عبد العال الحمامصي - لحظة

بلا توقع جاءت المفاجأة.. امتدت يد بيضاء صغيرة تحرك مقبض الباب في شقاوة.. وبوجهه المتورد, وشعره الذهبي أطل علي طفل صغير جميل.. ذو نظرات ملتمعة يؤكد بريقها الحاد رغبة في المشاكسة, أخذ يحدق في بنظراته المندهشة وكأنني مخلوق غريب قذفت به الأطباق الطائرة, ثم تحول عني يتفقد بنظراته الطائرة محتويات الغرفة وصور مشاهير الكتاب المعلقة فوق الجدران, ومن جديد عاد ينظر لي في استغراب كأنما قد اكتشف في أحد أبطال الحواديت الخرافية التي تقصها عليه المربية قبل أن ينام!!

ابتسمت له, ثم أومأت له بنظرات ضارعة مستجدية أن يدخل, ولبث برهة يشاور نفسه, ولست أدري لماذا كان الخوف يراودني خشية أن يرفض! في حذر وخطوات مترددة دخل واقترب مني وأخذ يحملق في متسائلاً بما يؤكد أن اللهفة البادية في نظراتي قد أثارت فضوله, بلا كلمة امتدت يدي تداعب خصلات شعره ويدي الثانية تربت خده. مسألة في منتهى الصعوبة أن نجد كلمات تتفاهم بها مع طفل وفي نفس الوقت تعبر تماماً عن إحساسنا.. لم أستطع مقاومة رغبتي الساذجة فألصقت فمي بوجنته, نظر إلي, عيناه تقولان لي أمن أجل هذا دعوتني?!

فتحت درج مكتبي وأخرجت بعض المجلات المصورة وقدمتها إليه, فأخذ يقلب صفحاتها بسآمة ثم مط شفتيه وألقاها أمامي.. كانت بالنسبة لي مسألة مهمة أن أرضيه, أن أرى البهجة في عينيه, فأخرجت بعض الصور الملونة للممثلات. ولكنه أيضاً هز كتفيه, ثم امتدت يده تعبث بالساعة الصغيرة القديمة في رسغي, لو طلبها ما ترددت في أن أعطيها له, لو عرفت حتى أنه سينثر أشلاءها فوق البلاط أمامي, لكنه ترك يدي وجرى إلى الشرفة عندما تناهت إلينا من الشارع ضجة معركة, ثم عاد إلي من جديد وأخذ(ينبش) محتويات سلة المهملات بجانبي, وتعلقت نظراته الماكرة بقشور التفاح الأمريكاني في قاعها, ورفع نظراته نحوي!!

صغيري اللذيذ معذرة. تذكرت أن هنا في درج مكتبي تفاحتين نسيتهما بالأمس, بقايا وليمة أقامها لنا أديب من قطر شقيق نشرنا عن آخر دواوينه دراسة تمدحه, خذ يا عصفوري.. وقدمت له واحدة منهما, أخذها مبتسماً, وبحركة سريعة كأنما يخشى أن أستردها ومن دون كلمة تركني وجرى إلى الصالة يتفوه بكلمات لم أفهمها!!

بخروجه عادت الأزمة تجرفني من جديد وقصاصة التحذير مازالت أمامي, ألا يستطيع أخي أن يجد وسيلة يلغي بها قرار نقله, فهو على صلة متينة بأحد أصحاب النفوذ في الوزارة ويمكنه بسهولة أن يخدمه, ولكن من أدراني, ربما يكون أخي هو الذي سعى لهذا النقل من تلقاء نفسه, ربما ليتخلص من أعباء إقامتي معه, من أدراني?!

فوجئت بهذا الاحتمال يسيطر على تفكيري, ويزيد الأزمة سواداً في نظري, هل يمكن أن يتخلى عني أخي بهذه الطريقة? وفوجئت بالصغير يعود من جديد.. لم يكن وحيداً, كان يسحب طفلة صغيرة من يدها وهي تتعثر في خطواتها وتكاد تقع وهو يجذبها بشدة لا تناسب احتمالها, حتى جاء عندي, نظر إليها أولاً ثم أعاد نظراته إلى الدرج الذي أخرجت منه التفاحة وأخذ يتأملني من دون كلمة, ابتسمت له أقول: أهي هذه القطة أختك? أجابني وهو يداعب التفاحة في يده:

ـ نونو.. ماما.

حملتها بين ذراعي وأدنيتها من فمي أقبل شعرها, وديعة, على نقيض شقاوته تماماً, وهي تنظر إلي في استغراب وتوشك أن تهم بالبكاء, ولم يستطع هو الانتظار, فسحب الدرج بنفسه وأخرج لها التفاحة الباقية ووضعها في كفها, فأخذت تنقر عليها بأصابعها النحيلة, ثم رمتها إلى الأرض وهي تبتسم وعندما كاد الصغير يلتقطها أزاحته في مرح وتناولتها, ثم جريا معاً وهما يضحكان, وقبل أن يصلا إلى الباب كانت أمهما قد خرجت من عند طبيب الأسنان تنادي عليهما, ثم أطلت داخل غرفتي تبحث عنهما ـ يا لكما من شيطانين صغيرين, معذرة يا أستاذ.. عفاريت هم أطفالي!

قالت هذا وهي تبتسم برقة, ابتسامتها العذبة تؤكد أنها تفاخر بشقاوتهما, أكثر من أن تعترض عليها!.. من لهجتها عرفت أنها يونانية طالت هنا إقامتها.

وعندما فوجئت بما في أيديهما اكتسي وجهها الوسيم بالغضب, وتلاشت العذوبة من عينيها وهي تنظر إليهما في تأنيب وتتفوه بكلمات غاضبة.. لا أعرف لأي لغة تنتمي!

ثم انتزعت من يد كل منهما التفاحة التي تحملها, وفي صمت وضعتهما فوق مكتبي. كانت مفاجأة قتلت الفرحة الطارئة التي كان يفيض بها قلبي, وأحسست بمشاعري تنزف إذلالا وأنا أقف مرتبكاً أحاول أن أجد كلمات أقولها:

ـ سيدتي.. بحياتك.. إنها بالنسبة لي مسألة سعادة.

وتناثرت من فمي كلمات لاهثة متعثرة لا أعرف بالتحديد ما هي..

ـ متشكرة جداً.. يا أستاذ.. متأسفة بالنسبة لي أيضاً مسألة تربية!

قالت كلماتها وهي تضع حقيبة يدها تحت إبطها ثم سحبت ولديها عنوة كل منهما في يد, الطفل يرفس في مقاومة مقهورة, بينما سكنت الصغيرة وهي تحملق في, وفي أمهما الغاضبة, ونظراتها المندهشة تتساءل عن تفسير لكل هذا!! أحنيت رأسي فوق المكتب بينما تناهت إلي خطواتهم تعبر الصالة!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى