محمد نوري جواد - الحكم الفقهي والإعراب..

إنّ الآراء النحوية التي تتعدد في النص الواحد لها تأثير في الحكم الفقهي , فاختيار النحوي لرأي ما يدلّ على المعنى الذي يريده , فالإعراب يبين المعنى, كذلك تعدد الآراء الفقهية له علاقة بتعدد الأوجه الإعرابية , وهناك تلازم وتآخ بين علوم العربية وعلوم القرآن, وعند التمحيص تجد أن من النحويين من يضع القاعدة النحوية منطلقا ومرتكزا في إعراب آيات الأحكام ولا يلتفت إلى المعنى فيضعفه , ومن ذلك إعراب (الواو) في (وتدلوا) في قوله تعالى ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) , فمن النحويين الأخفش , والزجاج , والنحاس , ومكيّ القيسيّ , والزمخشريّ، والعكبريّ من ذهب إلى أن (الواو) في النص القرآني هي واو المعية أي : بمعنى (مع) , وأن الفعل المضارع منصوب بعدها، كقولك : لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبنَ , والمعنى : لا تجمعْ بين أكلِ السمكِ وشربِ اللبنِ , ويجوز لك أن تأكل السمك وحده أو تشرب اللبن وحده, إنّما النّهي يكون عن الجمع بينهما, ويكون معنى الآية القرآنية على وفق ذلك : لا تجمعوا بين أن تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام في وقت واحد, فقيل : المنهي عنه الرشوة خاصة , ويجوز لكم أن تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل على انفراده, كذلك يجوز لكم أن تدلوا بها إلى الحكام على انفراده, وهذا المعنى غير جائز ؛ لذا نجد أنّ أبا حيان الأندلسي لم يرتض هذا الوجه الإعرابي وعدّه غير صحيح , بقوله : ( إنّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أُفرد أم جُمِعَ مع غيره من المحرمات ) , والوجه الذي ارتضاه هو أن تكون (الواو) واو العطف , والفعل المضارع مجزوم , كأنك قلت : لا تفعل هذا , ولا هذا , فيكون على تكرار النهي , والمعنى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل , ولا تُدلوا بها إلى الحكام.
يتضح من ذلك الطرح أنّ تكرار النهي فيه معنيان : الأول : النهي عن أكل الأموال بالباطل , والثاني : النّهي عن إعطاء الرشوة للحكّام ؛ لذا قيل إنّ المعنى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل على جهة الظلم , نحو الخيانة والسرقة والغصب، أو على وجه اللعب كالقمار والملاهي, وعلم الله أنه سيكون في هذه الأمة حكام يحكمون بخلاف الحق فنهى الله المؤمنين أن يتحاكموا إليهم , وأن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت فالحكم الأول منهي عنه كذلك الحكم الثاني سواء عليك أأفردت أم جمعت .
أمّا الوجه الأول وهو النهي عن الجمع بينهما أي : لا تأكلوا مع الإدلاء , الذي خصَّ رشوة الحكّام فقط فكأنّه ألغى حكما مستقلًا وهو أكل أموال الناس بالباطل, فلا يدخل معنى أكل الأموال كالخيانة والسرقة أو اللعب بالقمار وغيرها , فضلا عن أنّه يجوز لك أكل الأموال بالباطل على انفراده, والإدلاء به إلى الحكّام على انفراده, وهذا المعنى غير جائز كما أسلفنا .
وصفوة القول : إذا نظرت إلى الوجهين الإعرابيين وجدتهما يصحان من حيث الصناعة النحوية , وأن شرط (واو المعية) أن تسبق بنفي أو طلب وقد تحقق ذلك , وهذا الذي سوغ للنحويين ذكرهما, وإذا نظرت إلى المعنى وجدت عدم جدوى إعراب الواو هنا واوا للمعية , والصواب: هو أنها واو العطف , والفعل المضارع بعدها مجزوم ليتحقق المعنى الواسع الصحيح .


د. محمد نوري جواد

عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى