طه جعفر - عَزَبَة طويلة و جلباب قصير!.. قصة قصيرة

تطاولت مدة صمته و سكوته. خاف عليه والده واعتقد الجميع إنه سيقتل نفسه. تزداد حالته سوءاً و يتأكد سكوته عندما يزورهم عمّه عابد محب الدين. كان عابد في الستين لحيته بيضاء و جلبابه قصير و لعمامته عَزَبَة طويلة نسبيا و ربما لم تكن طويلة إنما قِصَر عُنقه و التصاق رأسه المستدير بأعلي ظهره هو ما يعطي احساساً بطول العَزَبَة و كان يحب ان يتكلم عن إمارة السودان الاسلامية المتحدة و المنسجمة عرقيا فلقد كانت هذه الإمارة هي حلم حياة عمّه و انجازها كان بمثابة تحقق الاحلام للكثيرين من الاسلاميين الحركيين في ايام شبابهم من أمثاله حيث كانوا يزعمون أنه شباب عامر بالإيمانيات و الفكر الرسالي المجاهدات الكبري و الصغري و المتوسطة علي حسب ما يقول عابد محب الدين.
لم يكن يفكر في الانتحار و لم يكن يخطط لذلك، فهو يكره الموت و لا يحب هذه الحياة. حاله حال الكثيرين فهو علي الحياد فيما يتعلق بموضوعي الوجود و العدم و موضوعي الكفر و الايمان . كثيرا ما يحلم بأن يختفي لانه يظن مثل غيره من الشباب يظن أن الموت مؤلم. فالإختفاء هكذا سيكون غير مؤلم .الاختفاء بالنسبة له هو أن تتكون حفرة مُحايدة الملامح و مطموسة المعالم في مكانك. وُلِد منذر في زمن الهوس الديني المؤبد، أطل علي الوجود و المكان مزدحم بالمآذن ضاجّ بالمصلين و المُلتحين و كانت النساء ملفوفات بقطع قماش أسْود بأمر السلطة. و كان من فرط الهوس علي أيام مولده أن صارت أيام الناس كلها رمضان ، صيام مستمر لا يجيء بعده عيد و لا يَهِلّ في الآفاق هلالُ فرح. يتلفت الناس في الطرقات يمنة و يسرة ليبصقوا و إذا اقتربت من احدهم شملتك رائحة أنفاس مقيتة. وكغيره من سكان الامارة يجب عليه عدم الاعتراض علي خَلُوف فَمِ الصائم أو أن يضيق منه . اسمه منذر و تم تسميته بهذا الاسم منعا لسوء الفهم في زمن خطر .
في هذا المساء كان عمّه عابد محب الدين يتكلم بفرحٍ غامر عن انجازات الماضي و قال " مَنّ اللهُ واسع الفضل علي عباده من إهل إمارة السودان الاسلامية المتحدة المنسجمة عرقيا بانفصال دارفور و انفصال جنوب كردفان و انفصال جنوب النيل الازرق و تم بحمد الله التخلص من أهل العُجْمَة من كَفَرة شرق السودان القديم و شماله من عموم الرطّانة الأنجاس و تم حسم الدغمسة و رجع الناس طوعا و اختياراً للغة العهد النبوي المطهر و لا يقرأون و الحمد لله بأمر أمير المؤمنين غير كتاب الله بطبعات خليجية مذهبة مهداة لأهل الامارة من اخوانهم المسلمين في أسْرِ المصالحِ و رغائب النفوس الضالة و الموعودة بالهدي إن شاء الله نتيجة لنبل الأصل العرقي و كما تعلمان فإن الله يستحي أن ينزع البركة عن مكانها . و الحمد لله قد اصبحت حراسة الحدود عملا تكافليا تعاونيا لا يرجو فاعليه غير الاجر من الله ."
منذر كغيره من سكان الإمارة المسلمة كان يتابع الأخبار ساخنة كرغيقة خبز من الفرن في صباح جائع و هي متاحة فقط من منابر المساجد المنتشرة و كان يعرف أنه في هذه الايام قد تمّ منع الناس من جعل أبواب لدورهم حتي يسهل علي المفتشين من حاملي القانون في ايديهم دخول البيوت لمراجعة الاحوال الشرعية للسكان و التأكد من عدم وجود المحارم في الاجزاء من البيوت الخاصة بالنساء لأن ذلك أدْعَي للفتنة فالمحارم اذا سمح لهم سيصحبون ابنائهم ربما و هذا باب للفتنة أراد أمير المؤمنين إغلاقه و للأبد..
إعتصره ألم حاد، لم يكن للألم مكان محدد في جسده فهو ألم شبيه بضغط الذكريات المؤلمة. كان منذر يتذكر في سكتته الاخيرة المستمرة حادثة وقعت هنا في الحي المُميز بمائة مئذنة و مقصلة واحدة و كان أن أُخذ جارهم مجروراً من ادبخانة بيته في الجزء المخصص للرجال حيث كان جارهم المتهور يطالع كتاب في ادبخانة بيتهم في الجزء الخاص بالرجال فظهر ظله لاحد المارة عبر نافذة التنفيس الضيقة علي جدار الادبخانة و لأن الفانوس كان في الارض ظهر ظلُّ الكتاب كبيراً علي الحائط الداخلي و خشي المارُّ بجوار البيت من أن يكون هذا الكتاب مُصْحفا او ما شابه فتطلع عبر النافذة بخفة شاب رسالي نشيط كحمامة مسجد ثم خَرّ علي الارض من هول ما رأي من خرائط الشيطان و التصاوير المحرمة لبلاد الكفرة و الملحدين علي حسب ما يعتقد معظم سكان الإمارة في ذلك الزمن فاقتحم الشاب الرسالي الادبخانة و خمش الكتاب بعنف و سيق الجار للمقصلة المجاورة لتدق عنقه مع أول شعاع للشمس من صباح اليوم التالي في عام الخراب الخامس و العشرين. كان عمّه عابد محب الدين مُخبِرا متخصصا في تفتيش العقول و قد أعطي كرامات كثيرة من ضمنها قراءة الافكار. تعوذ العمّ عابد محب الدين من الشيطان الرجيم بصوت مسموع و متوتر و قال : "يا بني لقد كان جاركم الهالك بأمر الله يطالع كتاب عن جغرافية السودان صادر عما يسمي بوزارة التربية و التعليم في زمن التفسخ و الانحلال لطلاب الصف السادس عندما كان يسمح للفتيات و العياذ بالله بالدراسة في المدارس و التجول في الطرقات كالجواري و الإماء . ثم قال و كما تعلم أعتبرت هذه الجريمة من أخطر الجرائم و تكلم عنها أمير المؤمنين و تَهَدَج صوته و بكي و تمخط أمام المصلين بجامع الاكوان المخبتة في وسط البلد"
انتهي كلام عمّه عابد محب الدين و تواصل سكوت مُنذر و ترسخ الصمت و هو يتذكر الفتوي التي أُعتُبِر فيها حمل المناديل دليلاً علي الخَنَي و الانكسار و إدعاء للرِقّة المُفسدة للرجال فكان علي الناس أن يستخدموا أكمام جلابيبهم أو اطراف عَزَبات عمائمهم بدلا عن المناديل و المناشف بأمر السلطات. و تذكر ايضا تطبيق قانون " قَرْنَ في بيوتكن" فمنعت النساء ، الفتيات ، اليافعات و الرضيعات حتي من الظهور في الشوارع او ارتياد الاماكن العامة او القدلة في حيشان البيوت . و كيف تم فرض قانون تعدد الزوجات حيث يستجلب حاملو القانون في ايديهم لأي عريس في يوم زفافه عروستين إجباريتين و تم ذلك بمنشور أميري مقدس كما تم إعتبار هذا العمل بطوليا حيث توزع الأوسمة و النياشين للشبان الحاملين للقانون في أيديهم الذين يجلبون اخواتهم كعروسات الزاميات لعرسان في يوم زفافهم من حَسَنِي الاسلام و الأكفاء
غادر عمّه عابد بعد أن اقترح هامسا لوالده ان يلتحق مُنذر بالعمل حارساً لحدود الإمارة بدلاً عن هذه الإضطجاعة غير المفيدة التي يلعب فيها الشيطان برأسه. رجع والده الي مجلسهما و في خاطره حكاية فقال : " يا منذر قبل ولادتك باسبوعين سافرت جدتك برفقة أخيها كمحرم لصديقتها في دولة جنوب السودان لتجهز البخور و الضريرة و الدلكة و الخمرة لاستقبال مولدك بالعطور لأن إمام المسجد المجاور كان قد اصدر فتوي صار بموجبها أن تكون أي إمرأة متعطرة خطرا علي المجتمع و يجب علي حاملي القانون في ايديهم ان يعالجوه إما بالسوط او بالسكين او بالساطور او ما تبقي من عهد الخلافة من غدّارات و بُنْدق و عادة ماتكون معالجاتهم متهورة فتموت ضحاياهم قبل ان يتم تنفيذ القوانين عليهن فتوقفت النساءعن تصنيع العطور و استخدامها منعا للحرج او استفزاز الرجال و فتنتهم . و قال له كان حاملو القانون في ايديهم جماعات كثيرة و من اعمار متفاوتة و كانت و باستمرار تساندهم سيارات الشرطة .
و لولا مساعدة عمك عابد محب الدين لنا لما عرفت تلك العطور طريقها لبيتنا و نتيجة لكلامه مع والدتك و جدتك عن تلك العطور و حُرمتها و ان الشيطان هو من يُعِدها و يجهزها احتفظت بها أمك في خزانة بالبيت الي أن جفت و فسدت و لم تستخدمها.
تحرك منذر قليلا في فراشه تم قال بتعب يا ابوي متين منعوا النسوان و البنات من التجول في الطرقات؟ ردّ والده بالقول:" يحكي أن امير المؤمنين كان في زيارة لبعض أهله و في الطريق سمع ست شاي تضحك، فغضب و بذلك قرر أن يتم إعدام جميع ستات الشاي كل واحدة في المقصلة المخصصة لسكان حيّها و تقرر أن يتم الاحتفاظ بمقاصل وسط البلد لإعدام المتفلتين من رجال الدين من عضوية الاحزاب السياسية المسماة قانوناً باحزاب الشيطان. و كما تعرف فإن رجال الدين يستتابون فيتوبون و يرجعون عن افكارهم و ينكرون ما قالوه اما ستات الشاي فلم يعطين فرصة أخري فقط بشهادة شاهدين و ينتهي امر الواحدة منهن . و كان أن شوهدت إمرأة مسنة في الطريق الي المسجد لأداء صلاة التراويح فاستثيرت شهوات الرجال قليلي التحكم في إرْبَتهم فانزلوا لمشهد تلك المُسِنة التي كانت في طريقها لأداء صلاة التراويح و حكاية ذلك الشاب الذي اصيب بالذهان جراء مشاهدته لبنت أخيه الرضيعة عارية و امها تبدل لها ملابسها . نتيجة لتلك الحوادث قرر المشايخ منع النساء من الظهور امام الرجال حتي لا يفتتن الرجال فيقعون في الحرام . غادر والده إلي جزء البيت الثاني "
هنا تذكر منذر الحادثة التي اصابت نفسه بالآلام المُفرطة و العذاب الدائم تذكر ما حدث لأبيه حيث كان في في أحد الايام يحكي للمتجمعين من سكان الحي جوار المتجر الوحيد في الحي عن ان مباريات كرة القدم كان تبث في التلفزيون قبل خمسة وعشرين عام سمع أحد حاملي القانون في ايديهم من الشباب الرسالي ذلك الكلام و لم يكن يعرف ما هو التلفزيون ؟ ما هي كرة القدم؟ اهتاج الشاب و ازبد و تعوذ بالله من الشيطان الرجيم و قال لوالده كيف تقول كلاماَ بلغة غير لغة القرآن من اللغات التي يتكلم بها الكفرة و الملحدون و تذكر كيف حاول والده اقناع الشاب بأن تلك الامور كانت تحدث بالفعل ، تَعنّت الشاب الرسالي و لم يقتنع فأخذ الشابُ الرسالي والدَه للجلد في المسجد بعد صلاة الفجر و كان هذه العقوبة هي من اخف العقوبات حينها. لام الجميعُ والدَه حتي منذر قال لوالدِه ما كان يجدر بك أن تتكلم عن ذكرياتك في بلد أُعدِمت فيه ذاكرة الشعب بتكرار نفس الكلام لمدة طويلة و ضُرِبت الأسوار حول حدودها المختصرة لدرجة انه يمكنك ان تجوبها بجملٍ في اسبوع واحد. طافت فكرة مفرحة بذهنه و تخيل نفسه راكباً علي جمل عَبّادي يراقب الحدود و يمنع المتفلتين من السفر إلي أن يجد فرصةً للهرب الي دولة جنوب السودان حيث تم إعداد العطور الغاضبة بمناسبة مولده.


طه جعفر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى