إبراهيم محمود - شجرة المحظورات

كيف أمكن لشجرة مرسومة في الجنة، أن تكون سبباً لإخراج آدم وزوجته حواء، ونفيهما إلى خارج مدارها، وقد تم ربط مصيرهما وذريتهما بعلاقتهما مع متغيرات الأرض ؟
لكن سؤالاً جنتيّ العلامة يطرح نفسه، وهو: هل حقاً أنها كانت شجرة المعرفة؟ ثم: أإلى هذه الدرجة تكون المعرفة مخيفة وصادمة لصاحبها؟ وكذلك: في الحالة هذه، ماذا كان يفعل الزوج البشري الأول تحت سمع الله وبصره ؟ أكانا يتفاعلان مع بعضهما بعضاً جنسياً ؟ في السياق نفسه: أي نعمة إلهية كانا يعيشانها في ظل التهديد والوعيد بعدم التقرب من الشجرة الموسومة إلهياً؟ ألسنا إزاء حقيقة أبعد من كل ما أشير إليه حتى الآن، بصدد مخالفة الأمر الإلهي؟
نحن بصدد فاعلية المكر الإلهي " والمكر توصيف قرآني لإجراء إلهي "، والذي يستند إلى مقولة: حتى لو أن الزوج البشري لم يخطئ في الحساب الإلهي، فإنه كان سيتعرض لمساءلة، أو لمحاكمة إلهية معينة يكون جرّاءها طردُه من الفردوس الإلهي، وعدم المشاركة في أبدية الإله الأوحد.
يعني ذلك، أنه رغم كل محاولات التفسير والتأويل بالنسبة إلى شجرة المعرفة، والمعرفة وصلتها بما هو جنسي " هل حقاً أن تناول المعتبَر بـ: الثمرة المحرَّمة دينياً تقابلَ مع كشف السوأة وهو ما ينافي حضور العري المكشف وكونه لا يليق بمقام الإله الجليل؟ " ثمة ما يخرج عن هيمنة التسمية: تسمية الشيء والقبض على معناه داخلاً وخارجاً. فأي زوج مجوَّف كان وهو مسلوب القدرة على معرفة من يكون وما عليه القيام والتمتع به ؟
ربما كانت الإشارة الأولى لهذا الإجراء الردعي تكمن في التالي:
في البدء كان المحظور !
وعلينا تبيّن الزمن البشري الذي أدرك فيه مكانة الحظر في ثقافته الشفاهية والكتابية !
ربما ذلك هو محتوى القانون، أنَّى كان طابعه أو مصدره، فثمة دائماً ما ينبغي تجنبه، تعزيزاً لحضور سلطوي بداية ونهاية: كل الأشجار باستثناء شجرة واحدة. كل الأبواب باستثناء باب واحد. كل المشروبات باستثناء مشروب واحد. كل المتع باستثناء متعة واحدة...الخ، وهي التي تستبقي القانون الردعي، هي التي تخرج الزمنَ من خاصيته المطلقة وتجري عليه تقسيماً، وتخضعه لتراتبية اعتبارية: الزمن الإلهي- الزمن البشري.
ولا بد أن شجرة المحظورات على تماس مباشر بهذه اللائحة الكبرى من الرغبات، إذ إن الشجرة بمفهومها المطلق رمِزت إلى الخصوبة، والوصل بين الأعماق والآفاق، لكنها قد تكون رمزاً قضيبياً مثمراً: منجباً، مثلما قد تكون مغروسة في العمق الأرضي: الرحم تماماً، مثلما أن الشجرة قد تكون ثنائية الجنس، وهو ما ينبغي النظرر في أمره كذلك.
وربما علينا هنا أيضاً أن نتعرف على ما هو ديني ضمن هذه السيرورة المعلقة، في إطار التعامل مع النص القرآني، لنجد أن التفسير لا يعدو أن يكون هذا المباح الاعتماد عليه لينعَم المخاطَب بما هو موهوب له جنتياً، ويكون التأويل تلك الشجرة المحظور الاقتراب منها. لكن التفسير في مبتداه ومنتهاه كان بشرياً، وبلسان أشخاص غير معصومين عن الخطأ، وما الجرح والتعديل إلا محاولة إلا لرأب الصدع الذي يتوقف في نصّية " الرواة الثقاة "، ورغم ذلك، حتى إن تابعنا التفسير بوصفه بوصلة قيادة" هداية " نجد أن الذين شدَّدوا عليه لم يحموا أنفسهم من نفسهم الموسوسة وتلك الأمارة بالسوء، فالنفس المطمئنة يوتوبيا القول غالباً، وكأن التفسير خلاص واقتناص للفرصة الذهبية لضمان دخول الفردوس الإلهي، ولكن التأويل كان مرافقاً حتى وهو مطارد، وما أكثر ما كان التفسير استرقاقاً، والتأويل عتقاً منه واستنطاقاً له في عمومه بالمفهوم البشري، والسعي إلى إقامة علاقة ديناميكية أرحب مع منزّل النص، ما أكثر ما كان التفسير تثبيتاً بمنحاه التقديسي وفوبيا النطق بكلمة السرد و" المرور " لاكتناه حقيقته، والتأويل تحريكاً ومكاشفة لهذا الجاري، ليكون التفسير حجاباً نصياً وتأنيثاً له، ليكون وقفاً على " أولي أمره "، ليكون ليلياً، والتأويل نهارياً ومقاربة لبناه أكثر، وحتى التفسير الذي يعني السفور من جهة التعامل مع النص، فهو تأويل مروَّض، ولم يسلم من الإحراجات التاريخية ومساءلة الذين عنوا به وانطلقوا منه، لم يلتزموا بشرطيته وهم يتحاربون وهم صحابة وتابعو صحابة...الخ" يمكن النظر تاريخياً فيما أضاءه الألماني نولدكه قبل قرن في كتابه الضخم: تاريخ القرآن "، وحتى الذين أرادوا تجنب ملامسة الشجرة المحرمة، لم يسلموا من المساءلة، ومما اعتمدوا عليه وسلسلة الإحراجات التي تطالهم، ليكون التفسير هنا تسوية والتأويل تعرية " تتبعتُ بعضاً من هذا " الهوى " المعرفي في كتابي : صائد الوهم، الطبري في تفسيره، دار كتابات، بيروت، 2003 ، والمؤسف أنه لم يوزَّع البتة جرّاء هذا الحظر المنوَّه عنه ".
في عود على بدء، أليس مجرد التذكير بالممنوع أو المحظور، يعني كيفية احتوائه، معايشته؟ أي حيث يكون تجنبه سعياً إلى معاشرته بصورة ما أو بأخرى، وكيف أنه يتسرب إلى اللاشعور ويشكّل مع الزمن سلطة نافذة، كثيراً ما تجد مسالك/ مسارب / مخارج لها للتعبير عن نفسها على صعيد فلتات اللسان، أو خفية، أو بحيلة فقهية معينة تبعاً لمتغيرات الزمن .
ما الذي كان يحصل لو لم يُشَر إلى الشجرة المغايرة " لا تقربا هذه الشجرة "؟ بالمكاشفة النفسية المباشرة، ألا يعني هذا القول: نعم، والمقصد هو أن تستجيبا للمختلف، أن تقرباها، وقد تم ما هو مقدَّر، والمقدَّر شديد الحضور بمؤثراته الإلهية، أو الخفية تحديداً .
وإذا كان النظر يخضع لتقنين، فلأن فيه ما يعبر المرئي وما جرى التعتيم عليه، أو ما جرت تغطيته، وإذا كان الطعام يخضع لقواعد " الأكل " فلأن فيه ما يجب مراعاته، جهة النوع، بغية اشتهائه، وهو ما يضاعف ثمة بلوغه، وهذا ما يمكن تعميمه كقاعدة على جوانب حياتية شتى.
وأن تكون الشجرة الخارجة عن سقف التاريخ البشري، خارج النطاق الأرضي، وهي لا تنفصل عنه عملياً، فلأن ذلك تعميق للحضور الماورائي: الإلهي، إذ دون هذا الحظر لا يكون مأخوذاً بعين الاعتبار، أو بالحسبان، ليكون الثواب والعقاب علامة فصل بين من يستحق العودة إلى المكان الأول، فيكون تناول الثمرة المحرمة ذاتها مباحاً، ومن يستحق العقاب، وهو الحرمان من تلك الثمرة وكل الثمار الأخرى، حيث النار تكون النقيض، وما في ذلك من لعبة مبتدعة واقعاً، أي يكون القانون بمفهومه السلطوي فاعلاً، وما فيه من تبعية ونوعها، ومكافأة المطيع، وحصيلة هذه الطاعة وتأثيرها على كلّية النفس. يا لرعب هذه الشجرة التي تتراءى عصا غليظة وكونية !


[SIZE=6]إبراهيم محمود[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى