إبراهيم محمود - خيمياء النطفة.. فكر ونقد

سعيدةٌ هي هذه النطفة التي لا تكف عن الكلام والاستمرار في الحياة

من بين المفارقات الكبرى التي شغلتني بمفهومها الفلسفي- التاريخي، مفارقة " النطفة "! تُرى ما الذي صيَّرها الآمرة الناهية، لتكون لها كل هذه السيطرة السيادية، ليكون لها كل هذا الحضور، كما لو أنها الوجود المتجاوز حتى للميتافيزيقا، كعلم ما لا يُعلَم ؟ بخيلائها العتيد !
كيف أمكن لهذه " الخلية الإنتاشية الذكرية " ومكَّنها من أن تكون بمثل هذه الهيبة والتفرد، لحظة إماطة اللثام عن حراك الجنسانية الثقافية العربية- الإسلامية ؟ كأني بها القادرة على التوليد والاستيلاد والتوالد، كأني بها الحاملة الجوهرية لكينونة الكائن دون نظيرتها: البييضة الأنثوية!
إذ ليس من الصعب التأكيد على أن هذه الثقافة الآنفة الذكر تقوم على محورة القضيب، وبروزه، وتعاليه وشكله العَصوي المرنان اللسانيّ النابذ، وكراهية الفرج الذي يشمل – أساساً- كلاً من عضوي الذكورة والأنوثة " من الانفراج والظهور "، لكن الاستئثار بمفردة متشامخة، تحتكر الجينالوجيا، دفع بالفرج إلى المرأة، إلى الأنثى ليفعَّل به وفيه، وهو فاعله وفعله مدرَك ، في الوقت الذي يعلم كل منا، أن عمر القضيب بمفهومه العضوي النشط محدود بالنسبة لعمر الإنسان، خلاف الفرج وقابليته للتفاعل وتحقيق المتعة، أو توفير النشوة لـ" صاحبه " !
ولا أدل على ذلك، في سياق تتالي السيطرة الذكورية، من هذا المشار إليه من حيازة الإنسال إليه، في مفهوم " الوالدين- الأبوين "، حتى في النص الديني: القرآني وامتداده الفقهي، لتكون المرأة مدغمة بالذكر باعتبارها الاشتقاق التابع، في " تائها المربوطة " كما هو " فرجها " !
سيكون ذلك، مدعاة للكثير من التقصي في حقيقته، وأي حقيقة أحيلت إليه: الذكر، وعرّف بها، وذلك من خلال مقاربة محيطية بصدد " النطفة " حيث إن " خيمياء النطفة " جديرة للقيام بهذه المهمة الافتراضية، وكيفية التحرك في " دنيا الهوامل " لصالح " سلطة الشوامل " المقوعدة!
كيف أجيزَ لهذه النطفة أن تؤدي الخيمياء على الصعيد الثقافي العربي- الإسلامي تحديداً، بمثل هذه الحاكمية الرمزية، وهي تتضمن علوماً وفنوناً شتى دون إغفال ما يخص الطب، وحتى على مستوى التحليل النفسي، ومشغّلات المفهوم الذاتي المضخَّم والموضوعي المفخَّم فالملغَّم !
نحن إزاء تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب! أما وقد استعرنا الخيمياء هذه بغية إنارة مفهوم " النطفة " وسر افتتانها الذاتي، فلأن الخيمياء الذكورية تحوز مختلف القيم الدنيوية والماورائية، حتى على مستوى الأخيولي، لبهرجة المشهد العائد إلى " إرادة النطفة " هذه !
يغيب الأثر الأنثوي، أعني بذلك تهمَّش المرأة إلى حد كبير، وهي بملحقها " التاء المربوطة " عند تأنيث المطلق الذكوري، مع العلم أن الأنثوي هو الفاعل وهو المراهَن عليه قولاً وفعلاً.
فنحن نتحدث عن التكاثر، والتكاثر ليس إنجازاً نطفوياً بداهة، والأكثر لفتاً للنظر: نحن نتحدث عن ولادة الفكرة، ولادة النص المختلف، ولادة الاسم المنتظر، ولادة التاريخ، ولادة الإبداع، ولادة الفن...الخ، وهذه تستبقي الأنثى دون الذكر عند مقاربتها وتجلّيها.
النص لا يُستبعَد أن يكون رحماً وهو يطرح، ولو بأثر نطفوي، ما هو ملقَّح " تهجينياً " ما هو جدير بالانتظار والابتهاج لمطلعه وانتشاره، والفكرة ذاتها ليست أكثر من رحم يعيش وضعية مخاض، يكون الذكري هو الغائب، وإن لم يُتنحَّ أثره " بمفهوم الحمْل ".
أوليس الحديث عن " مخاض الفكرة " وضعية رحمية أساساً، وما في ذلك من ضمان الحضور المستمر للأنثوي، وليس للذكري. ويمكن إمعان النظر، مثلاً، في قولة نيتشه " 1844- 1900 " إذ يعلِم طبيبه النفسي أساساً في فيلم يخصه، وهو " عندما بكى نيتشه when nietzsche wept " إنني أعيش مخاضاً مستمراً " وهو يشير إلى رأسه، مثيراً ذهول الآخر من هذا التعبير !
يكون الرجل، والذي يعيش تفاعلاً مع الكتابة والفن وما هو جديد، حاملاً بالفكرة وليس لها، إنه في المتن رحم يتلقح، وهو لاعب دوراً مؤقتاً، ليتولى الرحم بمخاضه المستدام عملية رعاية الفكرة، أنى كان نوعها " وحمايتها، ومن ثم طرحها خارجاً!
لم يكن في مقدور المفتون بالحضور الأنثوي والحاسد بعقله، إلا أن يمكر تاريخياً بثقافة كاملة شاملة عاملة في مختلف مجالات العيش الدنيوي- الأخروي، وتفعيل الأثر الفارض في كل ما يمكن قوله وفعله بسلطة محتكرة من لدنه، دافعاً بنطفته لتكون " الأول- الآخر " في مضمار إحالة الجينالوجيا إليها وهي بمعلمها الذكوري، ذلك من شأنه، ومع الزمن، الإخلال بمبدأ الحياوة مباشرة، واختزال مفهوم الحياة بالذات، كما لو أن النطفة بخاصيتها الآدمية تلقح نفسها، وتكون الأنثى بمائزتها " البييضة " طارئة، أو عرَضية، وما في ذلك من التفاف مشرعن على قدراتها.
ذلك جدير بأن يُتعقَّب، وأن يخرَّج ما هو مغيَّب أو متستَّر عليه، ولا أشكنَّ للحظة واحدة، أن كثيراً مما نعيشه راهناً، من انفلاقات، انشقاقات، احترابات، لا ينفصل عن ثقافة أحادية الطرف، لا بل ومريعة من هذا القبيل، فالأنثى لا تغيب، إنما تحضر مهيكلة، مجوَّفة، كما هو شكل " الفرج " الذي يكون مرتجعها، ليختزل المجتمع، الطبيعة، الكون، والخالق تبعاً لمخلوقه ..!؟


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى