عبد العزيز حسين الصاوي - معاويه محمد نور.. علم التنوير السوداني .. والمصري ايضا

الكشف عن الابعاد الكاملة للاستبداد العربي في الدولة العميقة والتطرف الديني، هو الانجاز الاكبر للربيع العربي إذ يبدد أيضا الاكذوبة التاريخية : مرورنا بمرحلة نهوض ثوري قادتها انظمة التحديث المعاصر وتياراته السياسية- الفكرية، لبناء دولة الاستقلال والعدل الاجتماعي علي انقاض دولة التحالف بين الاستعمار والقوي التقليدية. الحصيلة الفعلية لهذه المرحلة كانت إرساء طبقة استبداد جديدة واكثر صلابة من طبقة الركود التاريخي، مؤسسة بذلك الاستبداد المتمكن حاليا (تحديثا) للتقليدي منه، وذلك عندما هدمت جسر العلاقة بين مفهومي تغيير الواقع وتغيير العقل نحو الديموقراطية الذي كان قيد التشييد بواسطة النهضويين العرب منذ اواخر القرن التاسع عشر. وغض النظر عن صحة التفسير الممكن لهذا الاخفاق المصيري الاثر بكون هذه القوي نشأت إبان صعود الاشتراكية وعلاقتها الصدامية مع الغرب، فأن الحصيلة كانت نمو وتشعب بيروقراطية الدولة العسكرية- المدنية في الفراغ الناشئ عن غياب مؤسسات الرقابة الديموقراطية، ونمو وتشعب التدين العشوائي في غياب الحرية المنضبطة إيجابيا بواسطة تلك المؤسسات. من هنا فأن المعني الجوهري للاستفادة من درس الربيع العربي والوفاء لصناعه احياء وامواتا، هو التركيز علي استكشاف وإغناء تراث التنوير العربي. في هذا السياق يأتي هذا المقال التعريفي بمثقف سوداني مجايل للمصريين من ورثة النهضويين العرب وقضي حياته المنتجة بينهم، لاسيما وأن الوجه الاخر للناصرية أبرز نماذج أنظمة وتيارات التحديث، أو التقليدية الحديثة، كونها وفرت حاضنة مثالية للازدهار الشعبي اللاحق للاسلام السياسي الاخواني وللميلاد القطبي لايديولوجية التطرف، بالنظر لاستثنائية درجة هيمنتها علي الفضاء العام المصري والعربي عموما.

معاويه محمد نور ( 1909 -1941/42 ) تلقي تعليمه ماقبل الجامعي في السودان وحصل علي بكالوريوس اللغة الانجليزية من جامعة بيروت الامريكية، قاطعا دراسة الطب في السودان في وجه ضغوط اسرية قوية. قبل الموت الفيزيائي علي اعتاب العام الثلاثين من حياته، عاش معاوية فترة اختلال ذهني ونفسي عنيفة مصحوبة بأمراض عضوية اختصرت فترة حياته المنتجة الى 4 سنوات أو خمس تقريبا تعادل عشرات السنين بمقياس انجازه في تقديم التنوير الاوروبي الى القارئ العربي أدبا وفكرا من خلال المجال المصري. فالمجال السوداني كان مغلقا تماما في وجه معاويه بالنظر للاتساع المهول لافاقه واهتماماته مقابل محدودية البيئة المحلية وهي بالكاد خارجة من بيات شتوي وصيفي حضاري تعطله، إلى ذلك، قبضة استعمارية خانقة بعد فشل انتفاضة عسكرية عام 1924.

في دلالة قوية علي موسوعية إطلاعه واستيعابه للثقافة الانجليزية يشرح الشاعر السوداني د.محمد عبد الحي المتخصص في اللغة الانجليزية والناقد عبد المنعم عجب الفيا، قناعتهما بأن بداية حضور الشاعر تي.أس. اليوت في الثقافة العربية يعود الى مقال لمعاويه عام 1933 ، وليس، حسب الشائع، في مقالات للناقد المصري المعروف لويس عوض نشرت في الاربعينات. ففي عدد من مقالاته المجموعة في مجلدين، إضافة لكتابات باللغة الانجليزية لم تجمع بعد ، يقدم معاويه نقدا شاملا للمدرسة المصرية الرومانتيكية في الشعر منطلقا من نظريات الشعر الانجليزي عند إليوت وعزرا باوند وإديث سيتويل، خاصة حول مفهوم موسيقي الشعر، بأفكار ورؤي تكاد تتردد بحذافيرها في معركة تأسيس الشعر العربي الحديث بعد ذلك بعقدين من الزمان. كذلك يفيض انتاجه النقدي بنقاشات تدل علي ثراء معرفته بأحدث نظريات المسرح والقصة وقتها، لمسرحيات احمد شوقي وقصص تيمور ويجادل في صحة نسبة المازني الى النقاد بينما تكشف مقالات اخري عن تذوق رفيع للموسيقي الكلاسيكية والرقص التعبيري. ففي افضل دراسة موسعة، وللاسف الوحيدة حتي الان، يلخص الاكاديمي السوداني د.احمد البدوي متابعته الفاحصة لهذه الجوانب وغيرها بأن معاويه ” بين طليعة عصره في جيل الحداثة في مصر ( ……) فالاسماء العالمية المشهورة في الغرب والتي راجت في الستين والسبعين وفي دائرة اضيق في الاربعين، عرفها معاويه باقتدار منذ اواخر العشرين وكتب دارسا وناقدا اوائل الثلاثين من القرن العشرين.”

علي إن هذا المقال يعتبر القيمة الكبري لانتاج معاويه وعلاقاته هو مغزاها ومحتواها التنويري المباشر.

إذا راجعنا مجمل كتاباته سنلاحظ أن إقباله علي النهل من الثقافة الغربية يتسم بالعمق والايجابيه بمعني انه تفاعلٌ مع الحضارة الغربية يتعدي مجرد الاستيعاب الموسوعي الى إدراك لجوانب الضعف مايؤشر ايضا لانعدام عقدة الدونية تجاهها. ففي مقال بعنوان “الاستعمار والحضارة” يلخص معاويه بأعجاب رصين احد مؤلفات الكاتب الانجليزي LEONARD WOOLF بنفس العنوان التي تعرض رؤية نقدية للحضارة الاوروبيه في جانبها الاستعماري، يتضمن ايضا تعليقاته الخاصة ومقدمة حول مذهب النقد الادبي NEW HUMANISM ذو الابعاد الثقافية و السياسية. والمعروف ان المؤلف كان عضوا في الجمعية الفابية الاشتراكية وحزب العمال ومنتميا الى مجموعة BLOOMSBURY مع شخصيات مثل الفيلسوف برتراند رسل والشاعر اليوت والاقتصادي كينز، والتي تعتبر مكونا أساسيا في حركة الحداثة البريطانية اوائل القرن الماضي واشتهرت بتحررها الاجتماعي والفكري، وهناك مايدل علي ان معاويه كان علي علاقة بها .. كما ينسجم مع هذا السياق مضمون احدي قصصه بعنوان ” إيمان”. في هذه القصة تتفاعل شخصيتان رئيسيتان إحداهما كثيرة : ” الشك الفلسفي ( تعتقد بأن …) أساس هذا العالم هو التغير والتحول (هاشم عرفات) ” ، لاحظ الاسم ، والاخري هزلية الي حد ما وتتميز بأنها سريعة التأثر بما تسمعه من الاخرين وعندما تقع تحت تأثير عرفات ينتهي بها الامر الى ان : “يصبح جلال افندي شاكا في كل شئ بعد ان كان مؤمنا بكل شئ ( .. ) واضطرب كيانه العصبي حتي انه وهو علي فراش الموت عندما سأله أهله ان يتشهد مرات ويقول لا اله الا الله اشهد ان محمدا رسول الله ، فتح عينيه وقال لهم : هل انتم متأكدون ، وراح في سبات عميق” . هذه القصة مثلها مثل بقية قصصه تشكل أضعف حلقات منجز معاويه محمد نور الثقافي المهول فهي تبدو مصطنعة ومفبركة لانها تطبيق حرفي لنظريات حديثة وقتها في كتابة القصة القصيره لاتتقيد بالنمط التقليدي القائم علي البداية والنهاية يحاول معاويه ايصالها الى المثقفين العرب فهو قرأ جيمس جويس وفيرجينيا وولف التي ناقش إنتاجها بعمق، وعلي معرفة بتكنيك او اسلوب ” تيار الشعور الداخلي ” . غير ان معاويه يحاول ايضا في هذه القصة إيصال مبدأ الشك المنهجي الديكارتي المعروف ( انا افكر اذا فأنا موجود) احد اهم اركان فكر عصر النهضة الاوروبي خلال القرن السابع عشر، التي استقرت في تكوينه الفكري. يفيدنا بنفس الاتجاه ايضا احد بحوث الكاتب الماركسي تاج السر عثمان تابع فيه تطور فكر معاويه محمد نور حيث يتوصل الى انه تبني : ” منهجا فلسفيا متكاملا هو منهج الشك الفلسفي في فترة من حياته، واتخذه هاديا ومرشدا له في دراساته الأدبية والنقدية” .

وابعد من ذلك، فأن النظر المتأني في انتاج معاويه محمد نور يلمح إستشعارا مبكرا بماهو اهم بكثير فيما يتعلق بالوعي النقدي للحضارة الغربيه. ففي مقال نشر عام 1932 إهتمام بكتاب عنوانه ” فوضي العالم ومسئولية العلم ” يدور حول الوجه السلبي لتيارات التنوير والعقلانية من خلال التلخيص والتعليق الاضافي. والمعروف أن هذا التوجه ظهر بعد ذلك في الاربعينات إثر الحرب العالمية الثانية ممثلا فيما اطلق عليه ” مدرسة فرانكفورت ” التي تبرز فيها اسماء هوركهايمر وادورنو ثم هربرت ماركوزه، ويتمحور نقدها لتيارات التنوير حول ان تركيزها علي تسييد العقل والعلم علي الطبيعة والانسان ( العقل الأداتي ) كان السبب وراء اغتراب الانسان وتحوله الى شئ بل وتذهب بعض مكونات هذا التيار النقدي الى تحميلها مسئولية الحروب الاوروبية.

تكتمل قطع الموازييك لصورة معاوية محمد نور، عَلم الاستنارة وأحد رواد الإرهاص الليبرالي العلماني العربي، إذا علمنا بانتمائه الى ” جماعة الادب القومي ” التي أسسها الكاتب والروائي المصري محمد حسين هيكل (1888 – 1956) كما نُشرت معظم مقالاته في جريدة السياسة التي تولي هيكل رئاسة تحريرها لفتره. هذه الشخصية المصرية كانت من قيادات الفكر والممارسة الليبرالية والتنويرية المصرية ووثيقة الصلة بأحمد لطفي السيد أبرز مؤسسي هذا التوجه.

علي ضوء الاشارة السابقة حول المصير البائس لتراث التنوير والعقلانية المصري بتأثير طبيعة النموذج الناصري لانظمة التغيير المعطوب، قد لاتكون الاجابة علي السر في بقاء قامة بمستوي معاوية محمد نور غائبة عن انظار المثقفين العرب بما فيهم المصريون، صعبة. بيد إن هناك مصدرا لخصوصية مزدوجة في هذه الحالة، الاولي مرجعها انحياز معاويه للعقاد في الصراعات الادبية وقتها مما حرمه من فرص الاضاءة المحدودة التي تيسرت لنتاجات التنويريين المصريين لانها تمت في فترة نهوض اليسار المجافي للعقاد، والثانية هي الصورة الذهنية التهميشية للسوداني في مصر لاسيما خلال تلك الفترة فهي إما ملتبسة مع صورة النوبي المصري او يصعب نزعها من إطار صورة البواب اوالملحق بطواقم خدمة الارستقراطية المصرية.
  • Like
التفاعلات: جبران الشداني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى