أمل الكردفاني - سيداو اتفاقية راقية ولكن....

هناك جدلية اثرتها كثيرا ؛ وهي جدلية لن تجد لها اجابة حاسمة ابدا. وهي مسألة التعارض بين الثقافات والتراتبية التي تضع كل ثقافة نفسها على قمتها. هذا بالاضافة الى قناعات تصل حد التقديس فيما يتعلق بما هو ملائم بلا ادنى شك لكل مجتمع. نحن امام صدام حتمي بين ما نراه صائبا وبين ما يراه الآخرون اكثر صوابا. هذا الصدام ليس مقتصرا على قضايا محدودة كالجندر والمساواة بين الرجل والمرأة ، بل تمتد حتى العقائد والاديان ، وكما اشرت كثيرا فإن كل فرد او منظومة اجتماعية تمتلك حقيقتها الخاصة التي تتعارض مع حقائق غيرها. لا شك اننا كمثقفين نرغب في تحقيق تطور لقيمنا بالتوازي مع معارفنا ، لكن دعني الفت الانتباه الى ان هناك بروفيسورات وعلماء يعود الواحد منهم الى قبيلته ويخلع ملابسه ليتواءم مع ثقافته المجتمعية البدائية. انه رغم كونه عالما ومثقفا وربما يكون ليبراليا الا انه يظل متمسكا بهويته تلك وبمجمل حمولاتها . ربما عندما يعود الى المدينة والى منزله الاكثر حداثة من اكواخ القبيلة يعود ايضا الى مفاهيم الحداثة ، حيث يطبق رؤية اكثر رقيا على اسرته.. سواء من حيث ديموقراطية التربية او التعامل والسلوك بين افراد الاسرة بل حتى نوع الخطاب المتبادل بينهم. انه متأكد في قرارة نفسه من قيم الحداثة لكنه في نفس الوقت يحترم خصوصية من ينتمي اليهم. هذا الامر ملحوظ على كافة المستويات. ففي دولة يعبد فيها البعض القرود يجب عليك الا تتعرض لآلهتهم هذه حتى وان كنت متأكدا ان ذلك القرد الشقي ليس إلها. اتركهم وما يعبدون. هذا الفهم نفسه جزء من رقينا الحضاري ، وجزء من معطيات الحداثة التي تؤكد على الحرية الفردية والمجتمعية وعلى خصوصية الثقافات. وبشكل عام فنحن وطوال نشأتنا منذ الطفولة انما نخضع لهويات عدة او نتبنى هويات اخرى . او نتخلى عن هويات نراها بالية . ولا يعني هذا بالضرورة ان نعمل على رفع دعاوى قضائية نخاصم فيها غير ذلك من هويات. فهذا ليس من شأننا. لكن ورغم منطقية ذلك الانفتاح على الكافة الا ان انحيازانا الى الذات -وعبر التاريخ- تسبب في كتابة صيرورتنا البشرية. ففكرة الغزو والحرب والمقاومة ، والتمرد ، والعصيان ، والهروب.. كل ذلك ناتج عن انحيازاتنا للذات التي تتشكل من المطلق. إننا نرى هذا الامر واضحا في الكثير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وعلى وجه الخصوص هذه الاخيرة ؛ كالعهد الدولي لحقوق الانسان وكاتفاقية سيداو ، ..الخ.. انها رؤية يتمركز فيها الانسان كفرد متجردا عن كل بناه الثقافية ، ثم مطروحا على العالم كرقم احصائي. لكن هذا ليس صحيحا. فالانسان ليس رقما احصائيا ، ولو كان هذا جيدا بالنسبة للحداثويين ، فإنه ليس جيدا لغيرهم.. ، نعم تعتبر اتفاقية سيداو اتفاقية راقية جدا من حيث طرح قيمة انسانية لا يمكن انكارها وهي قيمة المساواة بين البشر بغض النظر عن اختلافهم الجنسي. هذا رائع جدا ، ويكون اكثر روعة عندما ننظر الى الانسان كما اسلفت كرقم احصائي ، ولكن وبما ان هذا ليس واقعيا ، فإن مثل هذه الاتفاقية ستتصادم بشكل مؤكد مع الكثير من المجتمعات ، لأنها لا تعمل على التغيير بشكل متدرج بل تفرض مفاهيما ارقى بشكل قسري جدا ؛ انها تطلب من الخصوصيات الثقافية التعري تماما وارتداء هوية جديدة او ايدولوجيا جديدة او سياق معرفي بوعي مختلف دون ان تعالج التباينات الكثيفة وعوامل التضاد الحتمي بينها وبين غيرها. لا يمكنني ان الطم القرد امام من يعتقد أنه إله ، ولا يمكن ان امحو الطبقية في الديانة الهندوسية بجرة قلم ، او اطلب من قبائل تراكمت اعرافها على تدمير بنائها هذا فقط بمادة في اتفاقية دولية. هذا في الواقع يعد غزوا واحتلالا حقيقيا لا يختلف عن الغزو والاحتلال العسكري ان لم يكن اشد منه وطأة. قبل يومين شاهدت افلام ثقافية متعلقة بقبائل افريقية وعربية ، لها اعرافها وآدابها وطقوسها وتراتبيتها وعقائدها. لا يمكنني ان اضع من نفسي حكما على هذه الثقافات من الخارج وانما يجب ان انظر لها من الداخل .. ان اكون جزءا منها ؛ وحينها سأخضع لها تماما...بغض النظر عن كوني مثقفا ام لا وبغض النظر عن درجة وعيي او تعليمي او احتكاكي بالحضارة والمدنية ؛ فإنني في كل الاحوال لابد ان اخلع ملابسي واتجول مع مجتمعي هذا عاريا مثله. لن تكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة على النحو الذي تنشده اتفاقية سيداو ولا نهاية للطبقية ولا فناء لدكتاتورية زعيم القبيلة ، ولا معاملة حضارية للطفل كما في العالم الأول على هذا النحو الاكراهي. ورغم علمي بذلك كله الا انني لابد ان اتسق واتأقلم مع مجموعتي هذه ، ليس كجزء من القطيع ، وانما ايمانا بأنني لا املك وصاية فرض حضارتي على هذا النسق الخاص ، والذي يرتاح اليه جميع افراده بل ولا يستطيعون ايجاد انفسهم الا داخله. ولو فتحنا بابا مختلفا عن ذلك فنحن في الواقع انما نصنع اسلحة تحفز الجميع على الصراع بدلا عن ان تصنع السلام الانساني. اذا كنا فعلا نرى في وعي الحداثة قيمة حضارية فلا بد قبل ان نفرض هذه القيمة ان نمهد لها . يجب اولا ان نحقق قضايا اكثر اولوية لأنها يمكن ان تخفف الصدام الحتمي بين قيمنا الليبرالية وقيم المنظومات الثقافية ، فيجب اولا ان نكافح الفقر ، وان نحاول ردم الهوة الاقتصادية بين دول الشمال والجنوب ، وان نعمل على نشر التعليم ، ثم بعد ذلك يمكننا ان نخاطب الآخرين بما يمكن ان يستوعبوا اهميته. اذن؛ فرسالة الاستنارة لا يمكن فرضها عنوة وقهرا ، بل بتنظيف الارض قبل بذر البذور. بغير هذا لا يمكننا ان نلوم امتناع الكثير من الدول عن الانضمام لهذه المعاهدة. لأن هذه الاخيرة ستبدو كعدو يكشر انيابه تمهيدا لافتراس الثقافات. وهذا يعني الحرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى