أمل الكردفاني - الرواية بين الحكمة والبلاغة والتأويل

ربما من قراءاتي في الأدب الروائي عموما يلاحظ ان هناك ثلاث اساليب رئيسية تعتمد عليها الكتابة الروائية. احداها البلاغة ، وهي عبر استخدام تشبيهات واستعارات وخلافه ، بحيث يهتم الكاتب باللغة نفسها كفن وليس كأداة او وسيلة. ربما هذا النوع تقلص كثيرا في مواجهة اتجاهين ، اتجاه نحو الحكمة تقوده تيارات شبابية عربية ، حيث لا يتم الاهتمام داخل السرد ببلاغة اللغة بقدر ما يكون الاهتمام بصياغة مقولات او حكم اثناء السرد ، سواء تعلقت الحكمة بتحليل احدى شخصيات الرواية او اقعة معينة . ربما نجد ذلك ظاهرا عند اغلب الروايات العربية الحديثة ، كالسنعوسي وابرهيم نصر الله وغيرهما. وخارج الرواية العربية نجد استخداما مكثفا للحكمة لدى كويلو في كل رواياته اما كونديرا فقد قفز من الحكمة المصاغة في جملة قصيرة الى طرح فقرات كاملة من التحليلات الفلسفية. اما الاتجاه الاسلوبي الاخير فهو عدم الاهتمام بتاتا لا بالبلاغة ولا حتى بالتصريح بالحكمة داخل النص ، بل يكون النص مجرد اقصوصة مفتوحة على تأويلات تتعدد بعدد القراء واسقفهم المعرفية وقدراتهم النقدية. وهذا الاتجاه يمثله وبدون منازع ملك الرواية كافكا ، ان كافكا لا يهتم سوى بحكي قصة ، انه يجرف القارئ معه في تداعيات السرد القصصي شديد التجريد ، ويمكننا ملاحظة ذلك في كل رواياته سواء المحاكمة او المسخ او مستعمرة العقاب او خلافه. كافكا يحكي قصة ؛ قصة قد تبدو كابوسية جدا ، الانمساخ لحشرة ، الاتهام بجريمة ، آلة تعذيب معقدة.. ويتداعى الكابوس حتى نهايته التي تنفتح بدلا عن ان تنغلق لتختم القصة. ربما نلاحظ ان اهتمام كافكا بالقصة نفسها ، هو ما يتيح لنا ان نسمي رواياته بروايات محضة ؛ حيث يختفي الكاتب تماما وراء حبكة غرائبية متسارعة. في حين ان اهتمام الروائيين الاخرين بالحكمة والتي تعكس في الواقع رغبة الكاتب في ان يظل مستصحبا ذاته داخل النص -أيا كان الدافع لذلك- تؤدي الى هشاشة القصة نفسها لحساب الحكمة. ما اعتقد انه مؤسف هو ان اغلب المحكمين في اي منافسة روائية يميلون الى تقييم العمل الروائي من هذه الزاوية الأخيرة ، وهكذا تحولت المسابقات الروائية الى معايير يمكن لأي كاتب -متى ما التزم بها - حصل على قبول لجان التحكيم. وهكذا صارت هناك روايات مصنوعة لهذا الغرض ، فهي رغم انها لا تتمتع بأي تميز قصصي الا انها تحتوي على ما يقنع لجان التحكيم بأنها استوفت معيار العمل الأدبي الجاد. فلننظر مثلا الى ساق المامبو كمثال او حرب الكلب الثانية ، سنجد ان الكاتب أسس كتابته لا على التحرر والانفتاح الروائي بل على امكانية اقناع لجان التحكيم باستيفاء شروطهم المسبقة. وهكذا صار هناك صيادو الجوائز ، وصيادو الشهرة. مع ذلك فلا يعني هذا ان هناك معيارا يتفوق على آخر على نحو تعسفي فلكل قارئ رؤيته الخاصة لما هو جيد وما هو مبتذل. فالتذوق الفني -على ما احسب- شخصي جدا ولا يجيز لنا ذلك ان نعمم احكامنا الخاصة. كنت قد علقت سابقا على مقال جيمس رايسون بمجلة التايمز والذي ترجمته الى العربية الاستاذة عزة بعنوان النزعة الفلسفية للرواية ، وهو تساؤل يندرج في اطار نزعة نحو التفلسف داخل الرواية. كانت وجهة نظري هي ان التفلسف عملية مزمنة وتحتل كل جوانب انشطتنا الانسانية ، وبالتالي لا يمكننا ان نضع حدودا للتفلسف الا على نحو تحكمي جدا. وان المهارة الحقيقية تكمن في الدمج بين القصة كفلسفة في حد ذاتها؛ بدلا عن طرح الفلسفة بشكل فج وعار داخل القصة... حيث نتساءل عن رمزية الجبالي كجد قاسي في اولاد حارتنا ، او الحكم بالاعدام على ك في المحاكمة ، او انسحاق سيرة كريجوري بوفاته في المسخ..الخ.. يمكن للقصة ان تمنحنا فلسفة صامتة ، وهذا في رأي - شديد الخصوصية- هو قمة الابداع الروائي. ربما نلاحظ ذلك بشكل اوضح في القصة القصيرة التي لا تحتمل اي بث فلسفي محض داخلها كقصة المعطف او الرجل الذي عطس .. ، فالقصة القصيرة هي تكثيف بنيوي لحبكة ما ؛ غالبا ما تنتهي نهاية غير متوقعة ، ولكن هذه النهاية تجبرنا على العودة الى النص مرارا وتكرارا لفهم ما بين السطور والقيام بعمليات تأويل متعددة لها. في حين تتميز الرواية بمساحة زمنية اوسع ، وهذا ما يسمح بالكثير مما لا تسمح به القصة القصيرة ، فايقاع الرواية بشكل عام بطيء ، ولذلك يحتاج الروائي الى مخيلة خصبة قد تدر لنا بشكل مقصود او غير مقصود عمقا فلسفيا ما على نحو مستمر. لاحظ ان نصوص ديستوفسكي مثلا منجرفة نحو التحليل النفسي ، وهيرمان هيسة - وعلى وجه الخصوص في مقدمة لعبة الكريات الزجاجية- استغرق اكثر من صفحة لتحليل صحافة التسلية ، وان كونديرا مثلا يستهلك فقرات طويلة في وصف فلسفي لا يمكن تصنيفه بكونه اكاديميا ام فوضويا. انني كقارئ عادي ولست ناقدا اكاديميا ، اصاب بفقدان تسلسل حبكة القصة ، بالاضافة الى ذلك فإننا كقراء عاديين نادرا ما نجادل هذه الاطروحات الفلسفية عندما نقرأ النص الروائي ، وفي الغالب الاعم ينزع القراء بشكل عام الى تجاوزها حتى بدون محاولة فهمها ، وهكذا يمارس القارئ العادي تشذيبا للرواية ويعيدها الى كونها فن خالص اثناء القراءة بعمليات قص واع او غير واع لزوائد لا داعي لها. في الواقع عملية القص هذه هي ما يجب ان يقوم بها الكاتب نفسه على نحو مستمر ، حتى لا تتحول الرواية الى كتاب اكاديمي ؛ وربما نلاحظ هذه الضرورة في اعمال كتاب كبار مثل امبرتو ايكو في اسم الوردة حين حول القصة في صفحات كثيرة كاملة الى كتاب تأريخي. ومع ذلك فإنني اعود وأقول بأن هذا كله ليس حكما مقدسا ولا مسطرة يجب ان تخضع لها الكتابة الروائية ، لأن الادب عموما هو تحرر ومحاولات دؤوبة نحو الانفلات من الاشتراطات الثقافية والبرادايمات المعاصرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى