إبراهيم محمود - نسَب الشجر

الخشب من سلالة شجرية. هل هذا القول ابتكار؟ ليس كذلك، لكنه تنويه إلى من يتجاهل هذه الرابطة النسْلية، وما يترتب على التجاهل من تغافل عن استحقاقات الخشب بوصفه شجريّ الأصل. ومن المؤسف جداً أن هناك كلمات شائعة في أوساطنا العامة، مثلاً، لحظة توصيف من يرتعب أو يتعرض لحالة نفسية بأنه قد " تخشَّب ": صار مثل الخشب، جامداً. أو لحظة ذم نص ما بصورة ما بأنه نص " متخشب " أي ميْت، ولكن الاستعارة في غير محلها من باب الدقة .
لنتوقف في نطاق " الإمتاع والمؤانسة " الخشبيين !
الخشب مادة مطواعة قبل كل شيء، إذ لا أسهل من تنقيعه في الماء، أو ترطيبه به، فيتلين، لا أسهل من إخضاعه للنشر باليد أو بسواه " منشار كهربائي ، مثلاً "، ولا أسهل من التحكم به بالمقابل، حيث يستحيل التفريط في أي ذرة منه " هنا أقصد نخالة الخشب "، أي عمومية الاستفادة منه طبعاً.
تضعنا استخدامات الخشب في مواجهة أكثر من مشهد فني وليس آلياً: بدءاً من بناء المنزل، مروراً بالأثاث المنزلي، وانتهاء بالمحوَّل فيه فنياً" بالمفهوم النحتي "، أو الحرق على الخشب. يعني ذلك أن سؤال: ماذا يحصل لو أن الخشب اختفى في حياتنا ؟ ربما يكون كارثياً.
الخشب، استناداً إلى ما تقدم لا يكون مجرد وسيط بين مالكه والشجر الذي يقطَع منه، أو وهو " مسقط رأسه ". علينا أن نكون أكثر انفتاحاً على المتخيل جمالياً، وما فيه من بعد ذوقي: أخلاقي، أن نحرّر أنفسنا، ولو لبعض الوقت، من هذا التأطير لمفهوم الخشب الذي لا أكثر من تداوله واستعمالاته في أوساطنا، وفي مختلف الأمكنة، وبمستويات مختلفة، لنحسن إقامة علاقة معه أكثر من ذي قبل، أي نبقي العلاقة بينه وبين الشجر دالتنا الكبرى في الوجود. نحن شجريون بمعنى ما، ودون الشجر، إن أمطنا اللثام عن حقيقة المستخلَص من الشجر، بوصفه معطاء، كريماً، يجود بكل ما فيه، ويمارس تعددية أدوار في حياتنا: بيئياً " مناخياً " وتنموياً وغذائياً وجمالية رؤية، وما في ذلك من تفان عصي على الوصف. الخشب شجر، لكنه يفقد جذوره، ومعروض للتسويق، وقد أخرِج من طبيعته، وهيئته، إذ قطعه، و" سلخه " ونشره بأبعاد ومقاييس مختلفة، ووضعه في خدمة الرغبات المختلفة.
إن وعينا الشجرة" الشجرة الكونية ومجتمعها المهيب الجليل " إن تأكد بعمق، يقرّبنا من هذا الخشب الذي ننسى مصدره، وكيفية إدارة شأنه في حياتنا اليومية.
صحيح أن الخشب جنس، وما أكثر أنواعه، لحظة النظر في الشجر بأنواعه، لكنه من حيث المفهوم غنيّ التسميات، والتعامل معه تعامل مع كائن نكون وإياه داخل أرومة حيوية واحدة " الكائن الحي "، والتدرج في سلًّم الكائنات الحية غير مدروس على مستوى القيمة .
إن الإفراط في الاستثمار، واتباع الطرق الهمجية في قطع الشجر، وتعريض البيئة لإفقار وما في ذلك من تصحر وتضييق على حياة منشودة، يجلو تاريخاً من العار المريع للبشرية، وهي تفتك بالطبيعة، كما لو أنها متعالية عليها، وغير منتمية إليها.
يحدث ذلك، كما لو أن الذين " يستأنسون " بقطع الشجر، أو يتفننون في تقطيعه " إرباً إرباً- شلواً شلواً "، كما لو أنهم، من حيث لا يدرون، ينتقمون من الشجرة الميثولوجية ومن ثم المحمولة بأثريات الدين الكبرى: الجنتية، دون أي مساءلة عن لغز العلاقة " ربما ذات يوم سأتعرض لهذه الرابطة الرحمية- الرمزية ". إن الحد الأدنى من الوعي- المسئولية، يستوجب قدراً كافياً من الإحاطة بالشجر، وتبين المخاطر المترتبة على هذا الإجحاف بحقه، عند قطعه دون حساب، وطرقه أحياناً، بعيداً عن أي عائد نفسي: ذوقي، ومرتجع اعتباري له.
نحن والخشب في مرمى واحد من حيث المخاطر المتعددة التي تتهدد الطبيعة، إنما دون مساواة بيننا، فما أكثر " خطايانا " ونحن نستخف بدورة الحياة، ونهين الشجر، ونفرط في نشر الخشب دون أي مراجعة نقدية لما نخطط له شجرياً، ولما نزمع على تنفيذه: خشبياً.
الخشب كلّي الإلفة، لحظة حمله، تلمسه، وتقليبه على وجوهه. ثمة سرعة في الاستجابة مع صاحبه، أو ناشره، وهو يحيله إلى أكثر من مادة، وهي بدورها تتذرر، أو تتكوثر، إن جاز التعبير، فأنى التفتنا نجد خشباً أو أثراً له " من الكرسي الخشبي الصحي، فالطاولة الخشبية الصحية، فالكتاب بورقه، والدفتر...الخ "، أي نجد ما يحفّز فينا قابلية النظر فيما يجري .
هل نستطيع الحديث عن حالة شعورية معينة في الخشب، ولو من نوع الطبيعي؟ هل نستطيع إضفاء مسحة من ديناميكية الحياة، حتى وهو مفصول عن شجره؟ هل نستطيع تقييمه على أنه امتداد لمفهوم جسمي، عضوي، وما يعنيه ذلك من رفع لسقف علاقتنا القيمية به؟ أرى أن كل ذلك جائز، لا بل إن مكاشفة إجمالية لخاصية الشجر وهو في تنوع استخداماته والراحة النفسية التي يمنحنا إياها، حتى لحظة شم رائحته" وهي لا تزكم، ولا توهِم، ولا تسمّم "، تضعنا إزاء واقعة باسمه، لا أبالغ إن قلنا إنها تستدعي مساءلة/ محاكمة أخلاقية ، بمقدار ما يكون هذا الخروج إلى دائرة كلية الكائن الحي، انتماء أكثر إلى أصل لنا نأينا عنه، أو عاديناه وهو داخلنا بالنسبة للشجر وما يصله بالشجر . لكم أٌقدّر الوثنيين هنا في تقييمهم للشجر والمنشور منه !
ليت النص يكون خشبياً، فهو يفيد في مجالات معينة، إنما هو تحميل ما لا يستطيع النطق دوراً لا علاقة له به البتة، إنما على مستوى الحياة، يكون رد فعله مباشراً، أو فيما بعد، حيث إن كل سوء فهم، أو علاقة نتجسده مع الخشب، لا يعدو أن يكون امتداداً لوعينا الشجري المشوَّه، أعني وعينا لأنفسنا، والقوى المختزَلة فيها، والمعطّلة ، كما تشهد دقائق الحياة اليومية هنا وهناك .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى