الخمرة الجاحظ - رسالة الشارب والمشروب

1- موضوع الكتاب
فصل منه: سألت- أكرم الله وجهك، وأدام رشدك، ولطاعته توفيقك، حتّى تبلغ من مصالح دينك ودنياك منازل ذوي الألباب، ودرجات أهل الثّواب- أن أكتب لك صفات الشّارب والمشروب وما فيهما من المدح والعيوب، وأن أميّز لك بين الأنبذة والخمر، وأن أقفك على حدّ السّكر، وان أعرّفك السّبب الذي يرغّب في شرب الأنبذة وما فيها من اجتلاب المنفعة، وما يكره من نبيذ الأوعية.
وقلت: وما فرق ما بين الجرّ والسّقاء، والمزفّت والحنتم والدّبّاء، وما القول في الممتلّ والمكسوب، وما فرق ما بين النّقيع والدّاذيّ، وما المطبوخ والباذق، وما الغربيّ والمروّق، وما الذي يحلّ من الطّبيخ، وما القول في شرب الفضيخ، وهل يكره نبيذ العكر، وما القول في عتيق السّكر، وأنبذة الجرار، وما يعمل من السكّر، ولم كره النّقير والمقيّر.
وسألت عن نبيذ العسل والعرطبات وعن رزين سوق الأهواز، وعن نبيذ أبي يوسف وجمهور، والمعلّق والمسحوم. والحلو والتّرش شيرين ونبيذ الكشمش والتّين، ولم كره الجلوس على البواطي والرّياحين.
وقلت: وما نصيب الشّيطان، وما حاصل الإنسان؟
وسألت عمّن شرب الأنبذة أو كرهها من الأوائل، وما جرى بينهم فيها من الأجوبة والمسائل، وما كانوا عليه فيها من الآراء، وتشبّثوا فيها من الأهواء، ولأيّ سبب تضادّت فيها الآثار، واختلفت فيها الأخبار.

[2- منافع النبيذ]
وسألت أن أقصد فى ذلك إلى الإيجاز والاختصار، وحذف الإكثار.
وقلت: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنيّة الممدوحة، فما تقول فيما حسن من الأنبذة صفاه، وبعد مداه، واشتدّت قواه، وعتق حتّى جاد، وعاد بعد قدم الكون صافي اللّون، هل يحلّ إليه الاجتماع، وفيه الاكتراع، إذ كان يهضم الطّعام ويوطّىء المنام. وهو في لطائف الجسم سار، وفي خفيّات العروق جار، ولا يضرّ معه برغوث ولا يعوض ولا جرجس عضوض.
وقلت: وكيف يحلّ لك ترك شربه إذا كان لك موافقا، ولجسمك ملائما. ولم لا فلت: إنّ تارك شربه كتارك العلاج من أدوإ الأدواء وإنّه كالمعين على نفسه إذا ترك شربه أفحش الدّاء. وأنت تعلم أنّك إذا شربته عدّلت به طبيعتك، وأصلحت به صفار جسمك، وأظهرت به حمرة لونك، فاستبدلت به من السّقم صحّة، ومن حلول العجز قوّة، ومن الكسل نشاطا، وإلى اللّذّة انبساطا، ومن الغمّ فرجا، ومن الجمود تحرّكا، ومن الوحشة أنسا، وهو في الخلوة خير مسامر، وعند الحاجة خير ناصر. يترك الضّعيف وهو مثل أسد العرين يلان له ولا يلين.
وقلت: الجيّد من الأنبذة يصفّي الذّهن ويقوّي الرّكن، ويشدّ القلب والظّهر، ويمنع الضّيم والقهر، ويشحذ المعدة، ويهيّج للطعام الشّهوة، ويقطع عن إكثار الماء الذي منه جلّ الأدواء، ويحدر رطوبة الرّأس، ويهيّج العطاس، ويشدّ البضعة، ويزيد في النّطفة، وينفي القرقرة والرّياح، ويبعث الجود والسّماح، ويمنع الطّحال من العظم، والمعدة من التّخم، ويحدر المرّة والبلغم، ويلطّف دم العروق ويجريه، ويرقّه ويصفّيه، ويبسط الآمال، وينعم البال، ويغشّي الغلظ في الرّثة، ويصفّي البشرة ويترك اللّون كالعصفر، ويحدر أذى الرّأس في المنخر، ويموّه الوجه ويسخّن الكلية، ويلذّ النّوم ويحلّل التّخم، ويذهب بالإعياء، ويغذو لطيف الغداء، ويطيّب الأنفاس، ويطرد الوسواس، ويطرب النّفس، ويؤنس من الوحشة، ويسكّن الرّوعة، ويذهب الحشمة، ويقذف فضول الصّلب بالإنشاط للجماع، وفصول المعدة بالهراع، ويشجّع المرتاع ويزهي الذّليل، ويكثّر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسلّي الحزن، ويجمع الذّهن، وينفي الهمّ، ويطرد الغمّ، ويكشف عن قناع الحزم، ويولّد في الحليم الحلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويحثّ على الصّبر، ويصحّح من الفكر، ويرجّي القانط، ويرضي الساخط، ويغني عن الجليس، ويقوم مقام الأنيس وحتّى إن عزّ لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، وينقّي الصّدر من الخصومة، ويزيد في المساغ، وسخونة الدماغ، وينشّط الباه حتّى لا يزيّف شيئا يراه، وتقبله جميع الطّبائع، ويمتزج به صنوف البدائع، من اللّذّة والسّرور، والنّضرة والحبور. وحتّى سمّي شربه قصفا، وسمى فقده خسفا. وإن شرب منه الصّرف بغير مزاج، تحلّل بغير علاج. ويكفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسّموم، ويفتح الذّهن، ويمنع الغبن، ويلقّن الجواب، ولا يكيد منه العتاب، به تمام اللذّات، وكمال المروءات. ليس لشيء كحلاوته في النّفوس، وكسطوته في الجباه والرّوس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يحمّر الألوان، ويرطّب الأبدان، ويخلع عن الطّرب الأرسان.

[3- مساوىء النبيذ]
وقلت: ومع كل ذلك فهو يلجلج اللسان، ويكثر الهذيان، ويظهر الفضول والأخلاط، ويناوب الكسل بعد النّشاط. فأمّا إذا تبيّن في الرأس الميلان، واختلف عند المشي الرجلان، وأكثر الإخفاق، والتنخّع والبصاق، واشتملت عليه الغفلة، وجاءت الزّلّة بعد الزّلّة ولا سواء إن دسع بطعامه، أو سال على الصّدر لعابه، وصار في حدّ المخرفين، لا يفهم ولا يبين، فتلك دلالات النّكر، وظهور علامات السّكر، ينسي الذكر، ويورث الفكر، ويهتك السّتر، ويسقط من الجدار، ويهوّر في الآبار، ويغرق في الأنهار، ويصرف عن المعروف، ويعرّض للحتوف، ويحمل على الهفوة، ويؤكّد الغفلة، ويورث الصّباح أو الصّمات، ويصرع الفهم للسّبات فلغير معنى يضحك، ولغير سبب يمحك، ويحيد عن الإنصاف، وينقلب على الساكت الكافّ. ثم يظهر السّرائر، ويطلع على ما في الضمائر، من مكنون الأحقاد، وخفيّ الاعتقاد.
وقد يقلّ على السّكر المتاع، ويطول منه الأرق والصّداع، ثم يورث بالغدوات الخمار، ويختل سائر النّهار ويمنع من إقامة الصّلوات، وفهم الأوقات، ويعقب السّلّ، ويعقب في القلوب الغلّ، ويجفّف النّطفة، ويورث الرّعشة، ويولّد الصّفار، وضروب العلل في الإبصار، ويعقب الهزال، ويجحف بالمال ويجفّف الطبيعة ويقوّي الفاسد من المرّة ويذيل النفس، ويفسد مزاج الحسّ، ويحدث الفتور في القلب، ويبطىء عند الجماع الصّبّ، حتّى يحدث من أجله الفتق، الذي ليس له رتق، ويحمل على المظالم، وركوب المآثم، وتضييع الحقوق حتّى يقتل من غير علم، ويكفر من غير فهم.

[4- انواع النبيذ]
فصل منه: وقلت: ومن الحلو في المعد التّخم، وفي الأبدان الوخم، وللتّرش شيرين رياح كمثل رياح العدس، وحموضة تولّد في الأسنان الضّرس.
والسّكر فحسبك بفرط مرارته، وكسوف لونه، وبشاعة مذاقه، ونفار الطّبيعة عنه.
وأنواع ما يعالج من التّمور والحبوب فشربها الدّاء العضال.
وللمسجور، والبتى، وأشباهها كدورة ترسب في المعدة، وتولّد بين الجلدتين الحكّة. وأشباه هذا كثيرة تركت ذكرها، لأنّي لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليل ما يجلب المضرة.
ولكن ما تقول فيما يسرّك ولا يسوءك، وما إذا شربته تلقّته العروق فاتحة أفواهها كأفواه الفراخ، محسّنا للّون ملذّة للنّفس، يجثم على المعدة، ويرود في العروق، ويقصد إلى القلب فيولّد فيه اللّذّة، وفي المعدة الهضم، وهو غسولها ونضوحها، ويسرع إلى طاعة الكبد، ويفيض بالعجل إلى الطّحال، وينتفخ منه العروق، وتظهر حمرته بين الجلدتين، ويزيد في اللّون، ويولّد الشّجاعة والسّخاء، ويريح من اكتنان الضّغن، ويعفّي على تغيّر النّكهة، وينفي الذّفر، ويسرع إلى الجبهة، ويغني عن الصّلاء، ويمنع القرّ؟! وما تقول في نبيذ الزّبيب الحمصيّ والعسل الماذّي إذا تورّد لونه، وتقادم كونه، ورأيت حمرته في صفرته تلوح. تراه في الكأس لكأنّه بالشّمس ملتحف، شعاعه يضحك في الأكفّ؟
وما تقول في عصير الكرم إذا أجدت طبخه وأنعمت إنضاجه، وأحسن الدّنّ نتاجه، فإذا فضّ عن غضارة قد صار في لون البجاديّ في صفاء ياقوتة تلمع في الأكفّ لمع الدّنانير، ويضيء كالشّهاب المتّقد.
وما تقول في نبيذ عسل مصر، فإنّه يؤدّي إلى شاربه الصّحيح من طعم الزّعفران، لا يلبس الخلقان ولا يجود إلّا في جدد الدّنان، ولا يستخدم الأنجاس ولا يألف الأرجاس. وكذلك لا يزكو على علاج الجنب والحائض، ولا ينقض على شيء من الأجسام لونه حتّى لو غمس فيه قطن لخرج أبيض يققا. وحسبك به في رقّة الهواء، يكدّره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهزبر ذي الأشبال، المفترس للأقران، من عاقره عقره، ومن صارعه صرعه؟! وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياد إذ يعود صلبا من غير أن يسلّ سلافه، أو يماط عنه ثفله، حتّى يعود كلون العقيق، في رائحة المسك العتيق. أصلب الأنبذة عريكة، وأصلبها صلابة، وأشدّها خشونة. ثمّ لا يستعين بعسل ولا سكّر ولا دوشاب. وما ظنّك به وهو زبيب نقيع، لا يشتدّ ولا يجود إلّا بالضّرب الوجيع؟! وما تقول في الدّوشاب البستانيّ، سلالة الرّطب الجنيّ بالحبّ الرتيليّ، إذا أوجع ضربا، وأطيل حبسا، وأعطى صفوه ومنح رفده، وبذل ما عنده، فإذا كشف عنه قناع الطّين ظهر في لون الشّقر والكمت وسطع برائحة كالمسك. وإذا هجم على المعدة لانت له الطّبائع، وسلست له الأمعاء، وأيس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له اليبوسة، وأذعنت له بالطّاعة، وابتلّ به الجلد القحل، وارتحل عنه الباسور، وكفى شاربه الوخز.
فإذا شجّ بماء تلظّى ورمى بشرره، هل يحلّ أن يشعشع إذا سكن جأشه، وآب إليه حلمه.
وما تقول في المعتّق من أنبذة التّمر، فإنّك تنظر إليه وكأنّ النّيران تلمع من جوفه. قد ركد ركود الزلال حتّى لكأنّ شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فرند في وجه سيف. وله صفيحة مرآة مجلوّة تحكي الوجوه في الزّجاجة، حتّى يهم فيها الجلّاس؟! وما تقول في نبيذ الجزر، الذي منه تمتدّ النّطفة وتشتدّ النّقطة، يجلب الأحلام، ويركد في مخّ العظام؟! وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونه لون زمرّدة خضراء صافية، محكم الصّلابة، مفرط الحرارة، حديد السّورة، سريع الإفاقة عظيم المؤونة، قصير العمر، كثير العلل، جمّ البدوات تطمع الآفات فيه، وتسرع إليه؟! وما تقول في نبيذ التّين فإنّك تعلم أنّه مع حرارته ليّن العريكة، سلس الطّبيعة، عذب المذاق، سريع الإطلاق، مرهم للعروق، نضوح للكبد فتّاح للسّدد، غسّال للأمعاء، هيّاج للباه، أخّاذ للثّمن، جلّاب للمؤن، مع كسوف لون وقبح منظر؟! وما تقول في نبيذ السكّر الذي ليس مقدار المنفعة به على قدر المؤونة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنى معقول؟! وما تقول في المروّق والغربيّ والفضيح؟ ألذّ مشروبات في أزمانها وانفع مأخوذات في إبّانها. أقلّ شيء مؤونة، وأحسنه معونة، وأكثر شيء قنوعا، وأسرعه بلوغا، ضموزات عروفات للرجل ألوفات. ولها أراييح على الشاهسفرم كأذكى رائحة تشمّ، أقلّ المشروبات صداعا، وأشدّهن خداعا.
فصل منه: وكرهت أيضا تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليل، دون التأمّل والاعتبار بأنّ ظلام الشّكّ لا يجلوه إلّا مفتاح اليقين.

[5- الرد على اسئلة السائل]
قد فهمت- أسعدك الله تعالى بطاعته- جميع ما ذكرت من أنواع الأنبذة، وبديع صفاتها، والفصل بين جيّدها ورديّها، ونافعها وضارّها، وما سألت من الوقوف على حدودها. ولا زلت من عداد من يسأل ويبحث، ولا زلنا في عداد من يشرح ويفصح.

[6- هناك فرق بين الخمر والنبيذ]
اعلم- أكرمك الله- أنّك لو بحثت عن أحوال من يؤثر شرب الخمور على الأنبذة، لم تجد إلّا جاهلا مخذولا، أو حدثا مغرورا، أو خليعا ماجنا، أو رعاعا همجا؛ ومن إذا غدا بهيمة، وإذا راح نعامة، ليس عنده من المعرفة أكثر من انتحال القول بالجماعة؛ قد مزج له الصّحيح بالمحال، فهو مدين بتقليد الرّجال، يشعشع الرّاح، ويحرّم المباح، فمتى عذله عاذل ووعظه واعظ قال: الأشربة كلّها خمر، فلا أشرب إلّا أجودها.
وقد أحببت- أيّدك الله- التّوثّق من إصغاء فهمك، وسؤت ظنّا بالتغرير فقدّمت لك من التّوطئة ما يسهّل [لك] سبيل المعرفة. وذلك إلى مثلك من مثلي حزم سيّما فيما خفيت معالمه ودرست مناهجه، وكثرت شبهه، واشتدّ غموضه.
ولو لم يكن ذلك وكان قد اعتاص عليّ البرهان في إظهاره، واحتجت في الإبانة عنه إلى ذكر ضدّه، ونظيره وشكله، لم أحتشم من الاستعانة بكلّ ذلك. فكيف والقدرة- بحمد الله- وافرة، والحجّة واضحة.
قد يكون الشيء من جنس الحرام فيعالج بضرب من العلاج حتّى يتغيّر
[جزء / صفحة] انتقل بلون يحدث له، ورائحة وطعم ونحو ذلك، فيتغيّر لذلك اسمه، ويصير حلالا بعد أن كان حراما.
فصل منه: فإن قال لنا قائل: ما تدرون، لعلّ الأنبذة قد دخلت في ذكر تحريم الخمر، ولكن لمّا كان الابتداء أجري في ذكر تحريم الخمر، خرج التحريم عليها وحدها في ظاهر المخاطبة، ودخل سائر الأشربة في التّحريم بالقصد والإرادة.
قلنا: قد علمنا أنّ ذلك على خلاف ما ذكر السّائل، لأسباب موجودة، وعلل معروفة.

[7- الصحابة ميزوا بين الفرائض والمسكرات]
منها: أنّ الصّحابة الذين شهدوا نزول الفرائض، والتابعين من بعدهم، لم يختلفوا في قاذف المحصنين أنّ عليه الحدّ، واختلفوا في الأشربة التي تسكر، ليس لجهلهم أسماء الخمور ومعانيها، ولكن للأخبار المرويّة في تحريم المسكر، والواردة في تحليلها.
ولو كانت الأشربة كلّها عند أهل اللّغة في القديم خمرا لما احتاجوا إلى أهل الرّوايات في الخمر، أيّ الأجناس من الأشربة هي؟ كما لم يخرجوا إلى طلب معرفة العبيد من الإماء.
وهذا باب يطول شرحه إن استقصيت جميع ما فيه من المسألة والجواب.
وما ينكر من خالفنا في تحليل الأنبذة مع إقراره أنّ الأشربة المسكرة الكثيرة لم تزل معروفة بأسمائها واعيانها، وأجناسها وبلدانها، وأنّ الله تعالى قصد للخمر من بين جميعها فحرّمها، وترك سائر الأشربة سائر المباح.

[8- حرم الله اشياء وحلل سائر اجناسها]
والدّليل على تجويز ذلك أنّ الله تعالى ما حرّم على الناس شيئا من الأشياء في القديم والحديث إلّا (أطلق لهم من جنسه، وأباح من سنخه ونظيره وشبهه، ما يعمل مثل عمله أو قريبا منه، ليغنيهم بالحلال عن الحرام. أعني ما حرّم بالسّمع دون المحرّم بالعقل. قد حرّم من الدم المسفوح، وأباح غير المسفوح، كجامد دم الطّحال والكبد وما أشبههما، وحرّم الميتة وأباح الذكيّة. وأباح أيضا ميتة البحر وغير البحر، كالجراد وشبهه، وحرّم الرّبا وأباح البيع، وحرّم بيع ما ليس عندك وأباح السّلم، وحرّم الضّيم وأباح الصّلح، وحرّم السّفاح وأباح النّكاح. وحرّم الخنزير وأباح الجدي الرّضيع، والخروف والحوار.
والحلال في كلّ ذلك أعظم موقعا من الحرام.

[9- اهل المدينة حرموا النبيذ ولكنهم ليسوا حجة]
فصل منه: ولعلّ قائلا يقول: وأهل مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وسكان حرمه ودار هجرته، أبصر بالحلال والحرام، والمسكر والخمر، وما أباح الرّسول وما حظره، وكيف لا يكون كذلك والدّين ومعالمه من عندهم خرج إلى النّاس؛ والوحي عليهم نزل، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم دفن. وهم المهاجرون السّابقون، والأنصار المؤثرون على أنفسهم. وكلّهم مجمع على تحريم الأنبذة المسكرة، وأنّها كالخمر.
وخلفهم على منهاج سلفهم إلى هذه الغاية، حتّى إنّهم جلدوا على الريح الخفيّ.
وكيف لا يفعلون ذلك ويدينون به وقد شهدوا من شهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حرّمها وذمّها، وأمر بجلد شاربها.
ثمّ كذلك فعل أئمّة الهدى من بعده. فهم إلى يوم الناس على رأي واحد، وأمر متّفق، ينهون عن شربها، ويجلدون عليها.
وإنّا نقول في ذلك: إنّ عظم حقّ البلدة لا يحلّ شيئا ولا يحرّمه، وإنّما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، والسّنّة المجمع عليها، والعقول الصّحيحة، والمقاييس المصيبة.
وبعد، فمن هذا المهاجريّ أو الأنصاريّ، الذي رووا عنه تحريم الأنبذة ثم لم يرووا عنه التحليل؟ بل لو أنصف القائل لعلم أنّ الذين من أهل المدينة حرّموا الأنبذة ليسوا بأفضل من الذين أحلّوا النّكاح في أدبار النّساء، كما استحلّ قوم من أهل مكّة عاريّة الفروج، وحرّم بعضهم ذبائح الزّنوج، لأنّهم فيما زعموا مشوّهو الخلق. ثم حكموا بالشّاهد واليمين خلافا لظاهر التنزيل. وأهل المدينة وإن كانوا جلدوا على الرّيح الخفي فقد جلدوا على حمل الزّقّ الفارغ؛ لأنّهم زعموا أنّه آلة الخمر، حتّى قال بعض من ينكر عليهم: فهلّا جلدوا أنفسهم؟ لأنّه ليس منهم إلّا ومعه آلة الزّنى! وكان يجب على هذا المثال أن يحكم بمثل ذلك على حامل السّيف والسّكّين والسّمّ القاتل، في نظائر ذلك؛ لأنّ هذه كلّها آلات القتل.

[10- مغنو المدينة شربوا الخمر ولم يحدهم أهلها]
وبعد، فأهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبع الملائكة.
ولو كان كلّ ما يقولونه حقّا وصوابا لجلدوا من كان في دار معبد، والغريض، وابن سريج، ودحمان وابن محرز وعلّويه وابن جامع، ومخارق، وشريك ووكيع، وحمّاد، وإبراهيم وجماعة التابعين، والسّلف والمتقدّمين؛ لأنّ هؤلاء فيما زعموا كانوا يشربون الأنبذة التي هي عندهم خمر؛ وأولئك كانوا يعالجون الأغاني التي هي حلّ طلق، على نقر العيدان والطّنابير، والنّايات والصّنج والزّنج، والمعازف التي ليست محرّمة ولا منهيّا عن شيء منها.
ولو كان ما خالفونا فيه من تحليل الأنبذة وتحريمها، كالاختلاف في الأغاني وصفاتها وأوزانها، واختلاف مخارجها، ووجوه مصارفها ومجاريها، وما يدمج ويوصل منها، وما للحنجرة والحنك والنّفس واللهوات وتحت اللّسان من نغمها. وأيّ الدّساتين أطرب، وأيّ أصوب، وما يحفز بالهمز أو يحرّك بالضّمّ؛ وكالقول بأنّ الهزج بالبنصر أطيب، أو بالوسطى؟ والسّريع على الزّير ألذّ، أو على المثنى؟ والمصعّد في لين أطرب أم المحدر في الشّدّة؟ لسهل ذلك ولسلّمنا علمه لمن يدّعيه، ولم نجاذب من يدّعي دوننا معرفته.
فصل منه: ولهج أصحاب الحديث بحكم لم أسمع بمثله في تزييف الرّجال، وتصحيح الأخبار. وإنما أكثروا في ذلك، لتعلم حيدهم عن التّفتيش، وميلهم عن التنقير، وانحرافهم عن الإنصاف.

[11- غرض الكتاب الاساسي]
فصل منه: والذي دعاني إلى وضع جميع هذه الأشربة والوقوف على أجناسها وبلدانها، مخافة أن يقع هذا الكتاب عند بعض من عساه لا يعرف جميعها، ولم يسمع بذكرها، فيتوهّم أنّي في ذكر أجناسها المستشنعة وأنواعها المبتدعة، كالهاذي برقية العقرب، وإن كان قصدي لذكرها في صدر الكتاب لأقف على حلالها وحرامها، وكيف اختلفت الأمّة فيها، وما سبب اعتراض الشّكّ واستكمان الشّبهة؛ ولأن أحتجّ للمباح وأعطيه حقّه، وأكشف أيضا عن المحظور فأقسم له قسطه، فأكون قد سلكت بالحرام سبيله، وبالحلال منهجه، اقتداء مني بقول الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وقد كتبت لك- أكرمك الله- في هذا الكتاب ما فيه الجزاية والكفاية، ولو بسطت القول لوجدته متّسعا، ولأتاك منه الدّهم. وربّما [كان] الإقلال في إيجاز أجدى من إكثار يخاف عليه الملل. فخلطت لك جدّا بهزل، وقرنت لك حجّة بملحة، لتخفّ مؤونة الكتاب على القارىء، وليزيد ذلك في نشاط المستمع، فجعلت الهزل بعد الجدّ جماما، والملحة بعد الحجّة مستراحا.

12- هامش رسالة الشارب والمشروب
(1) الجر والسقاء والمزفت والحنتم والدبّاء: انواع من الجرار والاوعية التي يوضع فيها النبيذ.
- الممثل والمكسوب: النبيذ المعالج بالرماد والحرارة.
- الداذي: نبات عنقودي حبه يشبه الشعير، له رائحة زكية.
- الباذق: الخمر الاحمر.
- الغربي: النبيذ المصنوع من عصير العنب وحده.
- المروق: المصفى.
- الفضيخ: نوع من النبيذ المصنوع من عصير العنب؛ الغربي الفضيخ.
- النقير: اصل النخلة ينقر ويتخذ وعاء للنبيذ.
- المقير: الزق المطلي بالقار.
- الترش شيرين: الحامض والحلو.
(2) منافع النبيذ، ورد معظمها في رسالة مدح النبيذ وصفة اهله منها الشفاء من الامراض، وشحذ الذهن، وراحة البال، والدفء والبعث على السرور، والجود والظرف، ونسيان الهموم.
(3) مساوىء النبيذ: الجاحظ يقول الشيء وضده عملا بمنهجه الجدلي: ان مساوىء الخمر هي السكر والهذيان، والكسل، والاستفراغ او التقيؤ، وإفشاء الاسرار، والمنع من اداء الصلاة.
(4) انواع النبيذ: شرحنا معانيها في الفقرة الاولى.
(5) الرد على اسئلة السائل: هذه هي طريقة الجاحظ: يتخيل شخصا يطرح عليه المسائل في صدر الرسالة، فيجيب عليها في مؤخرتها.
(6) «ليس عنده من المعرفة اكثر من انتحال القول بالجماعة» : يراد بالجماعة اهل السنة والجماعة. ويبدو انهم تشددوا في شرب النبيذ واعتبروه خمرا مسكرا.
(7) اختلف المسلمون في مسألة تحريم المسكرات، ورووا اخبارا متناقضة بعضها يحلل وبعضها يحرم.
ورأي الجاحظ هو ان الاشربة ليست كلها خمرا والدليل على ذلك تمييز اهل اللغة بينها وبين اجناسها.
(8) الامثلة التي يسوقها الجاحظ على المحللات والمحرمات التي تنتمي الى اصل واحد تدل على مقدرته الجدلية: الدم المسفوح وغير المسفوح، الميتة والذكية، ميتة البحر وغير البحر. النكاح والسفاح، الربا والبيع، الخنزير والجدي.
(9) المرجع في التمييز بين الحلال والحرام هو القرآن والسنة والعقل والقياس.
وهي اصول الفقه الاربعة الى جانب الاجماع. والعقل يقابل الاجتهاد.
(10) اهل المدينة معرضون كسائر الناس للخطأ، وقياسهم غير صحيح.
- معبد بن وهب عاش في مطلع دولة بني أمية وادرك دولة بني العباس. من كبار المغنين.
- الغريض: مغن جميل الوجه يجيد ضرب العود والدف توفي عام 95 هـ-- ابن سريج: مغن مات في خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان.
- دحمان، عبد الملك بن عمرو، عاش في مطلع الدولة العباسية واعطاه المهدي خمسين الف دينار في ليلة واحدة.
- محرز: مسلم بن محرز، لقب بصناجة العرب، وجاب بلاد العراق والفرس والشام.
- علوية، علي بن عبد الله بن يوسف، تتلمذ على ابراهيم الموصلي وغنى للامين وعاش حتى ادرك المتوكل.
- ابن جامع: مغن ورع وفقيه، غنى للرشيد- مخارق الجزار: مغن ومولى للرشيد.
- شريك النخعي توفي سنة 177 هـ- وكيع الرؤاسي الكوفي توفي سنة 196 هـ- فقيه
- حماد بن سلمة بن دينار البصري توفي سنة 167 هـ- فقيه.- ابراهيم النخعي (815) فقيه ورع.
- الدساتين: رباطات الأوتار- الزير، المثنى، المصعد: من اوتار العود.
(11) الدهم: الكثير، الجزاية: الاجز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى