حسن إمامي - تمـالــوت -1- .. قص

وقف المرشح ـ الرئيس فوق المنصة ، بعيون غائرة في غياهب الذاكرة التي سيستعين بها في لفظ الكلام في هذا اليوم المشهود ، و الذي يحتاج منه كسب أوراقه العديدة التي باتت مصالح متنوعة و كثيرة ... استعان باستنشاق عطره المسجل بماركة باريسية رفيعة و عريقة ، جلبتها له زوجة أخيه الفرنسية هدية ، و حتى يتغلب على الروائح الغريبة التي فرضتها عليه هذه الوقفة ، وسط هذه الحشود التي استطاع أتباعه جمعها و لمَّها ... احتاج لكسب تحدي الروائح أكبر من احتياجه لما سيصدر عنه من كلام ... شباب متعرق بالجري و الصياح بين الدروب و الأزقة ، اكتسب مساواة في العلاقة و رفعة في المكانة ن على الأقل خلال هذه الحملة الانتخابية ... منهم من يطمع في عمل بالبلدية ، و منهم من يأخذ مقابلا يوميا ماديا ، و منهم من له ولاء عائلي يربط مصالحها مع مصالح عائلة المرشح ـ الرئيس الغنية و الكبيرة النفوذ داخل المجتمع ومع السلطة وبين دوالب الإدارات و العاصمة و الوزارات ... و حيث إن المرشَّح يتكلف بواجب الحملة الانتخابية متحملا ردّ السلام و العناق ، و حيث إن السلام يكون بالحضن و الشفاه المبللة اللاصقة على الخدود ... ، كان كل مرة يشعر بتبلل خديه ، يتقزز داخليا دون قدرة على تفجير غيضه كمن يحتاج إلى غثيان و لا يستطيعه ، كمن انقبضت أنفاسه و لا يبوح بضيقه ... بالكاد تتحمل انفاسه سيجاره البني الغليظ و بقايا كؤوس الويكي المتصاعدة من الأحشاء ، و التي لا تفارق الذات و لا تنتصر فيها هذه على تلك إلا بدرجات الانتشاء ن و لو كانت مع تدمير خلاياي و أعضاء الذات كالكبد مثلا ...

يحتمي بمناديله الورقية التي جعلها علبا بالعشرات في سيارته ... و كذلك بمدِّ و إعطاء جهة رأسه المغطى بقبعته حين كل سلام ، ما أمكن ...

هكذا انتصر على بلل الشفاه المقبِّلة بكسب سلام يجعل الكل يقبل رأسه أكثر من خديه ...

بذلته السوداء و معطفه الناعم ، و شاله المستلقي بلون شفاف لا تجد له مثيلا بين انعكاسات الألوان الداكنة في الحمرة أو الصفرة أو الشاحبة أو المغبرة بين هذه الأجساد المحتشدة أمامه ...

استعان بوضع كفه اليمن على شاله ، و بلمسةٍ على مقدمة قبعته ( البيرية ) ، نازعا نظارتيه السوداويتين من نوع ( راي بان ) ، بهدوء تام و تأن وسط زوبعة ضجيج و تطبيل و أهازيج أصمَّ أذنيه ، جعل الأفواه تتعطش لهذه الحركات الثابتة و الصادرة من المرشح ـ الرئيس ...

بإشارة يد ، ابعدت الفرس التي أحضرت من ضيعته القريبة من المدينة الصغيرة و الممتدة حتى ضفاف النهر الكبير المار مخترقا هضبة تادلة ... هذا النهر الذي يشكل ذاكرة و تراثا و حياة من منبعه ( منابع أم الربيع ° إلى مصبه المستتر على التاريخ أمام أعين مدينة أزمور ... ازمور التي لم تقبل للزمن توقفا ، و لا للعابرين رسوا ، فكانت اصطدامات التاريخ بحركة الأمواج المصطدمة بالصخور ...

نحنح و حنحن ... أخرج هانفه النقال ، أجاب و أمر ... عكست حركة يده الفعليْن معا ، ثم عاد لوقفة مستقيمة فوق المنصة و نظرات تتخذ من الأفق فوق الحشود مدى لتطلعاته العميقة و الكبيرة ... وقف كجبل لا تهده رياح التعرية ، و لو اجتثت جذور اشجاره المغطية لهيكله ... استعان بخدمه في الحملة الانتخابية و بالسر الموالية له و لأسرته و عشيرته ، من أجل كسب مزيد من الصمت و الهدوء ... التفت إلى نساء قائمات بجانب المنصة ... صعدن بزغاريدهن إليها ... أحطنه بتمسح و تقبيل كتف ...بدأ كلامه و خطبته :

ـ تعلمون لماذا أحضرت هذه النسوة اليوم ... لبين لكم بأن رزق البلاد ببركتهن ... أنا هنا لحماية الضعفاء و المساكين و الأرامل الفقيرات ... ترون أن كل من قرأ و درس و نال وظيفة يذهب إلى المدينة و يعيش فيها ، لا يأتي إلا في العطلة الأعياد ... من يحرس المدينة و يسهر على أحوالها و ناسها ؟ طبعا من هو قائم فيها ز مستقر بينكم و معكم فيها ... أولئك الخصوم الأعداء ، الذين درسوا بعض الأفكار الأجنبية و أرادوا تطبيقها علينا في هذه البلاد ... البلاد ، لا تحتاج لهم ... أن هنا لأبين لكم بأن النساء و الأرامل و المطلقات تحت حمايتي ... ذاك النهار الذي أتى فيه القايد ، و أغلق دوركم ، وأضعف رزقكم ، حتى لم يعد من يشتري لحما و لا فاكهة و لا يركب طاكسيا ... تتذكرون ؟ من وقف في وجه القايد ، وذهب عند العالم ، و أعاد حرية العيش هنا . واش عقلتوا أو لا ؟

تتعالى الزغاريد ، والصيحات : عاش الرايس . هيييييييييي عاش الرايس هييي....

ـ لا القايد و لا العامل ، لا أحد يستطيع التقرب من هذه النسوة ما دمت أنا القائم على شؤون البلاد ...

تصاعدت التصفيقات و الزغاريد ... صاحت إحداهن نازعة الميكروفون من يد المرشح ـ الرئيس ، الذي انساب لرغبتها في لحظة مشهد مومي لا يتكرر يوميا :

ـ آها الحق آ عباد الله .. آها الحق آعباد الله زغردوا معي : عاش مول النصر ... عاش الكرامي حامي البلاد و معيَّشْ معه الجواد ... عاش الرايس !

هي فرصة الطبالة و الغياطة ... حرَكة و حرْكة .. رقص شباب ن و تصاف النسوة فوق المنصة بلباسهن الاحتفالي المزين بالموزون من الصقلي اللامع بألوان مثيرة صفراء و حمراء و بيضاء ،و أهازيج شعبية تراثية تراقصية ... بدأت الأكتاف في ارتجاج إيقاعي مواكب ، تلاصقت بعضها بالأذرع مع بعض ، تلاحم الكل في الرقصة الجماعية ( أحيدوس ) ...

تأخذ اصغرهن و أجملهن الميكروفون :

ـ تريد المال ؟

تشير الأخريات : ها هو ... في إشارة إلى الرايس ...

ـ تريد الزين ؟

ـ ها هو ... في إشارتهن إلى (يزة ) ، اسم المغنية الصغيرة السن التي تخاطبهن على الميكروفون ...

ـ تريد الهْنا ( الهناء ) ؟

ـ الذي يصوت على الكرامي ، صوّتْ علينا ... الذي يصوت على الكرامي ، يصوّت علينا ...

حتى الفرس حركتها الأهازيج الاحتفالية و اليويو المرافقة ... تحولت معها الأجسام المنتشرة في الساحة إلى محركات غرائز لا يضبط إيقاعها إلا هذا الرقص الذي أريد له اليوم أو يكون انتخابيا ...

يعود المرشح ـ الرئيس لواجهة المنصة .. يلوح بيده للجمع الذي يتراجع عن اصواته كموج تهادى في جَزْرٍ من مدٍّ و هدير ...

ـ أنا أريد أن أعلم شيئا ... هل هؤلاء المرشحون الذين يريدون البلدية ليس عندهم شغل ؟ يكفيهم تعليم التلاميذ في المدارس و الأقسام و عدم التغيب ... واش بغاوا يخلصوا القرض ديالهم على حساب المدينة ... يخلصوا غير اصحاب الحوانيت اللي عمروا الكارنيات بالكريدي ديالهم ....

تعلوا الضحكات ...

ـ أنا أعمل بدون خلصة ... رزقي تعرفونه ... الحمد لله ، أنا لا أطمع في فلوس الطحين و الاسمنت ... أنا ... بغيت الناس يشبعوا في كروشهم ، و يسكنوا مزيان ... هذا هو هدفي أنا ... بصوت عاال رج{عه الصدى و اخترق صفاء البوق والميكروفون ... يردّد جملتي الأخيرتين ... تتعالى من جديد الأوات و الشعارات و الأهازيج ... يتركهم في رقصهم و طربهم ، و ينسحب من المنصة متوجها إلى ضيعته ... السائق يفتح الباب و يُقبّل يد و رأس المرشح ـ الرئيس ... الناطق الرسمي باسمه ينادي الجمهور :

ـ يقول لكم سيدي الرايس ، العشاء في باب الضيعة ... الثور راه مذبوح ... و الشيخات كلهن سيحضرن ... عاش الرايس ... تترد الكلمة الخالدة : عاااااااااااااش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى