عبدالرحمن هاشم - الضوء الأخضر.. قصة قصيرة

صفير ريح صرصر عاتية وزوابع أودية مقفرة ماحقة ، لا تتراءي سوي شجيرات هاربة نحوه محيط من الرمال المتوهجة أو تلك المغارات الموحشة هناك حيث تقيل الشمس ويبيت ظلام الصحراء القاتم، حيث مساقط الشهب و الأفلاك.
كل شىء يحي بالموت والفناء والمحق والخراب ...إلا ذلك الجمل الذي يقتات على الحصى ويشرب من مستنقعات السراب والمحمل بتراث تلك الأمة الذاوية بمحراب ذاتها والذائدة بصحرائها حد الهوس و التماهى،..

لا شىء يحطم صمت وعصف تلك اللوحة السريالية القاسية غير وقع أخفاف هجن قافلة إبراهيم أغ عباس وهي تتلقف في خطوها ظل المسافات الزائل ورمقها الأخير تتحدى مفازات الصحراء المميتة ومسالكها الوعرة بحكمة وحنكة ذلك الشاب الثلاثني ذو القامة الفارعة والملامح المهيبة ورباطة جأش رجاله الأشداء وهم يتمنطقون سيوفهم و يتأبطون بنادقهم يضعون على رؤوسهم عمائم سوداء كبيرة تترك على جلودهم زرقة عرفوا بها.
فرجال الطوارق لا يكشفون عن وجوههم إلا في حالات استثنائية يصاحبون وقع أخفاف جمالهم الخمس مائة وهي تحرك أديم الأرض بأهازيج عذبة وجميلة من لغتهم {التماشق} الممجدة للرجال الزرق الذين تقع على عاتقهم مسؤولية تزويد مدن الطوارق المترامية في بحر الصحراء الإفريقية الكبرى اللجب بالمؤن والحاجيات الضرورية لبقاء شعب أختار ذلك المنكب البرزخي المنقطع عن العالم.

عند مدخل كل قرية أو مدينة تستقبل قافلة إبراهيم آغ عباس بزغاريد النسوة وطلقات من بنادق الرجال إحتفاء بقدوم من يعتبرهم شعب الطوارق سفن الحياة العائمة في وجه رياح هوجاء ... وربما لم يكن ذلك الإحتفاء الا رقصة مع لحظة فرح عابرة وبعد أن يقوم إبراهيم آغ عباس بإيصال كل البضائع التي يحملها الى المدن يبدأ رحلة العودة إلى الديار فمع رحابة الأفق وتوثب الصحراء وهي تبسط كفها ناعمة في جسارة وسفور تبقى نظرات إبراهيم آغ عباس معلقة بقريته الصغيرة النائمة بين جبال" آفوكاس" ترتسم أمام ناظريه كاشفة له عن شوق وحنين ومرددة على مسامعه سينفونية البقاء والمتاهة..
بعد ليال من السفر عبر دروب الصحراء تتوقف القافلة على مشارف القرية لتشرف الرحلة على نهايتها وتدخل القرية في عرس مفتوح إحتفالا بالأبطال القادمين كما جرت العادة ..
إبراهيم سعيد بإكمال المهمة بسلام واستطاعته توسيع تجارة والده آغ عباس الذي أقعده المرض .. سعيد بأنه سيحتضن أخير والدته وأخواته الثلاثة وسينظر إليه والده وكل أهل القرية بفخر ... سعيد بأن موعد زفافه أصبح قريبا لكن رياح القدر جرت عكس أمانيه فقد كانت أزقة القرية خالية من مظاهر الفرح فقد كانت تمسح دمعها نائمة بكف مصاب جلل كانت المفاجأ المحزنة للقادمين نبأ وفات آغ عباس .

حاول إبراهيم رغم فداحة الخطب أن يداري ما يعتريه من مشاعر الحزن والوجع وأن يحافظ على تجلده ورباطة جأشه و أن يظهر قدرة على قيادة القبيلة بعد أبيه بعد أيام انجلت سحابة الحزن تلك وبدأ الجميع يستعدون لبداية موسم تجاري جديد لكن والدة إبراهيم استدعته على عجل وبعد حضوره اتضح من خلال تلعثمها وملامح وجهها أن تلك المرأة الحديدية تخفي أمرا عظيما وبصعوبة بالغة بدأت تحدثه عن ذلك السر الذي يعود إلى سنة 1975م عن ذلك الحدث الذي وقع على بعد 60 كلم شرق مدينة النعمة في موريتانيا عن ذالك الطفل الذى وجده اغ عباس ورفقيه غالي والأنصاري وهو يحبو وفي رجله اليمنى حبل صغير موصول بإبريق فضي لم يكن ذلك الطفل الذي تتحدث عنه {كيه} سوى إبراهيم أخرجت الإبريق من حقيبة جلدية وهي تغرق في موجة من البكاء تقول له أنه لولا واجبها الأخلاقي ما كشفت له عن ذلك السر لأنها تشعر أنه ابنها تحول إبراهيم إلى تمثال متجمد يحدق بمن كان يدعوها أمي طيلة تلك السنين لم يخرجه من تلك الحالة غير دموع قل أن تنحدر، نزع عمامته ووضعها أمامها وانتزع سيفه وقلادته وهو يهم بالوقوف وصوت "كيه" المتكسر الضعيف وقد خنقته العبرات يحاول أن يصل مسامع إبراهيم المسدودة و هي تردد أرجوك ابق أرجوك غير أن كلماتها ذهبت أدراج الرياح .

انتشر الخبر في الصحراء انتشار النار في الهشيم غالى والأنصاري زملاء الراحل وقد بلغ الغضب منهما مبلغا يوبخان "كيه" ويطلبان من إبراهيم البقاء وتنصيبه ملكا لكن إبراهيم قال أن امرأة أخرى تحجب نبضات قلبها المفجوع بفقد ابنها أرجاء السماء وأنه لن يستريح إلا في أحضان أمه رجت القرية رجا فخسارة إبراهيم كانت أعظم من فقدي آغ عباس أصر إبراهيم على أن يغادر القرية راجلا تجمهر كل أهل القرية خارجها ينظرون إلى فارسهم وابنهم الذي كرس حياته لخدمتهم يخرج جريحا حافية القدمين ومن بين تلك الجموع .خطيبته "عيشه " وقد بدت كريشة تتقاذفها رياح عاصفة وهي تائهة مستسلمة في بحر لجي من الشهقات المحبوسة والقبلات الذاوية في محراب حب عفيف لم تدنسه الأيام ولا السنون , بشعور الملك المفارق لعرشه توارى إبراهيم عن الأنظار شيء فشيء وأمام ناظريه استطال الأفق اللازوردي وأشعة الشمس تخترق كبد الصحراء وكأنها تريد أن تخبر الفتى أنه ليس كل ما يلمع ذهبا وأنه ليس إلا سرا من أسرار الصحراء وحكاية هوية تبحث عن مرفأ ترسوا عليه سفنها التي طال ابحارها .

وعرة هي الدروب التي تخطف ذلك المسافر المتفرد بصبابته وحزنه وبعد قطعه لمسافات شاسعة بدأ العطش يعصف بذلك الجسد الكسير كان آخر شيء يبصره الرمال الذهبية الممتدة والسماء الزرقاء المخيمة لم يفق إبراهيم إلا وقطرات من الماء تحنو على شفاهه برفق فتح عينيه بصعوبة فلم تكن تلك القطرات إلا نسمة حياة جديدة كتبها القدر على يد ذلك الشيخ الذي عرف بوهاد الصحراء الكبرى إنه الشيخ عثمان المنقطع للعبادة بكهف صخري بعد أن أفاق إبراهيم أخذ يسأل الشيخ الذي قال له بأن الروح ليست من أهل الأرض وأنها حبيسة بين أسوار هذا الجسد الشيطاني الأعمى والذي لا سبيل له إلى غرائزه وملذاته بدون الروح العالمة لأنها قادمة من عالم المزن والسحاب عالم النقاء والطهارة ولا سبيل إلى تحريرها إلا بعبادة خالقها وترويض هذا الجسد المتجبر وأضاف : أنت يا ولدي ماء يبحث عن ماء بقرب ماء ولا يستطع الحياة بدون الماء فأمضي إلى سبيلك تحت كف لن تنسى عيونا قهرها الفراق .

بعد أن أخذ إبراهيم قسطا من الراحة واصل طريقه نحو المكان الذي أخبرته به "كيه" هناك تنفس هواء لم يسبق له أن تنفسه كان يعب من رحيق المكان وكأنه يطير كالفراشات حول الغدير و كأنه يعانق ظلال أشخاص كانوا يملؤن المكان ذات يوم متسائلا في أعماقه من أكون ما هو اسمي الحقيقي؟ هل سأجد أهلي أم أنني سأرى في كل امرأة موريتانية أما لي أو أختا أو عمة أو خالة ألا يكفي انتمائي لهذا المكان ؟؟

في كل قرية أو مدينة يمر بها إبراهيم يعلن عن حكايته تفاجأ إبراهيم في أول قرية أن كثيرون تحمل قصصهم نفس العنوان أم تبحث عن ابنها أو ابن يبحث عن أهله لكن لم يتعرف احد على إبراهيم واصل تنقله في أرجاء موريتانيا فقد أحس بأنه ينتمي إلى هذه الأرض وأن كل شيء فيها يناديه ويشبهه استعاد ذاته رغم حزنه مرح يصافح الجميع عله يصادف أخ أو والدا وبعد ثلاث سنوات وضع عصا الترحال في مدينة روصو النائمة بخدر نهر صنهاجة وهناك بعد أن ذاع خبره حضر الكثير من الناس ممن يبحثون عن أبناء لهم فقدوهم ومن بين تلك الجموع امرأة واحدة برفقة ابنها كانت عيونها تفيض بدمع و هي تحمل علامات لابنها و الذي رغم السنوات ظل حاضرا بكل حركاتها وسكناتها يقض مضجعها كل ما حركت رياح الشرق له ذكرى جلست بين يديه وهي تقول: " لإبني علامة يرتدى عليها ثيابه على فخذه يرتسم مفتاح صغير بجانبه الأيمن وهي علامة تركها عليه جده في بادية "المسيله" كما أنه ضاع وبرجله الأيمن حبل صغير موصول بإبريق فضي لازلت أذكره. وعند ما رجعنا إلى مكان سقوطه وجدنا آثار ثلاث جمال." لم يتمالك إبراهيم نفسه وهو يستمع من أمه لوصفه الدقيق والعلامة التي لا يعلم أحد بوجودها، عبر أجنحة الشوق النازف يتملكه ذلك الشعور الغريب وجوه كثيرة لا تفارق خياله أحس بان جزء منه يستيقظ ليكمل نصفه الضائع لم يكن للعالم على رحابته أن يحجب الصحراء التي أحبها احتضن والدته وهو يبكي طفولته الهاربة ويقول أمي يقولها بنقاء الأرض و طهر السماء وهي تضمه إليها بقوة وكأنها تخاف أن تفقده مجددا تبكي في حرقة وهي تهمس أبني أحمد كنت اعرف أنك ستأتي كان أخوه الأصغر مبهورا فطيلة تلك الأعوام لم يكن مصدقا أخذوه إلى البيت وهناك التقى بأخيه الأصغر محمد و أخواته: لاله – ومريم- كان يعانق الجميع اقترب وهو يتلمس وجه شيخ بصورة معلقة بجدار المنزل وصوت والدته يأته من الخلف:، إنه والدك" مولاي إدريس" وفجأة سقطت الصورة فتناثر الزجاج محدثا صوتا قويا ممزوجا بأصوات منبهات السيارات المزدحمة عند ملتقى الطرق وهي تنبهه بضوء الأخضر بعد أن سرح بطفل صغير ينام بجانب الرصيف ابتسم و هو يخرج من ذلك الكابوس العابر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى