عباس محمود العقاد - مسألة القضاء والقدر

قد راعيت يا سيدي أن اقدم إليك مسألة واحدة حتى لا يشق على مجلة (الرسالة) ردك. . . وهذه المسألة هي (القضاء والقدر) هل الإنسان مسير أم مخير؟. . . وقد وجهت هذا السؤال من قبل لأستاذي فرد علي رداً لم أر فيه مقنعا. . . فتضاربت الآراء بعقلي وإني لأخشى على نفسي وعلى إيماني. . .

محمد علي طالب

بمعمل قنا

مسألة القضاء والقدر هي مسألة الحرية الإنسانية في جميع نواحيها، فهي بهذه المثابة مسالة قضائية نفسية علمية، وليست بالمسألة الدينية وكفى.

وليس من الميسور أن تحل هذه المسألة من جميع وجوهها حلا يدفع كل اعتراض، ويوافق كل رأي، ويكشف النقاب عن العلاقة بين حرية الإنسان وقوى الكون الذي يعيش فيه. فإن العلم بحدود حريتة يتوقف على الإحاطة بهذه العلاقة من جميع أطرافها، وليس ذلك بالمستطاع في عصرنا هذا، ولا نخاله يستطاع كل الاستطاعة في وقت من الأوقات.

لكن المستطاع الذي لا شك فيه أن مسألة القضاء والقدر هي نفسها حل معقول أسهل من جميع الحلول التي تذهب إليها العقول. . .

فبما يقول من ينكر القضاء والقدر كأنه شيء لا يوافق العقل ولا يساغ في منطق التفكير؟

أيقول بأن المخلوقات يجب أن تختلف وأن تتساوى مع ذلك الاختلاف في كل قدر وقضاء؟

ذلك حكم لا يسوغ في عقل عاقل. لآن اختلاف التقدير لازم مع اختلاف الأقدار.

فإذا اختلفت أقدار المخلوقات وأوصافها فلا يخطر على العقل أن تكون بعد ذلك سواء في الأعمال والتقديرات.

وإذا هي لم تختلف فكيف يريد المعترضون أن تكون؟ وكيف يتوهمونها في الخيال فضلا عن تقديرها في عالم الفكر أو عالم العيان! أيريدونه عالماً لا فرق بين حي وحي، ولا بين شيء وشيء، ولا بين موجود وموجود؟

إذن هم يريدونه عالماً لا أشياء فيه ولا أحياء فيه ولا موجودات فيه.

لأن الشيء لا يسمى شيئاً إلا إذا كان مخالفاً لشيء آخر في جوهره أو صفاته. فإذا بطل الاختلاف بين الأشياء بطل قوام الأحياء والموجودات.

فهل يرى المعترضون أنهم هربوا من مسالة القضاء والقدر إلى مسألة يقبلها العقل وترتضيها النفس ويتصورها الخيال؟

وأي الصورتين بعد هذا أقرب إلى عقول المفكرين: عالم فيه اختلاف في التقدير واختلاف في الأقدار؟ أو عالم لا توجد فيه الأشياء ولا توجد فيه الأحياء!

فمسألة القضاء والقدر على هذا أقرب إلى الفهم من كل مسالة تخطر على بال مفكر في هذا الموضوع.

وإذا كانت هي الوجه الذي يقبله العقل فالناحية المجهولة منه ينبغي أن تقاس على الناحية المعلومة. فيطمئن الفكر إلى موافقتها له ومطابقتها لدواعي الإيمان.

أما هذه الناحية المجهولة فهي ناحية التوفيق بين العدل الإلهي واختلاف الجزاء على الأعمال.

فإذا وجب أن تختلف الأشياء ويختلف الأحياء ويختلف الجزاء، فقد وجب أن يكون الجزاء غير مناقض للعقل في نهاية المطاف. . . ونهاية المطاف هذه هي التي يجهلها الإنسان، ويقيسها على ما يعلم فتسري إليه الطمأنينة في هذا القياس الصحيح.

ويتحدث الأديب صاحب الخطاب عن صديق له يسخر من تبلبل خاطره في هذه المسالة فيقول (أنه أبرز لي آراء في هذه المسالة وقال إنها آراء أهل السنة وأخرى قال إنها آراء المعتزلة). . . ولا يدري أيهما أحق بالاتباع.

ولا فائدة من الإطالة في تفصيل هذه الآراء أو تلك الآراء. ولكن كاتب الخطاب خليق أن يوقن أن آراء المعتزلة تؤدي إلى تبلبل في الخواطر يعود على صاحبه بسخرية أمر وأنكى. لأنهم يحلون المشكلة بمشكلات ويخرجون من تيه إلى أتياه. ويقولون إن الإنسان ينبغي أن يكون حراً لأن الله يحاسبه، وإن الله لا يحاسب إلا لأنه حر في عمله واختياره0

فهم لا يقررون أن الإنسان حر في عمله واختياره بدليل من الواقع، بل بفرض من الفروض. فمن أين لهم أن حساب الله لا يوافق حالة التقدير، وأنه لابد أن يتناقض العدل إذا وجب الإيمان بالتقدير؟ ولماذا يمنعون على الله حساباً يتقابل فيه العدل والرحمة وصدق الجزاء والعقاب؟ وإذا وجب التسليم بأن الاختلاف في العالم المشهود هو الحالة التي يتحقق عليها الوجود، فلماذا يجزمون بأن هذه الحالة الواجبة ستناقض ما يجب في مسألة العدل والتوفيق بين العمل والمصير؟

لو كان المعتزلة ينكرون وجود الله لجاز أن يبطلوا الحكمة في الخلق كله وأن يبطلوا العدل والرحمة فيما هو ظاهر لنا وما هو محجوب عنا، ولكنهم يؤمنون بوجود الله ويؤمنون بوجوب الاختلاف بين الأشياء والأحياء. فلماذا تضيق قدرة الله عندهم عما يوافق الحكمة فيما يجهلون؟

وقصارى القول أن الحل الوحيد المستطاع لعقدة القضاء والقدر هو المقابلة بينها وبين العقد التي تنتهي إليها إذا أنكرنا القضاء والقدر. . . وأن العدل بمعنى المساواة الشاملة هو العدم بعينه، لأن المساواة الشاملة تنفي قيام الأشياء والأحياء. فلا بد من معنى للعدل الإلهي غير هذا المعنى، ولا تناقض إذا بين العدل والاختلاف في تركيب الموجودات، إذا وجب أن نفهمه فهما غير فهم المساواة في الأقدار والمساواة في التقدير.

ونحن نرى في حياتنا العملية أن الناس يرثون أخلاقهم من آبائهم وأمهاتهم، وينشئون في عاداتهم على نشأه بيئتهم وبيئات أسلافهم، ولكننا مع هذا لا نبطل التكليف والجزاء ولا نرى أنه عبث في غير جدوى، أو أن إلغاء القوانين والعقوبات مساو لبقائها وسريانها. . . فهناك نصيب من الحرية يكفي لقيام التكليف في المسائل الدنيوية، وهناك نصيب من الحرية يكفي للتوفيق بين العمل والجزاء في هذه الحياة القصيرة. فكيف بالحياة الأبدية التي تدبرها عناية الله ولا يحيط بها علم الإنسان؟

إن مسالة القضاء والقدر عقدة، ولكنها عقدة لا ينكرها المنكر إلا وقع فيما هو أعقد منها، ولاسيما المنكر الذي يؤمن بوجود الخالق القديم.

أما الذين يبطلون وجوده فإنهم يعطلون العقل جملة في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل، لأن تفسير العالم كله بالمصادفة العمياء لا يدع مجالاً للإشكال ولا للسؤال، وكل شيء جائز أو غير جائز. فقد استوى الجائز وغير الجائز على كل حال.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 713
بتاريخ: 03 - 03 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى