إسلام شمس الدين - رسالة من صديقة

كتبتْ لي صديقتي تسألني عني؛ عن ذاك الذي كان شمساً دافئةً تتسلل أشِعَّتُها الفضيةُ كل صباح؛ فتهامسُ القلوب، وتُراقصُ المَشاعِرَ، وتسكبُ في النفوسِ رحيقَ البَهْجةِ والجمال... لمَ احتجبت اليوم خلف غيمات الوَجْدِ، وضبابات الأسى، وكيف داهمتها حُلْكَةُ الحُزنِ واليأسِ في ساعاتِ الضحى.

تسألني صديقتي – والبراءة تنسابُ عبر حَفيفِ حروفها - عن ذاك الذي ينحدر من سلالة "الرومانسيين"؛ ذاك الذي كان يسكن السحابةَ المجاورة للقمر، ويتحدث لغةَ الفراشات، ويتَنَسَّم عَبقَ الرَّيْحَانِ، ويطْعَمُ أوراق الفُلِّ، ويشربُ من بَحْرِ الشِّعْرِ، ويسامرُ الكَنَارِيّ في المساءاتِ الممطرة، وينام آخر الليلِ في الأحداقِ الخُضرِ، وفي الأحداقِ السُود، وفي الأحداق العسلية... كيف الآن اجتاحته جحافلُ "الواقعيين"، وكيف احتلت قصره البَلُّوري، وسكنت شرفته المطلة على بحيرات النُور، وكيف غطى عشبها اليابس بساتينه المُزهِرة، وكيف أقامت الحواجز ونقاط التفتيش بين أوراقه لمصادرة الحروف الملونة.

لا تكف صديقتي الطيبة عن ملاحقتي بالأسئلة، فهي تسأل عن عصفورٍ صغيرٍ اسمه "الحب"؛ كان يصحبني كل مساء إلى المراعي القرمزية، ويغني معي ذات الأغنيات الكلاسيكية، ويعزفُ معي على ذات النايات الصَّنَوْبَريّة، نغتسل سوياً في نهر الموسيقى، ونَتَنشَّفُ بقصائد من حرير، ونتسابقُ بين شجيراتِ الحُلمِ النائمة بأحضانِ مدينتنا العُذْريِّة... فمن كسر للعصفورِ جناحه الرقيق، ومن قطع رحلته الكونية وأسكت شدوه الصَدَّاح في زوايا الأفق، ومن سرق ريشاته الزَّهْرية المخبأة بين دفاتري.

صديقتي تسألُ أيضاً عن حُقول البَنَفْسَج التي كنت أزرعها في جُزُر الشمس، وأسقيها من ماء النهرِ الممتد ما بين نجمات الحب ومحيطات الأمل، وأبيعُ زهراتها كل ربيعٍ للعشاقِ عند ناصية الكوكب الورديّ... لمَ يبست الحقول وذَبَل البَنَفْسج وجفّ النهرُ المتدفقُ بفَتِيت الياسمين؟

في كل سطرٍ من رسالتها؛ ترسم صديقتي علامة تعجب، والعديد من علاماتِ الاستفهام، وتزعمُ أنني علًمتها أشياء وأشياء؛ نقشتها في صفحات عمرها البيضاء، وحفرتها كالوشمِ على جدران قلبها الأخضر، وزينتُ ضفائرها بورودها الناعمة.
تقول صديقتي؛ وهي محقةٌ؛ إنني الآن تغيرت، ما عدتُ أنا، وأنني أفتقدني، مثلما هي تفتقدني، وتنتظرُ عودتي إليّ، مثلما ينتظر العشاقُ زهورَ البَنَفْسَج في فصل الربيع.

تختم صديقتي رسالتها بزفرة أسى لا تخلو من بعض العتاب وبعض الشجن، والكثير من الحيرة والدهشة، وتذيلها بتوقيعها: "تلميذتك في مدرسةِ الحبِ والحلم".

صغيرتي، صديقتي العزيزة، أيتها التلميذة...
فيمَ الدهشة إذا ما أخطأ المعلمُ ثم أثاب؟.. فيمَ الدهشة إذا ما اجتهد فأدرك الصواب؟
بماذا أجيبك صغيرتي، وليس لأسئلتك من إجابات؟.. فياليتك لا تسألينها..
لا تسألي عن قبيلة الرومانسيين... فقد أفناها الزمانُ كما أفنى شعوبَ الهنود الحمر، ومن تبقى منهم؛ يختبئ هناك في كهوفِ العزلةِ شريداً مطروداً من عالمنا الجليدي.
لا تسألي عن العصفور الصغير القتيل برصاصاتِ الواقع والظروف والزيف والخداع؛ فهو الآن يرقد ميتاً في غرفة الإنعاش؛ تحيط به أجهزة الإعاشة، لأن بعض الحمقى المكابرين من الأطباء يقفون ضد الحقيقة رافضين إعلان موته.
لا تسألي عن البساتين والحقول والورود والعطور والأمطار اللؤلؤية والنجمات الهامسة والأمنيات الحالمة، فكلها؛ كلها؛ هلوسات شاعر؛ رسمها على الأوراق وتغنى بها على الأوراق وبناها مدينةً من الأوراق.. متناسياً أن زماننا الصخري لا يعترفُ بشَّرْعيةِ الأوراق ولا لُّغَة الأوراق ولا مُدُنِ الأوراق.
فاحرقي – صغيرتي- كل أوراقي؛ لا تقرأيني؛ لا تسمعيني؛ لا تصدقيني، لاتخاطبيني ثانيةً بصيغة "الأستاذ"؛ فقد كنتُ معلماً فاشلاً، وكاتباً فاشلاً، وصديقاً فاشلاً، وعاشقاً فاشلاً... علمتُك الدَّرْسَ الخطأ من المقررِ الخطأ في الحِصَّةِ الخطأ، وتركتك وحدك في لّجْنةِ الامتحان.

صديقتي العزيزة..
ها أنا الآن استجمعُ بعضاً من شجاعتي، لأعترفَ بخطيئتي؛ لأقرَّ بذنبي وأعلن توبتي، وأقسم بالألمِ وبالحُزنِ وبالجُرحِ النازف في جنباتي؛ ألا أعودَ ثانيةً لحماقاتي، وأن أكفَ عن ترويج تلك الخرافاتِ؛ عن الحُلمِ الممكن، والأملِ الأخضر، وعن ترنيمةٍ لَذِيذةٍ تُتلى في الأساطير؛ اسمها "الحب".
ها أنا الآن أغتسلُ من أحلامي؛ أتوضأ بغبارِ الزمنِ الحجري، واتطَّهر من رِّجْس الورد ومن رِّجْس الشِّعْرِ ومن رِّجْس الحب المصلوب على أسوارِ الآلام.. أصلي في محراب "الواقعية"؛ ميمماً وجهيّ شطرَ الواقعِ والمفروضِ وحَزْنِ الأيامِ.

صديقتي الصغيرة..
ها أنا الآن أقدم إليكِ اعتذاري...
وللواقع القَسْري؛ قدمتُ ولائي وطاعتي، وأعلنتُ انكساري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى