عبد القادر وساط - من أخبار الطاغية مع الوزير المكلف بالسكارى و الحانات

جاء في الجزء السابع والأربعين من كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا أبو سعيد السراج، عن أبي الحسن الصوري، عن أحمد المزني، عن شيخنا أبي الفضل النجداني، قال:
شهدتُ يوماً مجلسَ الطاغية وعنده الوزراء والشعراء والأعيان، فدخل الوزير المنتدب لدى وزير الشرطة، المكلف بالسكارى والحانات، وهو الشيخ والبة بن إياس الكناني، الملقب بمُغالِب الدهر، فوقف أمامه وحياه بتحية الطغيان ثم قال له:
- يا مولانا المستبد بالله، لقد قمنا باعتقال الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي بن الحسن بن محمد بن موسى الشيباني.
فقاطعه الطاغية متسائلاً:
- الخطيب التبريزي؟
فأجابه الشيخ:
- هو بلحمه و دمه يامولاي. والغريب أننا اعتقلناه وهو سكران، في مطعم فخم بأحد الفنادق، وسط المدينة. وكان يلبس فاخر الثياب وعلى رأسه عمامة مذهبة، وأمامه ما لذ وطاب من الطعام والشراب.
فنظر الطاغية إلى الشيخ والبة الكناني نظرة ذات معنى، ثم قال له:
- وهل في هذا الذي ذكرتَهُ ما يدعو للاستغراب؟ لكأني بك، أيها الوزير، لم تقرأ معجم الأدباء لياقوت الحموي. فإذا كنتَ فعلا لم تقرأه، فسوف أعرضُ عليك الآن من الذاكرة ما قاله ياقوت عن الخطيب التبريزي في هذا الكتاب. يقول صاحبُ معجم الأدباء: كان الخطيب التبريزي يدمن شرب الخمر ولا يُرى صاحياً أبداً. وكان الناس يقرأون عليه تصانيفه وهو سكران، فلذلك يُرى فيها الغلط الظاهر. وكان يلبس الحرير والعمائم المذهبة، و كان أكولاً نهماً، يأكل في مجلس واحد عشرة َ أرطال خبزا وما يتبعها من الأدم ."
قال شيخنا أبو الفضل:
ثم إن الطاغية شرع يحدق في الشيخ والبة بن إياس الكناني قبل أن يسأله:
- أخبرني، أيها الشيخ، هل تمتُّ بقرابة ما للشاعر مطيع بن إياس الكناني، صاحب هذين البيتين:
أسْعدَاني يا نخلتَيْ حُلْوانِ = و ابكيا لي منْ ريب هذا الزمانِ
و اعْلما إنْ بَقيتُما أنّ نحْساً = سوف يَأتيكما فتفترقانِ
فأجابه الشيخ وقد خفض بصره:
- إنما هو تشابُه ٌ في الأسماء، يا مولانا المستبد بالله.
قال الطاغية:
- إني لأعجب كيف وليتُكَ الوزارة َ، أيها الشيخ، مع أن اسمك يذكرني بهذا الشاعر الكوفي الماجن، الذي كان يُتهم بالزندقة والأ ُبْنَة، والذي ارتبط اسمه بهذين البيتين المشؤومين. وعلى أية حال فسوف أمتحنك الآن في أمور السكر وفي الخمر وأسمائها، لأرى إن كان ينبغي إبقاؤك في هذا المنصب الخطير، الذي هو منصب الوزير المكلف بالحانات والسكارى.
قال شيخنا أبو الفضل:
فلما سمع الوزير مُغالبُ الدهر كلامَ الطاغية، علته صفرة الموت ولبث واقفا لا يتحرك، إلى أن سأله المستبد:
- أخبرني في البداية، أيها الشيخ، عن الحالات والأطوار التي يمر بها شارب الخمر.
فتماسك الوزير المسكين وأجاب قائلا:
- يقول أستاذُنا وشيخُنا أبو منصور الثعالبي: " إذا شربَ الإنسان ُ فهو نشوان، فإذا دبَّ فيه الشراب فهو ثمل، فإذا بلغ الحد الذي يوجب الحد فهو سكران، فإذا زاد وامتلأ فهو سكران طافح، فإذا كان لا يَعقل شيئا من أمره ولا ينطلق لسانه فهو سكران باتّ..."
قال الطاغية:
- أحسنتَ، أيها الشيخ، فأخبرني الآن لمَ سُميت الخمر بالقهوة؟
أجاب الشيخ:
- سُميت الخمر بالقهوة، يا مولاي الطاغية، لأنها تُقْهي صاحبها، أي تَذهب بشهوة الطعام لديه.
ومن الشعر الذي وردت فيه القهوة بمعنى الخمر، قول السري الرفاء:
فاخلعْ عذارَكَ و اشربْ قهوةً مُزجَتْ = بقهوة الفلج المعسول و الشنب
فابتسم الطاغية و عاد يسأل الشيخ الوزير:
- فلمَ سُميت بالشَّمُول؟
قال الشيخ:
- لأنها تشتمل على عقل صاحبها. وقد وردت هذه اللفظة كثيرا، يا مولاي المستبد بالله ، في أشعار العرب. ومن ذلك قول المتنبي في مدح سيف الدولة:
ليس مَنْ عندهُ تُدار المنايا = كالذي عندهُ تُدارُ الشَّمولُ
قال الطاغية:
- فهات ما لديك عن باقي أسماء وصفات الخمر.
قال الشيخ و قد ذهب عنه الروع واطمأن:
- من أسماء الخمر، يا مولاي، الراح. وذلك لارتياح شاربها إليها أو ربما لريحها... وفي هذا يقول ابنُ الرومي:
والله ما أدري لأيَّة علَّة = يدْعونها في الراح باسم الراح ِ
أَلريحها أمْ رَوْحها تحْت الحشا = أمْ لارتياح نَديمها المُرْتاح
وقال المتنبي يصف زجاجة تحتوي على الراح:
كآنّ بياضها و الراح فيها = بياضٌ مُحْدقٌ بسواد عَيْنِ
ومن أسماء الخمر أو صفاتها المدام أو المدامة، لأنها تدوم طويلا في الدنان. وقد قال ابن الرومي:
ومُدامةٍ أغْنَتْ عن المصباح = يَلقى المساءَ إناؤها بصَباح
أما السلافة ، فهي أجود الخمر وأصفاها. و قد قال الوليد بن يزيد:
طاب يومي ولذَّ شُرْبُ السلافه = إذْ أتانا نعيُّ مَنْ بالرصافه
والكُميت -أدام الله طغيانكم يا مولاي - من صفات الخمر الضاربة للحمرة. وقد ذكرها الغلام القتيل في معلقته فقال:
فمنهنّ سبقي العاذلات بشربة = كميت متى ما تُعْل بالماء تزبدِ
والعُقار هي التي عاقرت الدن زمنا طويلا أي لازمته. وعنها يقول أبو دلامة:
عُقار مثل عين الديك صرفٌ = كأنّ شعاعها لهبُ السراج ِ
والخمر تسمى البابلية، نسبة إلى بابل، وتسمى الخَنْدَريس إذا كانت معتقة. وقد قال أبو الطيب:
ألذُّ من المُدام الخندريسِ = و أحلى من معاطاة الكؤوس
وتسمى أيضا الطلاء والقَرْقَف، لأنها تُقَرْقفُ شاربَها إذا أدمنها، أي تُرْعشُه...
وفي تقسيم أجناس الخمر- يا مولاي - يميز القدماء بين الصهباء، وهي من العنب. ذكرها حسان بن ثابت حين قال:
و لقد شربتُ الخمرَ في حانوتها = صهباء صافية كطعم الفلفل
والقنديد، الخمر المستخرجة من القَنْد، أو التي لها طعم كطعم القند، وهو قصب السكر. يقول المتنبي:
و عندها لذّ طعْم الموت شاربه ُ = إنَّ المنيّة َ عند الذل قنديدُ
قال الطاغية:
- حسبك، حسبك أيها الشيخ الوزير. والحمد لله الذي جعلنا من الذين ينطبق عليهم قول المعري:
فتىً عشقَتْهُ البابلية ُ حقبة ً = فلمْ يَشْفها منه برَشْفٍ و لا فمِ
ولم يجعلنا من الذين يرددون قوله في سقط الزند:
تمنيتُ أنّ الخمرَ حلّتْ لنشوةٍ = تُجَهّلُني كيف اطمأنتْ بيَ الحالُ
قال الشيخ أبو الفضل:
فلما انتهى الطاغية من كلامه ذاك، التفت إلى وزير الشرطة وقال له:
- إذا كان الغد فجئني بالشيخ السكير الخطيب التبريزي كي أنظر في أمره!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى