سردار محمد سعيد - الجنس في التراث العربي - ( الجزء الأول

( الجزء الأول)
مقدمة
أشك بأن ما سيسرد في هذا السلسلة سيمر بلا اعتراض ولا مناقشة أو جدال، وقد لا يرضى عنه البعض، وما كانت غايته ارضاء قوم أو فئة على حساب النهج العام للفكر والحقيقة العلمية، ولا لمنفعة شخصية ترجى، فبغيته الرئيســة ابراز واقع موثق ورؤيتي كما أعقلها وأفهمها، والرؤى المتباينة تجد ناصرا ًمساندا ً وتجد معارضا ًداحضا ًولأجل هذا وصفت بأنها متباينة .

الشك واليقين سمتان من سمات العقل البشري الذي هوسلبي بفطرته يقول لا ويقول نعم ولا يأتمربمايسمع كما في شريط التسجيل ولولا هذه السلبية فيه لما نشأت الأديان والحضارات، واكتسب التساؤل والشك مشروعية، وعاد من الحقوق البشرية التي لا استعباد فيها، وصارت محاولة استعباد الرأي وفرض القبول بالرأي المباين قسرا ً من مخلفات الفكر البشري وديدن الطغاة والعتاة والجبابرة كأنهم لم يسمعوا أو يفهموا خالد القول :

( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ً )، وما من ضير في الرأي المباين لو كان يفضي إلى التفاعل والتلاقح ليخدم المسيرة الإنسانية ، والتباين

لا يأتي من فراغ أو من دون منهج متخذ سلفا ً، غير أني أجد من الضرورة عند قراءة هذه السلسلة أن لا يشحذ كل منتهج لفكر ما سيف لسانه قبل أن تفهم الغاية منه دون روية وتمعن .

الخشية من التصريح وتبيان حقائق موثقة لا يمنعني منها مانع، لا سيما إذا علمنا أن هناك المئات من الكتب والصفحات الأدبية والشعر والأقوال أبانت وأفصحت عنها بطرق وبيان فاضح أوعفيف واستعملت ألفاظا ً فاحشة أو كنى لطيفة عفيفة.

يعد بعض الناس تناول هكذا مواضيع حساسة يثير الغرائز ، وربما يظن أنه يدعو للممارسات غير الطبيعية وغيرالمقبولة أو المقننة ، وهذا شبيه بالذي يصف المتحدث بمسألة الكفر بكافر.

التحدث في موضوع غريزي خلق مع مذ خلق البشر وسيبقى إلى يوم الساعة ليس فيه ما يعيب ، ولو كان هذا صحيحا ً لما تحدثت عنه الكتب السماوية والأنبياء والفقهاء والعلماء ، والعيب فيمن يقف بوجه التطور الفكري ويكون حجر عثرة وعقبة كأداء في وجه الحضارة السائرة دون توقف يرافقها تغيرالسلوك وتغيرات اجتماعية مستجدة ، وآمل أن يكون الكتاب ممهدا ً لدراسات نفسية واجتماعية وفلسفية أوسع ومتخصصة ولا يثنيها نظرة قاصرعلماً وثقافة وفهما ً.



الغرائز والشهوات

أرى أن هناك خلط بين الغريزة والشهوة ، فيقال أن الغريزة موجودة في نفس الكائن الحي أو جبلـّته أو طبعه ، والشهوة مركوزة فيها ، وأجد أن هذا المفهوم للغريزة لا يختلف بأي عن مفهوم فرويد للغريزة ( التي تعبر عن قوة نفسية راسخة تصدر من صميم الكائن الحي العضوي ) ولا أفهم ما معنى جبلـّة ولا معنى مركوزة بغير هذا الشكل والإختلاف في التعابير والألفاظ اللغوية وأجد أن الخلط بين الغريزة والشهوة ما يزال قائما ً، غير أن المتفق عليه أن الغريزة مخلوقة بالفطرة ، ورأيي أن الشهوة هي فعل داخلي آخر الذي يمثل الغريزة التي أصابها نقص بحاجة لسد وتدارك، وعلى وفق هذا فإن الغريزة لا يمكن تعطيلها لكن الشهوة يمكن تعطيلها أو التحكم بها ، فالقول أنا أشتهي كذا يعني أن الغريزة بحاجة لإشباع ، وقمع الشهوة لا يعنى التخلي عن الغريزة أو قتلها ، وهو كما تقول الفرس موجود وأستطيع كبح جماحه لابقتله والقضاء عليه، وقول الشاعر :

أنا والله أشتهي سحر عينيك = وأخشى مصارع العشاق .1
- ( البيت لبشار بن برد )

هو قول صادق يعني أنه لو لم يكبح شهوته ويؤجلها فإنه سيصرع ومن هنا كانت خشيته، وبالتأكيد فإن اشباع الغريزة تصاحبه اللذة فمفهوم الخشية يعني تأجيل اللذة لوقت آخر حين يتم الإشباع وتقبل التأجيل يكون مع ألم بسبب مايسمى بالكبت .

بمعنى آخر أن الغريزة شيء وفعل الغريزة شيءآخر وهو الإشتهاء، ولقد جاء في الذكر الحكيم ( زين للناس حب الشهوات ) 2
( آل عمران / 14 )

بمعنى أن الإشتهاء كالزينة، والزينة تكون لشيء موجود أساسا ً وهو فعل تابع لمتبوع، ومن الواضح أن الشهوة تفعل فعلها بعد تحفيز الغريزة فسحر العينين كان الحافز للغريزة لتثيرالشهوة عند الشاعر ، وهنا يتضح أن الحافز يكون بفعل مادي فتفرز بعض الغدد إفرازات تحسس الكائن بحاجة المنكح أو المطعم على أن هذا لايشترط أن يكون المحفز الشيء المنشود نفسه فيمكن أن يكون عن طريق جسم مادي آخرموح ٍ مثلا ًلا يشترط رؤية العشيقة حتى تثار غريزة الجنس فربما رؤية صورة لها أو زهرة أهدتها له تثيرها، بعبارة أخرى أن التخيل له دوره هنا، والخوف من عذاب يوم القيامة يثير في الإنسان شهوة الإيمان وإن لم ير يوم القيامة، ومن هذا سبب اقشعرار الجلد وخفقان القلب عند سماع آي من القرآن الكريم فقط.

الشهوة تكون في أمور عدة وأهمها عندي شهوة المطعم حتى قيل أن بقراط قال: المريض الذي يشتهي أرجى عندي من الصحيح الذي لا يشتهي بمعنى أن الذي يشتهي غريزة المطعم عنده ما تزال سليمة فاعلة، وقد قيل للخليل في علته:

أتشتهي شيئا ً؟ قال: لا بودي أن أشتهي 3
( محاضرات الأدباء / الراغب الأصفهاني )

أي أنه يود أن تستدعي الغريزة فعل الإشتهاء . وهو نفس ما قاله سيبويه في مرضه عندما سأله النظام : ما تشتهي
فقال : أشتهي أن أشتهي .4

( معجم الأدباء / ياقوت الحموي و البصائر والذخائر / ابو حيان التوحيدي وفيه أن السؤال موجه للنظام )

من أخبار المغنية سلامة القس قالت لعبد الرحمن الملقب بالقس لكثرة عبادته وكان قد شغف بها وشغفت به: ( والله أشتهي أن أعانقك وأقبلك. فقال: والله وأنا أشتهي مثل ذلك ) وزاد أنه يشتهي مضاجعتها... و... و فقالت ( فما يمنعك من ذلك. والله إن المكان لخال ٍ قال: يمنعني منه قوله عز وجل: "الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، فأنا أكره أن تحول محبتي عداوة يوم القيامة ).

5 ( نهاية الأرب في فنون الأدب / النويري ، ورويت بلفظ مختلف في الموشى للوشاء والآية هي 67 / الزخرف )

وهنا أثيرت غريزة المنكح فطفحت الشهوة لكنه كبح جماحها، وهذا يذكر بحادثة النبي يوسف عندما دعته امرأة العزيز لفعل المنكر فأبى .

وهناك شهوات كثيره منها سماع صوت المغنين ويذكر أنه يكون أجمل لو كانت به بحة معينة وقيل في ذلك :
أشتهي في الغناء بحة حلق نا= عم الصوت متعب مكدود
كأنين المحب أضعفه الشو = ق فضاهى به أنين العود

6 (ديوان المعاني / ابو هلال العسكري ) .

ويقال أن السري السقطي قال : أشتهي أن آكل أكلة لا يكون فيها لله عز وجل علي تبعة ولا لمخلوق ، فما وجدت .7

( نشوار المحاضرة / القاضي التنوخي )

ويقال أن شخصا ً اسمه موسى لقب موسى شهوات إذ كان يجلب الشهوات كالقند والسكر من أذربيجان فغلب عليه اللقب ، وقيل بسبب بيت قاله في يزيد بن معاوية :

لست منا وليس خالك منا = يا مضيع الصلاة بالشهوات .8

( خزانة الأدب / عبد القادر البغدادي )

إن كبح جماح فعل الغريزة وأعني به الشهوة يتم في مجمله بإشغال العقل بشيء مفيد كالتعبد والقراءة ووسائل كثيرة إن يكن فيها فائدة فمجنبة لضرر ، ولقد ربط العقل بالغريزة بل قيل هي نفسه 9

( ذكرى العاقل وتنبيه الغافل / عبد القادر الجزائري )

، أما صد الغريزة بمعنى التعطيل فغير جائز ، ولكن بمعنى كبح جماحها ولا تترك بشكل فوضوي وسائب ، فكما هو غير ممكن تعطيل غريزة المطعم فمن غير الممكن تعطيل غريزة المنكح ( وللإنسان قوى معروفة المقدار وشهوات مصروفة في حاجات النفوس مقسومة عليها لا يجوز تعطيلها وترك استعمالها ما دامت النفوس قائمة بطبائعها ومزاجاتها وحاجاتها وباب المنكح من أقواها وأعمها ) 10

( الحيوان / الجاحظ )

، أي أن الجاحظ يرى أن غريزة الجنس الأولى تليها غريزة الأكل فقال (وليس بعد باب المنكح له وقع كوقع المطعم . 11
( المصدر السابق )

وأرى عكس رأي الجاحظ ، فعدم تلبية غريزة المطعم تودي للهلكة لكن عدم تلبية غريزة المنكح لن تودي بالكائن الحي للهلاك وقد تودي لمرض نفسي أو سلوكي ، أما عواقبهما السلوكية فلا شك أنها وخيمة فكما يدفع غلق باب المنكح للزنا فغلق باب المطعم يدفع للسرقة




صورة مفقودة


.
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى