بابكر عثمان مكي - العانس.. قصة قصيرة

جلست مريم بت الطاهر فى مساءات الخريف اللزجة .. يقودها الحنين الى براح جاف لا يخلو من رائحة طين .. وابتلال عشب ولمسات محيميد السحرية .. اوقدت نارها الخامدة على ذلك المرمى الجاف وتلفحت بملاءتها العتيقة ..فبدت على ضوء القمر .. كعذراء تتلفح فركة قرمصيص خضراء جديدة تنتظر فحولة الليل ليدخل ظلامه المهول بين تقاسيم انتظارها المريع الى(محيميد ) حبيبها الغائب منذ نعومة اظافرها فهى تنتظر حلول القمر فى منتصف الشهر لتشهق روحها شوقا" اليه فى مناجاة لهذا الفتى منذ سنين حتى ادمنت عشق القمر واضحت لاتميز بين القمر وبين محيميد مجرد حلم فقط وايام آفلات فمازالت اذنيها تمتشق اصوات اللورى الذى صعد فيه ذات صباح قديم الملامح حيث كانت تلعب معه فى فناء الدار (عريس وعروس ) وكان هو ينثر عليها الورد وسط جمع من اطفال الحى عند كل عيد ،، وعند كل عيد كان محيميد يجلب اليها الحلوى والنقود التى يهديها له اعمامه واخواله (عيدية ) ويضعها فى يديها الصغيرتين ثم يقول لها هذا جزء من مهرك وعندما اكبر سابنى لك بيتا" كبيرا" اكبر من بيت العمدة ثم يجرى وهو رافعا" جلبابه يقفز الى اعلى حافى القدمين نحيل الجسد . تختزل مطاردته لها فى اللعب وبالرغم من انها تلهو معه هاربه الا انها كانت تحس فى العمق الطفولى المهيب انه حاميها وانه زوجها فى قاموس تلك اللعبة البريئة الجادة حتى ادمنت هى الحماية واستنفذت كل شروط الوصاية لزوجها الذى لم يبلغ بعد شروط النكاح.

قريتها... تشبه بركة صامتة لايحركها الا حجر .. يتدحرج من تلة افراح او موت عزيز... حسبما تجىء به الاقدار فى ثلة الليل الاخير .. او فى صباحات ناعسات ..
عذراوات القرية يخرجن من القرية كاستلال الابر على العضل اما لبيوت ازواجهن او الى المقبرة لا احد يتزوج من القرية الا بعد جهد ولأى فالرجال قلائل والفتيات كثر.. والشبان تأخذهم الحياة ولايرغبون فى تكرار مسيرة الجدود الابدية لزواج الكهوف هذا .. فهم يحلمون بسماء تمطر ذهبا" فى تلك البلاد الغنية حيث كل شىء مباح ومتاح .

كل الفتيات فى القرية يخضعن لمنظار مراقبة حاد .. اما لشهوة او لخوف والمنظار واحد .. كبير من الجانبين ضيق عند المدخل .. محدودب ومغور ومستف بالظن السىء .. حتى عند خروجهن الى الغابة الكبيرة لجلب الحطب وورد الماء يتهادين وتتداخل ارجلهن خوف التطرف والانفلات من الصف فتجد كل واحدة حريصة على ان تكون فى منتصف الجمع خوفا" من الانفلات العفوى كانما يلاحقهن ذئب القرية ويتربص بهن ابن اوى .

ملصت ام مريم يديها من راحة ارجل زوجها الملطخة بالوحل .. وهى تغسلهما جيدا" وتمسحهما بفوطة نظيفة .. ثم تخطو الى دافور الجاز لتعلق على شاى الحلبة المقنن بسبب حلة الطلس المسجاة على الفحم كعقاب الهى .

هسع يابو مريم فى داعى تشتل .. فى جنس مطرة ؟؟؟

فاجاب : يام مريم ياتو يوم السما استاذنت من الارض ؟؟؟

ثم سال سؤال عابر ..وين مريم ؟؟؟؟

فاجابته مريم فى الحوش .. متنسمة نسمات خريف القبلى ده

قوليها المطر ويكتين يقيف بشتى ... ابقى داخله جوه..

فاجابته.. القمر بان والسحاب انقشع والنسمة طيبة خليها عاوز تخنقها معانا هنا ..

ثم غمزت غمزة الرفيق الوفى .. تشتهى ظله قريبا اكثر .

لم يفته مغزى انثى حلبت طين الارض من راحة رجليه قبل قليل وطوال سنين طويلة خلت ولكنه استيقن ان ابنته مازالت فى الجوار .. وان ثمة امر يتكرر فى موقفها ذاك ..

طيب يام مريم لمتين البت قاعدة كدة ذى شعبة البيت القديم ؟؟؟

فاجابته ام مريم ..الله عليك ؟؟؟ ناقص تدلل عليها فى السوق

قالها لو الامر مشروع افعل ؟؟؟ انت ماشايفه البت بقت تسرح وتتبسم براها ذى الراكبها شيطان .

قالت ( لو) الله عليك ..

نصيبها يجيها لحدى عندها ... انت بس لاتشعرها بشىء .

كانت عينا مريم شاخصة فى اتجاه القمر الذى يفج السحاب .. فيفتعل السفر فى عمق كل العيون الحزينة التى تترقب .

كانت تعلم هم الاب .. وتدرك حنو الام .. وتعلم ان السنين سكاكين لاترحم

لم يعد محيميد .. وسكت الاب من التساؤل الحزين .. وتشتت الام فى حنو خاطرها مابين اب لا يستطيع شيئا" وبين بنت نشفت بضاعتها على عروقها مثل كرز فاته سوق الخميس .

حتى جاء منتصف الشهر .. وخرجت الى ساحتها المعهودة تلتمس قمر المساء .. كانت السماء صافية والقمر يتهادى كزورق مضاء فى منتصف البحر ..

رأته يبتسم لها ويناديها من داخل العمق .. ورات وجهه المضىء بلور زمانها القادم ومشتهى سعادتها ... وتقدمت تخوض فى الماء وتنظر اليه ..

محيميد ... انا مريم ... كيفك انت .. اشتقتلك ... كل صباح وكل مساء .. اشتقت لك

وكان القمر يذهب ومريم تمشى وراءه .. رافعة جلبابها الابيض .. تتنسمها طرحتها البيضاء فيلفحها نسيم الليل ... فى اتجاه النيل

لم يلحظ احد فى القرية تسرب مريم الى النيل عند ذات القيفة الهدامة ...

كل ماهناك عزاء صامد لرجال القرية اصحاب المناظير المقيدة ... كان الاب يقف كالمنطاد يتقبل العزاء ..والام تولول وسط نساء القرية ... حينما شعر بتربيت كتف لشاب جميل التقاطيع كالبدر .. لا .. كالبحر ... يدعى محيميد ... تهامس الناس فى العزاء عن عودته صباح نفس اليوم الذى غرقت فيه مريم .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى