عبد القادر وساط - أعشى عبدة يهرب من سجن الكثيب

جاء في كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا الشيخ الأجدع الشيباني عن رواحة بن كلثوم، قال:
حدثنا أعشى عبدة، قال:
لما هربتُ من سجن الطاغية، أرسلَ رجالَهُ في طلبي، وجعلَ لمن يأتيه بي مائة ألف أورو، وذلك من نقود الفرنجة، فخفتُ عندئذ على نفسي وانطلقتُ لا ألوي على شيء، وأنا أردد قول الشاعر قيس بن معاذ الباهلي:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ً = بدارٍ لنا قرب البَتيل بنجدان ؟
ولم أزلْ هائما على وجهي إلى أن بلغتُ الجَريب، وهو موضع ذكرَه ياقوت في معجم البلدان، وأشار إليه الشاعر القديم حين قال:
حَلَّتْ سُليمى جانبَ الجَريبِ = محلَّ لا دانٍ و لا قريبِ
ثم إني رأيتُ تلّا قريبا، وفي أسفله دار واسعة، عالية الحيطان، مبنية بأنفس أنواع الرخام فمضيتُ صوبها، وإذا برجُل تبدو عليه أمارات الثروة والجاه، يقف عند بابه المصنوع من خشب الأبنوس، فخفتُ أن يرتاب في أمري، ولم أجد مع ذلك بدا من التقدم إليه والسلام عليه. فلما رد السلام كأحسن ما يكون، تشجعتُ وقلتُ له:
- يا سيدي، هل عندك موضع أقيم فيه ساعة ً من نهار؟
فقال:
- على الرحب والسعة.
ثم فتح الباب ودعاني إلى الدخول، فدخلت وأنا مأخوذ بجمال ذلك المنزل وروعة بنائه، وإن كنتُ أتساءل عن السبب الذي جعله يبنيه في ذلك القفر. ولم أكد أجلس بالداخل حتى صفق صاحبُ المنزل بيديه فجاءني الخدم بطعام وشراب. ثم إنه صرف الخدم وصار هو يَقوم بخدمتي، وأنا أعجب من ذلك، وأقول لنفسي: هذا رجل من أهل السلطة والثروة والجاه، وكل ما أرجوه هو ألا يُبلغ عني إذا علمَ أني هارب من سجن الكثيب. فلما انتهيت من الطعام، رفع بنفسه الخوان، ثم سقاني بيده شرابا كأنه شراب أهل الجنان، ونهض إلى خزانة له وأخرجَ عودا عجيباً، مرصعا بالذهب، ثم قال لي:
- أتأذن لي أيها الغريب بالغناء؟
فقلتُ:
- وكيف لا آذن لك يا سيدي، وأنا في بيتك أنعم بكرمك؟
فعند ذاك أخذ العود وجسّه، ثم اندفع يغني:
و كل شديدة نزلتْ بحيّ = سيأتي بعد شدتها رخاءُ
قال أعشى عبدة:
فخُيل إلي، وأنا أسمع ذلك الغناء، أن الطيور في السماء تغني معه، وبقيتُ أنظر إليه وأستمع لغنائه، وأنا عاجز عن الكلام. ثم إنه خرج بعض الوقت وعاد، فتناول العود ثانية وغنى:
لَعَمْرك ما يدري امرؤ كيف يتقي = إذا هو لم يجعلْ له الله واقيا
فكدت أجنُّ من الطرب. فلما انتهى من غنائه، وضع عوده جانبا، ثم إني طلبت منه الإذن بأن أنام قليلا، ونمتُ حتى وقت المغرب. فلما صحوتُ أردت الانصراف، فمنعني من ذلك، فأقمتُ عنده أياما وأنا في أحسن حال. ثم طلبت منه الإذن بالانصراف، فأبى ذلك وقال لي:
- ستحضر معي الليلة مجلسَ أنس لن تنساه.
فلما كان المساء ، جاءني بكسوة خز، كان هو يلبس مثلها، ثم خرج إلى مكان فسيح، لصيق بمنزله، من جهة الشمال، وأشار إلي بأن أتبعه، فتبعته فإذا بُحَيرة لا يوجد مثلها في الدنيا، يحيط بها سور رفيع وحولها أشجار باسقة تغرد فيها الطيور من كل صنف ولون، وقد صُفت الأرائك تحت الأشجار، فدعاني إلى الجلوس على إحداها فجلستُ، ثم صفق بيديه فإذا ثلاث نساء يخرجن من البحيرة وأجسادهن البضة يتقاطر منها الماء، وهن متلفعات بغلالات شفافة، وإن هي إلا طرفة عين حتى جاءتهن بعض الوصيفات بما يستترن به فتدثرن وهن غير عابئات بشيء، فتقدمن نحونا وما فيهن إلا من ينطبق عليها قول الشنفرى
فدَقّتْ و جَلّتْ و اسْبَكَرّتْ و أُكْمِلَتْ = فلو جُنَّ إنسانٌ منَ الحُسْن جُنَّتِ
ثم إنهن اتخذن لهن أمكنة بالقرب منا والرجل ينظر إليهن مبتسما ويقول:
- أهلا بكن يا حذامِ ويا قطامِ ويا رَقَاشِ.
فلما سمعتُه يخاطبهن كذلك، قلت في نفسي: أرى أنّ صاحبي هذا قد بنى أسماء هؤلاء النساء على الكسر، وإذنْ فهو ليس من بني تميم، واطمأنّ بالي عندئذ لأنني إنما دخلتُ سجن الكثيب بعد أن هجوتُ الطاغية وذكرتُ أنسابَه بسوء وهم من بني تميم. وكأنما أدركَ الرجلُ ما يدور بخلدي فقال لي:
- دعك من الكسر والنصب والرفع أيها الغريب، واختر ما تراه من أشعار حتى تتغنى بها هؤلاء الحسان الثلاث ، فإنهن يحفظن جل أشعار العرب.
قال أعشى عبدة :
ثم جاءهن الخدم بالمزاهر والدفوف ، و صرتُ لا أنطق ببيت إلا تغنين به كأروع ما يكون الغناء و بقينا كذلك في غناء و طرب و شراب إلى أن اقترب الفجر فقال لي الرجل :
- اختر منهن من تشاء كي تؤنسك بقية ليلتك .
فارتبكت و لكنني تمالكت نفسي و أشرت إلى قطام، و مضيت إلى غرفتي التي أبيتُ فيها و هي خلفي ، و أويت إلى سريري و جلست هي على حافته ، و بقيت أحدق في السقف ، و لعلي قد غافلني النوم ، من كثرة ما شربت ، ثم إني شعرتُ بيد تجرني بقوة من شعر رأسي فعجبتُ من ذلك و فتحتُ عيني فإذا القفر من حولي و أنا نائم أفترش الثرى و لا وسادة لي إلا الحجارة الصلبة و إذا برجال أشاوس يقفون عليّ و قد شرع أحدهم يقرأ في ورقة يمسكها بيمناه بينما يمسك شعر رأسي بيسراه :
- اعلموا أن أعشى عبدة رأس من رؤوس الضلالة و وجه من وجوه الجهالة يجادل في العروض بالباطل و يدعو إلى الفرقة بين شعراء الأمة و يحث النحاة على العصيان و يدفع اللغويين إلى الخروج على السلطان ، و هو يروغ كما يروغ الثعلب و يصور الباطل في صورة الحق و الحق في صورة الباطل ، و قد جعلنا لمن يأتينا به مائة ألف أورو .
ثم أخذ أحدهم في شد وثاقي وهو يقول :
- ها قد ظفرنا بالغنى، بالعملة الصعبة... أليس كذلك يا أعشى عبدة ؟
إثر ذلك اقتادوني إلى الطاغية و أنا في أسوأ حال .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى