محمد جمال طحان - زحمة .. لا تطاق

عندما تتفاقم الأمور في الرأس الصغيرة وتزدحم الأفكار, تغدو الكتابة عما يجول في الخاطر فعلاً مستحيلاً . الزحمة - حتى في الرأس- عذاب يجعلنا نندم على الأيّام التي قضيناها خلف مقاعد الدرس، وبين تلال الكتب في المكتبات العامّة. ذلك النهم الشاسع نحو التعرّف إلى العالم عن قرب، أورثنا تلك الزّحمة اللامتناهية في كلّ مكان .

زحمة الكتب في مكتباتنا الخاصة التي استشرت كالسرطان، وسرعان ما امتدت إلى المطبخ والسقيفة وغرفة النوم . زحمة السيارات التي أفرزتها بنات أفكار الإنسان الذي لا ينفكّ يفكّر في أنجع الوسائل للراحة, غير مدرك أن كلّ اقتراب خطوة يبعده عن الراحة أميالاً.

زحمة النّاس الذين تكاثروا كي يعمّروا الأرض فراحوا يعجّلون في خرابها نتيجة الفقر والصراعات والحروب .

وأحدث ماتوصلنا إليه هو زحمة ( الايميلات ) حتى كادت تخرب عقولنا من كثرة مانراه ونسمعه ونقوله . كلّ شي يفرّخ بطريقة عجائبية .. الناس ..الكتب ..المجلات .. الصحف .. القنوات الفضائية .. السيارات .. المكتشفات والمخترعات ....

في كل يوم نقرأ ما يعادل كتاباً .. ونسمع ما كان أجدادنا يسمعونه في شهر .. ونتكلم أكثر مما كانت يتكلمه (محمود سعيد ) في إذاعة القاهرة خلال شهر .

ولكن ما حصيلة ما نقرأ ونسمع ونقول ؟ لاشيء ..

تقرأ الصحف الكاذبة .. ولوحات الإعلانات التافهة .. والمعاملات المستعصية .. ولوحات السيارات ..والترجمة الغبية لأفلام متلاحقة بلا طعم ولا لون . نستمع إلى نشرات الأخبار والأغنيات والحوارات التافهة بين المذيع والمستمع والشكاوى المكررة , وفي الشارع نسمع الشتائم المتبادلة, وفي الدوائر الرسمية تدور النميمة على الزملاء الغائبين، ثم نكمل الدورة في اتحاداتنا ونقاباتنا ومقاهينا ليزدحم في دواخلنا النفاق فنكاد نظنّه أمراً طبيعياً ما يجعلنا ننقل الصورة نفسها إلى البيت والأقارب والجيران .

كنا نقرا كتاباً ونرقب مسلسلاً إذاعياً كل أسبوع، ونطالع صحيفة ونستمع إلى أغنية كل يوم، وتدور الأحاديث حول الكتاب والخبر والأغنية, فصرنا نُعرِض عن الكتاب ونكتفي بعناوين الصحف ونتابع التلفاز صباح مساء، وتدور أحادثينا حول مشكلات السياسة والاقتصاد والثقافة والفن لنؤكّد في كل مرّة أننا على صواب والآخرون على خطأ .

نتحدث عن عَظَمة (بفتح العين والظاء)أجدادنا في العلن ونلعنهم في السر, نمجّد قيمنا السابقة ثم نمارس الموبقات بكامل طاقتنا .

زحمة.. زحمة.. وزحمة الكسل لدينا تغطّي على زحمة العمل، حتى نغدو عاطلين تماماً، نتشاغل بالتفاهات اليومية ولا نستسلم للنوم إلا بعد أن نضطر إلى الارتماء كالقتلى كيفما اتفق وفي أي مكان . كنا نمرّ إلى الفرن ونتحدّث إلى الفرّان ونحن نرتّب الأرغفة الساخنة المنتفخة بوجهها الضاحك, ونتناول إبريق الحليب من الراعي صباحاً, وإبريق العرقسوس من السوّاس عند الظهيرة , وندفع فاتورة الماء للجابي القادم ونحن نبتسم له, فصرنا نصطفّ على الأفران كالخراف المساقة للذبح, ونتدافع في زحمة الباص , وزحام دفع الماء والكهرباء وضريبة النظافة وفاتورة الهاتف وتأمين التموين .

وزحمة تدفع زحمة , لهذا- وفي زحمة المسؤوليـات - يتهرب أي مسؤول من سؤال جوهري وبدهي : كيف يعيش المواطن إذا كانت أمامه تلال من الفواتير كل شهر, ومهما يكن مقتصداً ومقتّراً ، حتى ولو بدا بخيلاً في نظر زوجه وأولاده فإنه غير قادر- بدخله الحالي-على توفير أي قرش من دخله بعد دفع تلال الفواتير كأي مواطن صالح . ومهما يكن مجدّاً ونشيطاً , فإنه لايمكن أن يشتري كيلو بصل أو ربطة فجل مالم يشتغل بمهنة إضافية، هي عمل ثانٍ للموظف، يستغرق منه ثماني ساعات على الأقل , فضلاً عن الساعات السبع في عمله الوظيفي, ولا يبقى لديه، لكل شي آخر، سوى ثماني ساعات لدفع الفواتير وتأمين المشتريات وزيارة الأصدقاء والأقارب وتسيير معاملات السفر والبيع والشراء ومجالسة الأولاد والقراءة والكتابة والنوم .

زحمة في العمل وزحمة في الكسل .. حتى المقابر غدت زحمة, وكلٌّ يزاحم سواه حتى غدت المزاحمة مهارة لايقدر عليها الكثيرون . وقبل أن تزاحم الكلمات بعضها بعضاً أكتفي بالقول الذي لن يظن أحد أنه المقصود بقولي : ارحمونا من الزحمة يرحمكم الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى