعية، ثمن الانتماء والاندماج، ليس فقط غالياً عاليا فحسب وعلى حساب الأنا كما يذهب فرويد، وإنما هو ثمن يعادل الوجود كله، برمته، وقد لا يبرئ الذمة؛ ومعناه أن أداء الثمن وجوداً، وهو قد لا يكفي لتبرئة الذمة، يفرض إضافة مبررات ذاتية، (بسبق ترصد وإصرار) لصالح ما حصل، واصطناع اقتناع ذاتي قسري به.
قد لا يكون منطق هذا المسار مقنعاً كل الإقناع، لأنه يروى من طرف واحد، ومن منظور فيه من الذاتية والمشاركة، لكنني أود أن أسوق ما قد يضفي بعض الإضاءة؛ وأذكر بهذا الصدد أنني كنت ومحمد بيدي في بعض المراحل، حريصين بين الالتقاء فترة بعد أخرى، وبخاصة في حالات القرب سواء عند سكنه بالرباط أو سلا، وكان بيننا تزاور عائلي متبادل أيضاً، أما في حالات البعاد، فكان كل منا يسعى وسعه من أجل اللقاء، وبقدر ما تسمح المشاغل والالتزامات، وكنت شخصياً أغتنم دعوات ثقافية من الجهاز الثقافي الاجتماعي للمؤسسة لإلقاء محاضرات ولقاءات، ومن أجمل ما في هذه المناسبات أن رفيقي في الرحلة بالسيارة كان الأخ خالد الجامعي الذي قضيت برفقته يوماً رائعاً، وربما كان الأجمل والأطرف يتمثل في القاعة الفخمة المهيأة للقاء، والاستقبال والحفاوة، لكنني أذكر عندما بدأت إلقاء المحاضرة، وهي ذات موضوع تربوي اجتماعي، لاحظت بتسريح النظر في الجمهور، وكأنني أسبح في واد لا يسايرني فيه أحد، في الظاهر على الأقل؛ لا أدري ماذا ساورني بعد جولات من تجوال النظر، لأغير اللهجة والتوجه، فأسلك نهج الدارجة والتشبيه والتشخيص، ربما ساعدتني فيه شخصيتي التعليمية، لكني أحسست بسريان شبه يقظة في الجمهور، وبنوع من المتابعة والمشاركة؛ في النهاية يشد الأخ خالد الجامعي على يدي منوهاً بالمنعطف الذي أنجزت للتجاوب مع مستوى الجمهور، جمهور سأعرف أنه لم يكن حقيقياً، بمعنى أنه حشد للمناسبة بعد أن وقع خلاف بين الجهة المنظمة (جهاز المؤسسة الجهوية) من جهة، والقائمين على المنظومة التعليمية بالمنطقة من جهة أخرى، مما جعل رجال التعليم وهم المكون الثقافي الأساسي للنخبة المستهدفة بالتظاهرة، يتغيبون عن الحضور، وهكذا كنت أمام جمهور غير معني بالموضوع من أساسه، وإنما جئ به إنقاذاً للموقف.
في مثل هذا المناسبات العامة في المركز الجهوية بالأطراف، يمكنك الالتقاء بأصدقائك بل بمحيطهم الجديد، وفي فضاءات ثقافية يقل نظيرها في العاصمة؛ لكن الأمور ليست دائماً على هذا النحو، إذ يعرض في بعض المناسبات المشابهة، أن تكون مضطراً لقضاء الليلة هناك، نظراً لموعد المحاضرة ولبعد المسافة، وإلى هنا لا بأس، وكل شئ متوافر لذلك، لكنك لا بد أن تتعشى، وهذا لا بأس به أيضاً، إلا أنك تفاجأ بأن الوجوه العزيزة عليك، والتي قطعت كل المسافة من أجل التقائها أساساً، لن تشاركك جلسة لحظات العشاء !
لك أن تتعجب ما تشاء، والصديق محمد بيدي، منتقل إلى هناك وقاطن به، وهو بعد المحاضرة يعتذر بأدب جم، ويعدني باللقاء غدا، كيف؟ لا أفهم وألح، فيلح بالتزامه؛ لا أفهم لكنه يجعلني أمام الأمر الواقع، يودع بأدب وينصرف، لدرجة جعلتني أشك إن كان مستاء مني بسبب ما أو شئ، وبعد حين والشخص المسؤول يأخذني باتجاه المطعم، بمنشأة تابعة للمؤسسة، يراني مغموماً ويفهم، فيشرح أن صديقي محمد بيدي (وأمثاله)، ليس له الحق في أن يغشى المطعم، وسائر المرافق الخاصة هنا بأطر معينة، وأن هذه تراتبية تشريعية تقليدية في نظام المؤسسة وقانون معمول به، حينئذ أندهش للأمر وأتوقف رافضاً دعوة العشاء هذه، مفضلا جلسة مع صديق عزيز، بل والإقامة معه حيث هو، على هذا العرض التمييزي المحبط المهين؛ حينئذ وبعد لأي، يتفهم الشخص المسؤول الأمر، ويقترح بدلا من كل ذلك، قبول دعوة شخصية منه في بيته نجتمع فيها كلنا، يقول ذلك ويقسم عليه، لنقضي سهرة جميلة في ضيافة هذا الأخ العزيز، وهو بالمناسبة كان وحيداً في إقامته إذ ذاك، لغياب أسرته خارج المنطقة، لكنه بمجرد دخولنا والأخ بيدي رفقتنا، يطلب مني كضيف يسألني عن رغبتي فيما أريد أتناوله من أكل، أبتسم للأمر، لكنه يصر علي في الاختيار، مدعياً أنه يحسن تحضير كل شئ، ونحن لا شئ مستعجل لدينا، أفكر في العرض ونظراً للجدية التي يتحدث بها المضيف، فقد فكرت فعلا فيما أشتهيه حقاً، وبغنة تعجيزية مقصودة ألفظ رغبتي، عبارة عن «شهيوة» بسيطة، لكن يصعب تصور إعدادها أولا، ووجود مادتها ثانيا، في هذه المنطقة النائية وفي جزء من الليل، فأفاجأ بالمضيف يقول «جاتك، ورخيصة» ! وهنا يغيب عنا لحظات يعد مجمره، لترتفع بعد ذلك الأدخنة وتفغم الفضاء من حولنا روائح الشواء السمكي ! كانت ليلة متعة متكاملة: لم نحتج معها إلى وسادة أو غطاء، كفانا ذلك كله والنوم، دفء المودة والأنس وحديث السهر.
رغم النهاية السعيدة التي توجت هذه المناسبة، فقد كانت آخر استجابة لي لدعوة ثقافية من ذلك القبيل، وقد كان من إيجابياتها، إن كان فيها شئ من ذلك، أنها جعلتني أختبر تجربة «التمييز» وسياقاتها المهينة، بل وشعور «الانظلام» الذي ما أظنه فارق فقيدنا محمد بيدي، يعبر عنه مرة، ويخفيه مرات أخرى؛ وربما كان ذلك من أسباب معالم فرحته العارمة في الظاهر، بالتحرر من الأجواء المحبطة الخاصة، التي أخذ منها أكثر من حقه في هذا الباب، إلى فضاء الحرية حيث يأخذ فقط، وكبقية خلق الله، حقه المخصوص من ضريبة التعايش في محيط عام، ولتشرق حياته بقية ما عاشه من سنوات تقاعده القهري، بأزهار وثمار فلذات كبده، حالفهم التوفيق.
في ظروف عطالة القهرية السابقة لأوانها، وقد عاد محمد بيدي للاستقرار بالدار البيضاء، لم يتوقف الرجل عن الكتابة في مجالاته الأثيرة لديه، القصة الشعر والترجمة، كما ظل على ملامسة بدرجة ما، لمجالات ترفيهية ذات نكهة ورفقة خاصة، من قبيل اشتراكه في رهانات الخيل، وكان في مظاهر حبه البريئ للحياة، يحلو له أن ينشد مع المتنبي حسب الصيغة الشعرية الأصلية أو ببعض تحويرات: «الخيل والليل والبيداء تعرفني ... ولقرطاس والقلم»؛ ومن لحظات الإشراق أيضاً، رفقة محمد بيدي ضمن وفد اتحاد كتاب المغرب إلى تونس، برئاسة أستاذنا عبد الكريم غلاب أمد الله في عمره، لتنطلق على سجيتها، رحابة الصدر الثقافي، والتطلع الإبداعي، والخلق الإنساني المترفع الرفيع، لدى المتواضع أبداً محمد بيدي.
أكثر من ذلك إشراقاً في حياة محمد بيدي، وفي حبه البريئ العميق للحياة، ألمسه في هذه المرحلة، عندما أتقلد مهمة عميد بالدار البيضاء، نلتقي أكثر، ولا يتحدث محمد بيدي عن مساره بالمؤسسة التي أصبحت تاريخاً ربما لا يروى لأنه لا يستحق ذلك في مسار أديب فنان لم يوف قدره ومستحقه، وإنما نتحدث عن هموم الكتابة والنشر وخاصة تجاربه المخيبة للآمال، مع الناشرين الأجانب (الفرنسيين التقدميين أو لنقل الثوريين)، لكن أهم الحديث الممتع المشرق المفعم بالسعادة، كان يدور عن الأسرة، أسرة محمد بيدي، وبخاصة فلذات كبده، الذين بدأوا يتقلدون مواقع مريحة، ربما مجزية أيضاً، في مؤسسات مختلفة خاصة وشبه عامة، وأن باستطاعته أن يقضي أحسن الأوقات، متمتعاً بأجمل العطل مع بعضهم في مقامهم خارج الوطن؛ وهنا يتمثل عمق إنسانية محمد بيدي، الذي كان دائماً مهموماً بالواجب التعليمي لأبنائه، ومتحملا مسؤوليته تجاه فلذات كبده، ليتم على خير وجه، إنه هنا يستشعر السعادة الحق، وهو يتمتع بثمرة غرسه، بل ويرى هذا الغرس يانعاً في كل الفصول، واعداً لا يخلف وعداً ولا موعداً، بمزيد ازدهار وإثمار.
يجب أيضاً أن أقول إن مشاعر السعادة هذه لم تكن خالصة تماماً، لكن ما بدا لي يخالطها وإن كان يحتاج إلى مساندة (لا مساعدة) صاحبها، فهي من قبيل ما يعتبر معتاداً في مثل هذه المرحلة من الشعور بأداء المسؤولية، وإلى حد ما ب»انتهاء الدور». لا، لم يكن محمد بيدي متشائماً في أية لحظة من حياته، لكن رفقته لا تخطئ أنه كان متألما، ربما ليس أكثر من غيره، ربما ليس أكثر من أي واحد منا، لكنه ربما كان الأكثر تعبيراً أو تفريجاً عن نفسه بالمباشر عما يثقله ويضنيه.
بأسى بالغ نتذكر صاحب «المثلث المكسور»، نفتقد العزيز الأديب محمد بيدي، الظاهرة الإبداعية التي لم تجد مجتمعها، مجال تفتحها وازدهارها؛ وربما تكون فرصة لتذكر علامات أخرى وأعلاماً مماثلة في دلالاتها، من قبيل من نفتقدهم أو ممن ما زالوا بجانبنا، معتذراً عن إقحام أسمائهم كأمثلة:
من يذكر على سبيل المثال لا الحصر، الظاهرة الأدبية التي اكتشفت وكشفت عن عالم «الهومارة»، في مظاهر قوتهم ولحظات ضعفهم الإنسانيين، الفقيد مبارك الدريبي؟
من يسكنه اليوم على سبيل المثال لا الحصر أيضاً، همّ الظاهرة الأدبية، المسرحي والشاعر والمناضل التقدمي، سعيد سمعلي في مقاساته اليومية مع المرض المزمن، وأمور «الوقت»، هو أيضاً واحد ممن تشرق لحظاته اليوم بفلذات الكبد، وكأنما تجري الأمور بيننا لترسيخ تقليد بدائي عشائري بامتياز، لا يأوي فيه المبدعون خواتم أعمارهم، إلى «ريع» بنات أفكارهم المهدور بأكثر من وجه غير حق، ولا إلى فيئ أسرهم الثقافية، وإنما ينكفؤون بكل تواضع وسكينة، نحو المتبقي في خط دفاعهم الأولي والأخير، عن متبقي وجودهم: فلذات الأكباد وقرابتهم بمفهومها البيولوجي الصرف، في مجتمع لافظ رافض، يبدو مشدود الهم والاهتمام إلى ظواهر أخرى، ليست من صنعه أو من صميم صنعه، سيان.
محمد بيدي صاحب «المثلث المكسر»، واحد من ثلة مخلوقات نوعية، تتسلل إلى الوجود بسكينة وهدوء، تكرع ما شاءت لها المشيئة من معين قلق وإحباط، لتتسلل عن الوجود، بأقوى مما ولجت به، من سكينة وهدوء.
ـــــــــــــ
مصدر: الاتحاد الاشتراكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى