طاهر البربري - عالم راكد ثقيل.. قصة

’لديّ رغبة في الانفجار..‘، هكذا كنت أريد أن أقول لصفا في آخر مرة التقيت بها قبل ساعتين من سفري قبل سبع سنوات، ’عليَّ أن أتكلم. نعم. بل لزامًا علىّ أن أتكلم. أزعق بقوة. لأنني ممتلئٌ بخراب معجز. وحكايات تصلح مزارًا للعميان، كي يرمموا شروخ بصيرتهم. الصراخ والزعيق سلطة أمثالي ممن رأوا وعرفوا. أعرف أنني أستمد سلطتي هذه من الرثاثة الخارقة ومن وثنية البؤساء في جغرافيا ترتكب الورع بسذاجة.

أنا عصبي. أعترف. لكنني لا أشعر بالخجل حيال عصبيتي هذه؛ طالما أنني فادح الرهافة1. عصبي؟! آه؛ نعم. ربما لأن هناك نوعٌ ما من المعرفة في جوفي، قد أدرجني مؤخرًا في قوائم الرجال الخرفين، أو الهَرِّمين الذين لثقل تجاربهم وهولها، لا يتحكمون في البول، أو عندما يتكلمون تصيبهم حميةٌ تقتضي سيولة لعابهم بصورةٍ مقززة. ربما لأنني ممن يحملون في بطونهم تلك الأحلام الراقصة ـ بحياة مُتخيلة، لا تُعاش؛ و، لن ـ التي صُنِفَت مؤخرًا على أنها ورم جوال يُسرطن الجسد والروح؛ وينبغي الكف عن تعاطيها بكميات كثيرة أو قليلة؛ ويعيشون عوالم لا ينفرد بها سواهم. أو ربما لأنني صرت منذ سنوات أقضي الليل كله يقظًا. أجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا؛ جاحظ العينين مثل حيوان شرس، أبحث عن فريسةٍ واحدةٍ أعرفها. وأود لو تظهر حتى أنشب فيها أظافري؛ بعنف وغل، ولا أتركها إلا وهي صريعة. أنا جائع في انتظار هذه الفريسة. لكنها لن تأتي لأنها عرفت كم أنا مترقبٌ، وفي تمام يقظتي لحين قدومها المستحيل.

لكن لماذا عليّ أن أقول كل ما سبق كمبرر لرغبتي في الزعيق. في الكلام حتى ولو كان فارغًا؛ أو متطاولاً. الكلام هو ما تبقى ليّ؛ الكلام هو القناع الزاعق للخسران. لم أجد شيئًا أودع به من ماتوا سوى الكلام. الكلام هو آخر الخيارات للحياة غير المرغوب فيها. فقط لأقول أنني تكلمت، تبجحت، وشيدت بلساني حتفًا يليق بأمثالي من التُفَه، أصحاب الوجوه الكالحة والوجود الشيزوفراني المقرف. لا ضرورة لتبرير رغبتي في الزعيق، في الحكي. في ركل الأبواب والبصق على الحيطان، في أداء أفعال لا ينفرد بها سوايّ. عليّ فقط أن أفعل. يا صفا، أعرف أنني الوحيد الذي يمكنه فضح العائلة. لا. ليست العائلة. أعني فضح ما تصورته ـ ذات يوم ـ عائلة. في الواقع، أنا كائنٌ لا يمكن القياس عليه. بما يعني أنه لا يمكن التعامل مع مفاهيمه على أنها سوية. هنا. هنا؛ في هذه الجغرافية ذات الخصوصية المتفردة. هنا بما يعني المكان. المكان الذي أنا فيه الآن. الآن. الآن؛ هو كل ما يحدث. أو كل ما حدث بالفعل لكنني أعيد حكيه من جديد فيصبح آنيًا. أعني توًا. لا بدقة أكثر في هذه اللحظة. أووووف.... الزمن فكرة قاسية مراوغة. فلنعتبر الآن هذا هو كل ما أستدعيه وأتحدث عنه الآن. الآن..!

لااااااااااه. أنا رجل ثرثار جدًا. رجل بأفكار متشظية وجمل مفككة ستفضي إلى لا شيء سوى السخرية. ربما لأنها ست وثلاثون عامًا برمتها. لا بل أكثر قليلاً. اعتقد ست وثلاثين عامًا وثلاثة أشهر بالتمام والكمال. ثم ما هذه الـ "ربما" التي أستخدمها بكثرة؟! ألا يشي هذا بخلل ما في معرفتي باليقين؟!

آه...فففففففففففـ... اليقين.

فيما بعد سأراجع هذه الفكرة مرات ومرات حتى أتأكد ما إذا كانت الكلمة ذات معنى أم لا. المهم أنها ست وثلاثون عامًا كاملة، لا مكان فيها للطُهر (الطهر: سأفعل مع هذه الكلمة ومع ما سواها مثلما سأفعل مع كلمة يقين. لأن كل المفردات المماثلة ستستوقفني. وأنا، كما قلت، في حاجة ماسة للصراخ).

* * *

أنا ساهدٌ لليالٍ طويلات. أحاول جمع الحكايات كلها....كلها. أو على الأحرى: الحكايات هي التي تلم نُثَاري لأمنحها هيئة متناغمة وكرونولوچية. لا أدعي تعريفًا مُحددًا للـ’كرونولوچي‘ 2 لكن الكلمة أتت هنا في سياق صحيح على أية حال.

أكاد أنفجر.

آه، عرفت. الآن فقط وضعت يدي على ميكانيزم الرغبة في الصراخ:

>>>> لقد دهست عجلات قطار مصر/إسكندرية أتوبيس عمال مصنع السجاد عند مزلقان قويسنا؛ في تمام السابعة من صباح السبت الماضي. في المساء، تردد حلمٌ غريب حكته زوجة سائق الأتوبيس لجارتها. رأت فيه جسدًا واحدًا برؤوس عديدة يرتمي صريعًا، مُشوهًا وهناك من يُهيل التراب عليه؛ ويولول وهو يتفحص الرؤوس كلها الواحدة بعد الأخرى. ولأن اللحم مع العظام قد امتزج بحديد الأتوبيس، فقد دُفن الجميع في مقبرة جماعية، وبعد أيام خرجت حملة من مهندسي البلدية كي تضرب مجساتها في التربة وذلك للبدء في تنفيذ كوبري علوي فوق المقبرة. بعد الحادث بيومٍ واحد بدأت الانتخابات في تمام موعدها المحدد!

!

لأ...لااا.

>>>> لقد رن جرس الهاتف منذ قليل، وتلقيت من نهى (ـ نهى من؟ ـ لا يهم سأتحدث عنها فيما بعد.) تلقيت خبر وفاة صلاح ناصف 3 في غرفة العمليات. كان المشرط مُقدمًا على استئصال جزء من معدته الملغومة بورم سرطاني. كنت أود الاعتذار له عن سخافتي في آخر مرة التقينا فيها. كان يتحتم عليّ زيارته فقد كنت أعلم بمرضه من صديقة مشتركة: فاطمة (ـ من هي؟ ـ لا يهم. لن أتحدث عنها فيما بعد).

دائمًا ما يدفعني الحُمق والإهمال للخُسْران، والندم. لأن وقت ما ينبغي أن يحدث، يكون قد فات.

لا غفران.

* * *

لا....لا....لا.

تذكرت! >>> بالأمس فقط كنت في كوبري القبة. كنت أنهي كل علاقاتي بعملي. نعم كوبري القبة. واختزنت مشهدًا لا يليق إلا بسوايّ: رجل في الخامسة والأربعين تقريبًا، كان يمشي إلى جوار القصر ....

ـ أي قصر؟

ـ أنتم تعرفون. سيفعلون بي مثلما فعلوا به إذا ما ذكرت اسم القصر!

ـ بمن؟

ـ بالرجل! البالغ من العمر خمسة وأربعين عامًا. تقريبًا. والذي كان يمشي إلى جوار القصر. والذي، لسوء حظه ـ آه ذلك التعس! ـ فكر في إشعال سيجارة. بالضبط عند مروره بالبوابة. ولسوء حظه ـ ويا له من تعس! ـ كانت السيجارة الأخيرة. ولسوء حظه ـ آاااااااه ـ أنه كان يحمل ترانزيستور أسود؛ وكان الترانزيستور، الأسود، يُذيع أغنية جميلة حقًا، و...وجديرة بالشرود في نزهة قصيرة في حدائق الروح [هل ثمة حدائق للروح؟!]: "أديش كان فيه ناس عا المفرق تنطر ناس، وتشَتي الدني؛ ويحملوا شمسية وأنا بإيام الصحو ما حدا نطرني". وبعد أن أخرج السيجارة من العلبة كَوَرَّ العلبة الفارغة ـ طبعًا لأنه أخرج منها السيجارة الأخيرة ـ وألقى بها دون قصد (والله العظيم دون قصد) لأنه كان شارد الذهن في نزهته القصيرة في حدائق الروح (غير الموجودة أصلاً....صح ) وألقى بها أمام البوابة. فخُيِّل لأحد جنود الأبراج الرابضة على مسافات متساوية فوق سور القصر أن الرجل قد ألقى ما يُشبه القنبلة. أمطره بالرصاص، على الفور، من أعلى السور. وحينما اقترب القائد من علبة السجائر الفارغة ـ القُنبلة المُتخيلة ـ ليُبطل مفعولها، وهو يرتعد، ذُهِلَ ومصمص شفتيه بالتياع؛ ثم أمر بتغيير جنود الأبراج توًا لأن أحدهم قد هاجسه الشك في وطنية (سنحتاج كلمة وطنية هذه لاختبار انتماء بعض أصدقائي ـ وأنا منهم ـ الذين مضوا بلا رجعة الواحد تلو الآخر) هاجسه الشك في وطنية رأس كليوباترا المطبوعة على علبة السجائر الفارغة، التي لا تصلح أن تكون قُنبلة. أو حتى قُنبلة مُتخيلة!

أما نشرة أخبار التاسعة فكانت تعرض سيرة حياة الرجل الذي انفجرت فيه قنبلة بالقرب من بوابة القصر: قيل إنه كان جنديًا في سلاح المشاة في الحرب الأخيرة. وإنه هرع صوب القنبلة لإبطال مفعولها حينما رأى شابًا أشعث اللحية يُلقي بها أمام البوابة ـ بوابة القصر! ـ ويهرب. أجهزة الأمن4 ، بدورها، كانت قد طوقت المنطقة للبحث عن الشاب، ولم يزل شهود العيان يتوافدون ـ طبعًا باستثناء شاهد العيان الوحيد ـ للإدلاء بما يعرفونه عن الحادث.؟؟؟؟؟؟؟؟؟

أووووووف. يا بهاء، يا أنا، يا صديقي، لا أتوبيس العمال، الذي دهسته عجلات قطار مصر/إسكندرية عند مزلقان قويسنا، ولا موت صلاح ناصف في غرفة العمليات، ولا مقتل صاحب علبة السجائر الفارغة (القنبلة المُتَخَيلة) أمام البوابة (بوابة القصر) هو السبب في رغبتك الجامحة في الانفجار. حاول أن تكون منطقيًا في ترتيب جرائم الهواء. بالتأكيد هناك من الأسباب ما يليق بانفجارك المميت هذا.

ربما كان موت نعناعة5 قبل سنوات أمامنا، في دار بحبحاية6 هو ما أثار لديك هذه الرغبة في الفضفضة.

كنت تبوح لها بكل شيء. علمتك أنك لم تفعل أبدًا ما يحملك على الشعور بالخزي؛ وإذا ما فعلت فإن ما تفعله ضئيلٌ إذا ما قورن بمن يملأون الهواء خزيا. رغم هذا يستطيعون قبورًا رخامية الفخامة، وأكاليل غار، وأقواس نصر، وموسيقات عسكرية، وتماثيل سامقة القامة في مداخل المدن، وأفلام سينمائية تُعرض العام تلو الآخر في المناسبات القومية (سأضم هذه الكلمة مع الطهر واليقين والوطنية، فكلها مفردات جديرة بالمراجعة)

حقًا لماذا أغفلت ما تركه موتها داخلي من أسى. نعناعة أمي. صحيح أمي. رغم أنني أتيت للحياة عبر رحم فاطمة محروس. نعناعة العاقر المنذورة لتربية طفل وطفلة أشبه باللقطاء7. لا بل لقطاء فعلاً. لقطاء جدد. هكذا أدركت لاحقًا.

* * *

أنا وصفا، طفل وطفلة لم يتكورا في رَحِِم نعناعة، لكننا اعتدنا النوم على ثدييها بعد أن تُلقمنا حلمتين مغموستين في العسل أو الينسون المُحَلّى. ذكرى الحلمتين المغموستين في العسل جعلتني أقفز فيما بعد إلى حكمة الله في خلق المرأة بثديين حتى ولو كانت عاقرًا: بالطبع كي تستطيع إطعام توأمين في وقتٍ واحد. أما بالنسبة لنعناعة فثدياها قد مكناها من إعادة مزج ﭽيناتي أنا وصفا بأمومتها في بوتقةٍ واحدة تحت راية وجهها الهادئ المفعم بالطيبة؛ فكبرنا على سنوات عمرها في طمأنينةٍ كاسرةٍ للمخاوف.

صفا التي تصغرني بعشرين دقيقة فقط هي أختي. صحيح أختي. لأننا أتينا إلى الحياة عبر رحمٍ واحد، في ليلة واحدة، وربطت بيننا نعناعة بفطيرة المكان والتفاصيل. سرير واحد. منشفة واحدة. وأحيانًا زوج واحد من الجوارب. وطوال الوقت، محل قماش واحد وعدة أمتار من نفس "الكستور" تحيك منها نعناعة منامتين في الصيف، ومثلهما في الشتاء على ماكينة الخياطة الـ "سنجر" العتيقة.

كان هذا قبل التحولات التي أحدثتها فاطمة محروس على حياتها وحياتنا.

كان هذا قبل أن تسعل رئات هذه البلاد، وتبصق كائنات غريبة ظلت تتعاظم وتكبر، وتكبر حتى انطمست معالم الحياة، وتبدلت بمعالم أخرى جديدة.

ماتت نعناعة. دفنتها إلى جوار زوجها ـ السابق ـ حسان العيسوي. كما أوصت. لم يحضر جنازتها سوى إخوتها وأخواتها؛ وبعض من أقارب طليقها، أولئك الذين ظلت تربطهم بها علاقات ود دائمة لم يخدشها طلاقها من حسان العيسوي قط. حتى بعد موت حسان العيسوي؛ ظلوا يزورونها في الأعياد؛ وفي المناسبات العارضة مثل نجاحي في الثانوية العامة وتخرجي من كلية الشرطة. كانوا ينظرون إلينا، أنا وصفا، على أننا أبناء نعناعة بالفعل؛ ويدعون الله أن يُنبتنا نباتًا حسنًا لأجلها، ولأجل ما كابدته لأجل تربيتنا. حسان العيسوي نفسه لم يتزوج بعد نعناعة، مطلقًا؛ وكلما طلبت منه عطيات، أخته، أن يُقدم علي الزواج من أخرى، كان يقول: "يا عطيات، لقد كَبُرتُ، وأبناء الشيبة يتامى. من أدراكِ أنني سأنجب من أخرى إذا تزوجت، ومن أدراكِ أنني سأعيش لأربيهم. لقد اكتفيت بنعناعة، يا عطيات، ولو طلبت مني أن أعود وأردها ثانيةً لفعلت..." نعناعة أيضًا ظلت على عهد حسان بها بعد موته؛ فقد ظلت تذهب كل خميس إلى الجبانة لتقرأ الفاتحة على روحه.

الآن ماتت نعناعة؛ بحلمتيها المغموستين في العسل أو الينسون المُحَلى. أنا الوحيد الباقي في دار بحبحاية. غادرت هذا البيت، ورجعت إليه مرةً ثانية مبكرًا. تَزَوَجَت صفا. واختفت فاطمة محروس. كعادتها. تظهر وتختفي وقتما تشاء. صار العالم خاويًا. ليس فيه سوى روائح قديمة. ماذا عن غفران. لن تسامحني سمية. ولن تغفر لي روح حاتم8. حاتم الذي لم يرى غفران ابنتي؛ وابنة أخته سمية. حاتم الحديدي؛ الذي استطاع أن يصرخ بـ "لااااااااااااا" صارمة ونهائية في وجه من صوبوا فوهة البندقية الآلية عيار 7.62×39 مم، بين حاجبيه وبضغطة واحدة مات حاتم، في سكنه الإداري في مرسى مطروح حيث كان يعمل في إدارة مكافحة المخدرات. المكان الذي اختاره حاتم، ورفض لأجله وظيفة معلم بكلية الشرطة.
1يالرهافتي الفادحة تلك التي جعلتني أبصر حياةً فالتة من ربقة المنطق، وأمضي في طرقات الحياة ببصيرة جارحة. أنا من إذًا أيتها الجغرافيا، أحيا ولا أحيا. أمر على إرثي من الناس والذكريات ولا ألقي السلام. لا أرى البيوت الجديدة ولا الأطفال الذين تركتهم أطفالاً وقد كبروا وفارت أجسامهم الطفولية. أرى القبور، فأستخرج من بداخلها، وأحدثهم عن أسعار الحياة الجديدة، هنا؛ هنا في بلادهم التي استعمرها الخوف. من أنت يا بهاء؟ أنت الهامش أم المتن أم كلاهما معًا؟ أكنت جديرًا بطعنة السكين تلك التي أسكنتك مع من تحب؟!
***
1 الكرونولوچيا: تقسيم الزمن إلى فترات، وتعيين التواريخ الدقيقة للأحداث وفقًا لتسلسلها الزمني. لكن كيف لي أن أقسم هذا الزمن اليابس إلى فترات، والنهارات جليد، والأماسي ذاكرةٌ يهرسها الغابرون! كيف لي أن أُعَيِّن التواريخ الدقيقة للأحداث، والأحداث ندوب والندوب اختلطت؛ والنشيج كما البندول، ولا عاصم منه!
***
3 صلاح ناصف صديق الدراسة القديم الذي قال لي ذات يوم في إحدى رسائله: ’الليالي الباردة، والنوافذ التي تنغلق على من يعيشون خلفها حين الليل، وحين يكون الخوف من العالم محمومًا بخرافات ساذجة عن موت الوردة وانطفاء شرارات الوصل، كلها، كلها تعبث بدماغي. الآن. هنا(ك) حيث اعتدت الوقوف لاجترار ظلال الأيام الفائتة. لم تكن حلوة تمامًا، لم تكن سيئة تمامًا. غير أن المرارة، بلا شك، كانت أشد وقعًا على ألسنتنا المُتَخيَلة الكثيرة التي كنا نتذوق بها المواقيت. للمواقيت مذاق! هذا حقيقي [ولابد أن يُقال]. غير أننا لا نعرف هذا، بالطبع كان للمواقيت مذاقٌ. حينها. إذ أننا نكون في مغبة الوقت ذاته نصارع مرارته؛ أو نتهجى حلاوته بنهمٍ لذيذ واستغراق فادح مخبول.‘
***
4لا أمن حين لا حدائق للروح.
***
5 نعناعة: غريب جدًا أن تصبح نعناعة ـ القابلة التي تلقتني أنا وصفا على يديها ـ أمًا لنا وأبًا وأقارب. شعرت أن الله أرسلنا لها عِوضًا عن رحمها المتيبس الذي لم يستجب، ولو لمرة واحدة، لعشر سنوات من أماسي الجماع المشمول بالدعاء. طلبت الطلاق من زوجها حسان العيسوي، مباشرةً بعد ولادتنا، أنا وصفا. لم تنتظر حتى يقرر زوجها المتلهف على الأطفال طلاقها. وحينما ناقشتها فاطمة ـ أمي البيولوجية ـ في طلب طلاقها، ولماذا تعجلت الأمر، ردت نعناعة مؤكدةً أن وقوع البلاء أفضل من انتظاره؛ وأن عينا حسان تكاد تنشعان حنينًا حارقًا كلما رأى طفلاً أو طفلة.
***
6هكذا اعتدنا أن نطلق على هذا البيت. ذلك لأنه كان بيتًا قديمًا على الطراز الإنجليزي. مالكته القديمة كانت تسمى بحبحاية هانم. قيل إنها كانت أرملة مُسنة. بعد موتها قام أولادها بتأجير الطابق العلوي منه لنعناعة وزوجها. بعد الحكم على محمد القفاص بالسجن، عادت فاطمة محروس إلى شبين الكوم، غير أن إخوة زوجها رفضوا إقامتها معهم بحجة أنهم قد تبرءوا نهائيًا من أخيهم السجين. فاستأجرت غرفة في الطابق الأرضي من المنزل، وهنا بدأت علاقتها بنعناعة، أمنا، وحاميتنا من أرصفة اللقطاء.
***
7 اللقيط (ـة) ليسـ (ـت) فقط هو/هي ذلك/ تلك الطفل/ الطفلة الذي/ التي يأتي/ تأتي إلى الحياة من علاقة غير شرعية، فالشوارع الآن إسفلتها لقطاء من نوعٍ جديد. من رجال ونساء بينهم عقود زواج ولهم صور زفاف وذكريات خطوبة وكورنيش وقراطيس (تِرّمِسْ) ورسائل غرام صفراء وأغاني من طائفة (أنا قلبي ليك ميال) ونحن ـ أقصد أنا وصفا ـ من فصيل اللقطاء الجدد.
***
8 حاتم الحديدي الذي لازمني طيلة سنوات الدراسة؛ لم يحدث أن تنازل أينا عنا الآخر منذ الصف الأول الابتدائي. حتى حينما كان يأتي عام دراسي جديد ونجد أننا في فصلين مختلفين، كانت نعناعة تذهب إلى المدرسة لتنقلني إلى فصله، أو تكون أمه قد سارعت بنقله إلى فصلي. حتى الموت المبكر حدث لنا معًا؛ في نفس اللحظة؛ ولكن بصورة مختلفة. هو قد فارق الحياة برصاصة من بندقية آلية عيار 7.62× 39. وأنا قد فقدت شعوري بالحياة بنفس الرصاصة؛ وللأبد. حاتم الحديدي الذي كلما سألته، "بأي كلية ستلتحق بعد الثانوية العامة؟" كان يجيبني قائلاً: "كلية الشرطة."، "وإن لم تُقبل؟"، فيجيبني بإصرار متزايد: "كلية الشرطة! كلية الشرطة!"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى