هيثم سرحان - الهداية والغواية.. حضور المرأة في البيت الحرام

يتمتع البيت الحرام بحضورٍ ثقافيٍّ آخر يتجاوز الصراع، والسلطة، والعبادة والمناسك، وهو حضور مباهج الحياة، المتجسّدة، في أبرز وجوهها، في حضور المرأة الذي يمنح المكان هذه المعاني إذ تحضر المرأة، في البيت الحرام، بوصفها عاملَ إغواءٍ وفتنةٍ وترويحٍ عن النفس، ورمزاً يُبدد الشعور بالتجهُّم والقلق. ولعل ما يرويه الإمام الفاكهيّ الـمكيّ تأكيدٌ لهذا التصوّر. إذ يقول:
"وقد زعم بعض أهل مكة أنهم كانوا فيما مضى إذا بلغت الجارية ما تبلغ النساء ألبَسَها أهلُها أحسنَ ما يقدرون عليه من الثياب، وجعلوا عليها حُلياً إنْ كان لهم، ثم أدخلوها المسجد الحرام مكشوفة الوجه بارزته، حتى تطوف بالبيت، والناس ينظرون إليها ويبدونها أبصارهم، فيقولون من هذه ؟ فيقال: فلانة بنت فلان، إنْ كانت حرة، ومولّدة آل فلان

إنْ كانت مولدة، قد بلغت أن تتخدَّر، وقد أراد أهلها أن يخدّروها، وكان الناس إذ ذاك أهل دين وأمانة، ليسوا على ما هم عليه من المذاهب المكروهة، فإذا قضت طوافها خرجت كذلك ينظر الناس إليها لكي يُرْغَبَ في نكاحها إنْ كانت حرة، وشرائها إنْ كانت مولدة مملوكة، فإذا عادت إلى منزلها خُدِّرت في خِدرها، فلم يرها أحد حتى تخرج إلى زوجها، وكذلك كانوا في الجواري الإماء يفعلون، يُلبِسونها ثيابها وحليها، ويطوفون بها مُسْفَرةً حول البيت ليُشهروا أمرها، ويُرغّبوا الناس في شرائها، فيأتي الناسُ فينظرون ويشترون" (الإمام الفاكهي المكي -من علماء القرن الثالث الهجري-، أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، تحقيق: عبد الملك بن دهيش، دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1998، ص317).
إنَّ المكان، بهذه الطريقة، قادرٌ على إضفاء قيمة رمزية على المرأة، التي يكون حضورها، في المكان، مُقدّمةً لنيلها رغائبها وشروطها. فالمكان،هنا، يتجاوز قيمته الدينية ليغدو سياقاً ثقافياً يقوم الإنسان باستثمار أبعاده وحضوره في الوعي الجمعي ليحقق، من خلاله، قيماً إضافية، وهنا يتحقق مفهوم تعدد مداليل المكان (البيت الحرام)، أي عن طريق توليد القيم الثقافية التي تصبح مجالاً لحركة الدال.
وحضور المرأة، في البيت الحرام، لا يمنحُها قداسة ومباركة فحسب، وإنما يحقق لها شرطاً ثقافياً خاصاً، وهو المرتبط بتداولها في المكان، وهي فرصة نادرة الحدوث والوقوع مما يجعلها واعيةً بهذه الفرصة، ومطالبةً باغتنامها[1]. إذ إنَّ تلاهج الناس بأسماء النساء وصفاتهنَّ وأسئلتهنّ عنهنَّ أمرٌ جديرٌ بالتأويل؛ بمعنى أنَّ مقامهم الديني يَحْتِمُ عليهم أنْ يوجِّهوا سرائرهم إلى الله بالعبادة وطلب المغفرة، وأداءَ المناسك على نحو دقيق، فلا تَشْغلهم، في ممارستهم، شواغلُ أخرى. في حين تكشف ممارسة الإنسان المسلم الثقافية أنَّ النظر للنساء، في موسم الحج، هو تحويلٌ للنظر الذي ينبغي أن يظل متَّجهاً للكعبة وللذات التي تناجي ربها. بمعنى أنّ الطوافَ يقتضي رقابة داخلية صارمة حتى لا تنصرف النفس لوساوس ورغائبَ تصرفُ المرء عن نُسكه، مما يؤدّي إلى ارتكاب المخالفات التي تطعنُ في صحة النُّسك. ويقع ضمن هذه المخالفات ذكرُ النساء والسؤال عنهن، إذْ إنّ هذه المخالفة لا تعني إلاَّ توقف اللسان عن ذكر الله والعقل عن التعلق به، ولم يسلم من هذه الحالة الملتزمون دينياً فكان بعضهم يفقد السيطرة على رقيبه الداخلي ويمضي لإشباع حواسه من المرأة.
لقد كان النظرُ إلى "حُرَمِ المسلمين" يستوجب العقاب لأنَّ المقامَ يخصَّ الله والتقرُّب إليه. هذا ما يمكن استنتاجه من القصة التي جرت بين عمر بن الخطاب والإمام علي (رضي الله عنهما) ونصها:
" قال ابن الأعرابي: كان عمر بن الخطاب يطوفُ بالبيت، فقال له رجلٌ: يا أمير المؤمنين، إنَّ علياً لطمني، فوقف عمر إلى أنْ وافى عليٌّ فقال له عمر: يا أبا الحسن، أ لطمتَ هذا؟ قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال: لأنني رأيتُه نظرَ إلى حُرَمِ المسلمين في الطّواف، فقال: أحسنت، ثمّ أقبل على الملطوم فقال: وقَعَتْ عليك عينٌ من عيون الله.
قال ثعلب: سألتُ ابنَ الأعرابي عن هذا فقال: خاصة من خواص الله"[2].
ولم يكن الرجل وحده في عملية اغتنام موسم الحج لإقامة العلاقات مع المرأة فقد كانت المرأة شريكة مهمة في هذا الخيار، شأنها شأن الرجل، تغتنم فرصة الطواف لإقامة العلاقة مع الرجال وإغوائهم. أي أنَّ ممارسة المرأة الثقافية، أثناء الطواف، تكشف عن وعيها بالقيم التي تُتيحها طقوس العبادة الحاصلة في مناسك الحج، فتستثمر تواجدَ الحجاج الكثيف للإيقاع بالرجال وفتنهم فيصبح المكان (البيت الحرام) مجالاً حيوياً للإغواء. وفي هذا السياق يورد الإمام الفاكهي، بسندٍ متصلٍ، ما نصه:
" ... بينما أبو حازم يطوف بالبيت، إذ مرّت به امرأة ذات حُسن وجمال، مسفرة عن وجهها، وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله إنَّ هذا موضعُ رغبةٍ، فلو استترتِ فلم تفتني الرّجال، فقالت: يا أبا الحازم أنا من اللائي قال فيهن العَرْجي:
مِنْ اللائي لم يَحْجُجْنَ يَبْغِيَنَ حِسبَةً ولكنْ لِيَقْتُلنَ التَّــقيَّ الـمُغـفَّلا[3]
فقال لها أبو حازم: صان الله هذا الوجه عن النار. فقيل له: أَفتنَتْكَ يا أبا حازم؟ فقال: لا، ولكنَّ الحُسنَ مرحومٌ"[4].
فالإنسان يمتلك القدرة على التحايل على شروط المكان ومعطياته الرمزية، الأمر الذي يعني أنَّ للبيت الحرام بُعدين: بعداً مركزياً تتجلَّى فيه شعائر العبادة ودوافعها، وأهدافها، وبعداً هامشياً يحفل بتفاصيل الإنسان ورغائبه، وشروط إنسانيته. بمعنى أنَّ البيت الحرام، بوصفه مكاناً مُقدَّساً، ظلَّ يسعى إلى إقامة توازن بين غايتين، الغاية الدينية، والغاية الدنيوية، إذ إنَّه لا يمكن الفصل بينهما أو إقصاء إحداهما، على حساب الأخرى، فالغاية الدينية تضمن للإنسان سِلماً مع الله، في حين تُتيح الغاية الدنيوية تحقيق الشروط الإنسانية حيث يُصبح الإنسان متصالحاً مع نفسه ونوازعه.
وضمن هذا السياق يمكن إدراك تجربة عمر بن أبي ربيعة المتعلقة بغزله بالنساء عند الطواف ،فهي تمثِّلُ شاهداً بارزاً لا يُمكـنُ إغفاله، فقد صـورت أشعاره قضية التغزُّل بالنساء. الأمر الذي يعني أنّ الأمر يتجاوز البـعد النرجسي الذي أجمع النقاد عليه، حول تجربة ابن أبي ربيعة. فغزل ابن أبي ربيعة يندرج في إطار ممارسة ثقافية راسـخة كان الناس يعيشونها ويُعاينونها. أما أبيات ابن أبي ربيعة الدالة فهي:
أبصرتـها ليـلةً ونسوتَهـا** يمشينَ بين المقام والـحجرِ
بيضاً حِساناً خرائداً قـُطُفِاً** يمشين هوناً كمشية البقـر
قد فُزنَ بالحُسنِ والجمالِ معاً** وفزنَ رِســـْلاً بالدَّلِّ والخَفَرِ
يـُنصتنَ يوماً لها إذا نطقــت** كـيما يُفضِّلنَها عـلى البشرِ
قالت لترب لها تُحــدِّثُها** لَتـُفْسِدِنَّ الطـــوافَ في عُمـرِ
قومي تصدَّي له لِيُبْصــِرَنا** ثُمَّ اغمــُزيه يا أختُ في خـفرِ
قالتْ لـها قد غمــزْتُه فأبى*** ثُمَّ اسـبطرَّتْ تسعى على أثري
ويروي الفاكهي حكاية حدثت مع أبي عمرو بن العلاء أحد قرَّاء البصرة ونحاتها المشهورين تكشف عن بعض التجارب التي كانت تجري في المسجد الحرام فيقول:
" حدَّثنا أحمد بن حميد الأنصاري، عن الأصمعي، قال: حدّثنا أبو عمرو بن العلاء، قال: بينما أنا أطوف ذات ليلة بالبيت إذا أنا بجُوَيْرَة [5] متعلقةٍ بأستار الكعبة، وهي تقول يا رب أما لك عقوبة ولا أدب إلاَّ بالنار، حتى قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فانصرفتْ فلحقتُها حتى خرجت من باب المسجد، فتعلقتُ بثوبها، فقلت لها: يا هذه، فالتفتت إليَّ بوجه لقد والله فضح عندي حُسْنَ وجهها ضوءُ للقمر، ولقد كانت في عيني أحسن من القمر. فقلتُ لها: يا هذه لو عذَّب بغير النار لكان ماذا ؟ قالت: يا عمّاه لو عذَّب بغير النار لقضينا أوطاراً" [6].


[1] يدلُّ ذلك على وعي العرب بحاجاتهم الإنسانية التي لم تَحُل قداسة المكان، ومناسك العبادة من إقصائها. فقد كانت هذه المواقف تنمُّ على القدرة في إقامة توازن بين الحاجات الإنسانية، وبين الحاجات الدينية، لذلك لم تُعارض الثقافة العربية الحب في الحرم. انظر: عبد العزيز علّون، دراسة جمالية في الفكر الأسطوري العربي، مجلة المعرفة، تُصدرُها وزارة الثقافة السورية، دمشق، ع197، ص42-44.
[2] التوحيدي، البصائر والذخائر، م2، ج3،ط4، تحقيق: وداد القاضي، دار صادر، بيروت،1999، ص69.
[3] تجدرُ الإشارة إلى ملحظٍ دلالي مهم، هو أنَّ الثقافة العربية قد أسندت للمرأة وظيفة القتل، فهي قاتلةُ الرجال بامتياز، وهذه الدلالات مُثبتة في ديوان العرب (الشعر)، بوصفه النموذج الثقافي الأول الذي يتضمَّن مفاهيم العرب ومُلخص خبراتهم الثقافية، يُشار، هنا، إلى قول جميل بثينة:
ألا تتقين الله في قتل عاشـــق** له كَـبِدٌ حرَّى علــيك تقـطَّـعُ
وقول جرير:
إنّ العيون التي في طرفها حورٌ **قتلننا ثُمّ لم يحيــينَ قـتـلانا
يصرعنَ ذا اللب حتى لاحِراك به** وهنَّ أضعــفُ خلقِ الله أركانا
وقول أحد الشعراء:
يُخبِّئنَ أطراف البنان من التُّقى** ويقتـــــلنَ بالألحاظ مقـتدرات
[4]أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، م1/ج1، ص314.
[5] يدلُّ السياق على أنها تصغير جارية، وصوابها: جُوَيْرِيَة. وقد وردت في الصفحة المقابلة لهذا النص جُوَيرية، مما يعني أنّ هناك سقطاً في ياء التصغير. تصويب: د. نهاد الموسى.
[6] أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، م1/ج1، ص319.



.
صورة مفقودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى