عبد القادر وساط - ما دار بين الطاغية ووزير لامية العرَب

جاء في كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا يحيى بن محمد الكاتب، قال حدثنا شهاب بن إبراهيم الحكيمي، عن عوضة النجدانية، عن ابن أخيها الشيخ أبي الفضل النجداني، قال:
لما فرغ َ الطاغية من بناء داره الجديدة بالساحة الكبرى بنجدان، جلسَ فيها على سرير مرصع بالجوهر، وعلى رأسه تاج الطغيان، وجلس حوله الوزراءُ والعلماء والأعيان، يتوسطون الإيوان، وشرع الشعراء ينشدون المدائح، ويهنئون المستبد بداره الجديدة، التي سماها " دار العلياء". ثم إن الطاغية ضجرَ كعادته بعض الضجر، فطفق يتفرس في وجوه الحاضرين، إلى أن بصرَ بشيخ لا يعرفه فأشار إليه أن يقترب، فامتثل الشيخ وقد أوجس في نفسه خيفة، ووقف أمام سرير المُلك دون حراك. وبعد هنيهة سأله الطاغية:
- من أنتَ أيها الشيخ؟
قال:
- خادمكم يا مولاي، إسحاق بن أدهم، الملقب بحَرّ الهاجرة.
فعاد الطاغية يسأله:
- ما وظيفتك؟
قال:
- أنا وزير في حكومتكم يا مولاي.... وزير منتدب لدى وزير الشعر، مكلف بلامية العرب...
فوضع المستبد يده على جبهته كأنما يحاول أن يتذكر ثم قال:
- وهل في حكومتنا وزير مكلف بلامية العرب؟ أنا أتذكر فقط شيخنا المرحوم زهير بن زيد الرقاشي، الملقب بكلكل الدهر، والذي كان وزيرا مكلفا بلامية العجم.
ثم إنه سكت قليلا وعاد يقول للشيخ إسحاق:
- أخبرني أيها الوزير، رعاك الله. منذ متى جعلتك وزيرا مكلفا بلامية العرب؟ وما هو السبب؟
فأطرق الوزير كأنما يفكر في الجواب ثم قال:
- حدث ذلك في ربيع العام الماضي. فقد رأيتَ في الحلم - يا مولاي الطاغية - أنك مع الشنفرى الأزدي في موضع يقال له الغُميصاء، وهو الموضع الذي أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة، إثر فتح مكة، فقلتَ له: " يا عمرو بن مالك الأزدي، هذا هو المكان الذي ذكرتَه في لامية العرب حين قلتَ:
( و أصبحَ عني بالغُميصاء جالساً = فريقان : مسؤولٌ و آخرُ يَسألُ )
فلما أفقتَ يا مولاي المستبد بالله، دعوتَ أعضاء الحكومة وسألتهم إن كانوا يحفظون لامية العرب هذه، فكُلهم أجاب بالنفي، فغضبتَ عندئذ يا مولاي، ثم أمرتَ بإحضاري بعد أن ذكرني لك كبير الوزراء، وامتحنتَني في اللامية، فلما أسعدني الخالقُ برضاك جعلتَني وزيرا منتدبا لدى وزير الشعر، مكلفا بلامية العرب.
قال الطاغية:
- أما الحلم فما زلت أذكره، وأما أنت فنسيتُ كل ما كان من أمرك، فذَكّرني رعاك الله بالمسائل التي امتحنتك فيها وبجوابك عليها.
قال الشيخ إسحاق:
- سألتني يا مولاي عن قوله:
( فإن تبتئسْ بالشنفرىٰ أمُّ قَسْطَلٍ = فما اغتبطتْ بالشنفرى قبْلُ أطولُ)
وعما يقصده بأمّ قسطل، فكان جوابي أنها الحرب لأن القسطل هو الغبار ومن الحرب يتولد الغبار. وسألتني - أدام الله طغيانك - عن معنى هذا البيت فكان جوابي: إذا قُتل الشنفرى وابتأست الحرب بمقتله، فطالما اغتبطتْ به فيما مضى حين كان يُردي الأبطال.
قال الطاغية:
- ثم ماذا أيها الشيخ؟
قال الشيخ الوزير:
- وسألتني يا مولاي عن معنى قوله:
( فإما ترَيْني كابْنَة الرمل ضاحياً = على رقّةٍ أحْفى و لا أتنعّلُ)
فكان الجواب: " ابنة الرمل " هي البقرة الوحشية، والضاحي هو البارز للشمس، ومعنى البيت هو: " فإن ترَيني مثل البقرة الوحشية بارزا للشمس أمشي بغير نعل مع رقة في قدمي دون أن أتكلف لبس النعال. وتتمة المعنى في البيت الذي يليه.
قال الطاغية:
- حسبك الآن أيها الشيخ.
ثم التفت إلى الحاضرين وخاطبهم قائلا:
- سأعطيكم مهلة أسبوعين لحفظ لامية العرب ومعرفة معانيها، فمن امتحنته منكم بعد انقضاء المهلة وتبين لي أنه لم يحفظها ولم يستوعب معانيها فسوف أنكل به تنكيلا لا تقوى عليه الجن ولا الإنس. ورحم الله الشنفرى الذي قال في لامية العرب:
فإنْ يكُ من جنٍّ لأبرَحَ طارقاً = و إن يك إنساً ما كَهَا الإنسُ تفعلُ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى