إبراهيم محمود - نظرة آدم

هل كان لدى آدم، آدم الموصوف بأبي البشرية، هذا المجبول من تراب، نظرة دقيقة إلى الأشياء؟ لا بل هل كان يبصر ما حوله ليحسن التمييز بين الموجودات ؟
أنا لا أتساءل هنا عن حقيقته " بدقة "، عن لونه مثلاً، لأحسِن التعرف على الأعراق البشرية وما إذا كان البشر جميعاً " جميعاً من دون استثناء " ينتسبون إليه وهم في اختلاف ألوانهم، أو شكله وحجمه: عملاقاً، ربعاً، متوسط القامة...تبعاً للمتداول عنه هنا وهناك، ولغته تحديداً، لأزداد تعرفاً عليه، وهو ما أقلق ويقلق اللغويين قبل سواهم، ومنشأ اللغة وموطنها. أتساءل عن عينيه، وكيف كان ينظر: ماذا كان يرى، إلى أين كان ينظر، هل الأشياء كانت تتساوى لديه حين النظرر إليه، أم أنه كان يفضل جسماً على آخر، بأي وضعية كان وهو محكوم بعالم معين من حوله، من الذي كان يعنى بأمره: أكان حقاً كما هو اسمه أم مجرد مجاز مطلق ؟
ما الذي كان يثيره في " أمنا " حواء، وكيف كانت هذه من جهتها؟
تضعنا النظرة في قلب الوجود باعتباره وجوداً، وأن الموجود فيه لا يمكنه زعم امتلاك الوجود: معرفته، قابلية التصنيف والتعريف والتوصيف... ويعني أن ما أكثر أكثر الأشياء التي تجاوزته ولم يعد في وسعه ليس النظر إليها فحسب، وإنما كيفية وضع اسم لها، إطلاق اسم عليها، جرّاء الكثرة الهائلة. إذ ليس في إمكان البحاثيين الانتروبولوجيين أو دارسي الخليقة أن يقدموا وصفة فعلية " هوية موروفولوجية " عما كان عليه: ولادة ونمواً وانسكاناً بالكون .
ثمة الكثير من الأسئلة التي تطرق أبواب قواي النفسية- العقلية على خلفية من هذه المقاربة الكونية: البشرية: الإنسانية، ولأن أمره يعنيني كباحث وأنا أحاول اقتفاء سيرة ذاتية ما له، ومن ذلك: أكان لديه تلك القدرات التي أهّل بها ثيولوجياً ليكون فصيحاً سوى الخلق والتكوين محيطاً بما حوله من كائنات/ مخلوقات وأشياء التي يستحيل حصرها حتى اللحظة؟
كل ما في آدم يحيله إلى الخارج، ويغلِق عليه، باعتباره دون أب وأم، وأن كل ما يخصه تم تنصيبه لأخذ العلم به بقرار إلهي: من التخطيط " العلوي " بخلقه، إلى التخطيط السفلي حيث جبلَّته من التراب، ومن ثم منحه اسماً يتطابق ومعناه : من أديم الأرض، وجهه" ألهذا يراهَن على التفسير إلى درجة ممارسة العنف والعنف الإضافي لحظة المساءلة عما هو أبعد/ أعمق من التراب بوصفه أكثر من كونه وجهاً/ سطحاً ؟ "، وتقويله ما ليس لديه به علم: تجربة ...
لقد وجَد نفسه " بغتة " في الجنة: أي ذاكرة حملها معها لحظة طرده، أوحمّ لبها بأثر رجعي بغية إيجاد آصرة قربى بين مرحلتين ؟ هل كان لدى آدم ذاكرة، أم لسان يقوَّل به ليس إلا ؟
بعيداً عن التجاذبات الدينية، ومن خلال ما منزَّل عنه وما هو متداول باسمه في بطون أمهات الكتب التاريخية، يسهل النظر في من لا نظر له إلى الأشياء، أعني بذلك، ما يمكن أن يكون قدوة ومرجعية في اقتناص الأشياء وتوقع العواقب. وعلى متابع هذه الكلمات أن يحصر الذهن في هذا المفعول فيه، وليس الفاعل، إذ يكاد ينعدم فعله، على وقع توجيهه، ورغم ذلك كان ينتكس، بحيث يجازل فيه القول بأنه كان منزوع النظرة .
أعني بذلك : وجهة نظره فيما قدّم باسمه، وفيما يعنيه كمكانة، وموقفه من عروسه التي هي منه في التيولوجيا التوراتية ، ومنها كان الموروث المتعالي والمفروض، وهل لديه لسان ليقول ما يعنيه؟ أي ما يؤهله لكي يكون أباً ذا تجربة، وليس ما يصطدم به .
هنا أذكّر عن أنه ليس عرَضاً ما أورده رجل حكواتي كثيراً أعني به " الثعلبي " في " قصص الأنبياء " في سياق الحديث غير المسنَد عنه، ما ليس مسنداً فيه، وقد قدّم شاعراً، ويعرف العروض والتعبير عن تجربة حياتية " سابقة " :
تغيَّرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح
تغيَّر كل ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجـه المليح
وهي نظرة مستخلصَة من نظرة تشي بعالم مدرَك، واختلاط الأشياء، وبذلك يمضي المعري قائلاً:
غير مجد ٍ في ملتَّي واعتقادي نوح باك ٍ ولا ترنُّم شادي
خفّف الوطء ما أظن أديـــــم الأرض إلا من هذه الأجساد
ولا بد أن المعرّي" الشاعر الكبير " قد أخفق في التعبير والتوصيف إذ أحال أديم الأرض إلى جماع الأجساد، بينما الحقيقة المتلقاة هي أن الأجساد من أديم الأرض !
تضعنا النظرة في عالم الوجود بوصفه وجوداً مشغولاً بالأشياء، وهناك العلاقات التي تقوم فيما بينها، وهناك علاقات تقوم بين علاقات، وعلاقات تقوم بين علاقات لعلاقات، شأن الدمية الروسية إلى ما لانهاية كما هي لعبة المعرفة الفعلية، وأن البداية المقرَّرة إلهياً إنما ذات نسب ميتافيزيقي، ولم يؤرَّخ لها، وهذا يعزز من خيبة النظرة التي تحمل بصمة آدم، وتكون لأبنائه وأسلافه معيناً لسوية علاقات بينية .
أليست النظرة مترجِمة لملَكة الرؤية: العين، أليست العين ذاتها محكومة ببنية تجاربية تتيح لها القدرة على التقاط الأشياء وتصنيفها وتمييزها عن بعضها بعضاً: مجردة ومحسوسة، إلى جانب التفاعلات القائمة فيما بينها، والتفاوتات التي لا تخفى، ومن ثم أرشيف ذاكري بصري يستعان به كلما دعت الضرورة، إلا أن حكم الحتمية التي تقلّل من جدوانية النظرة لدية لصالح الإلهي، وما يعنيه هذا الضبط المنضبط، إن جاز التعبير، من إبقاء النظرة أكثر من كونها مهمَّشة .
النظرة قيمة وموقف وتحليل، ومكاشفة تحيط بشيء ما أو أكثر، ولقد نظرة آدم تعني ما هو مستقبلي، كما نكتب الآن، كانت من السعة والعمق والتفضّي ما يستحيل على المستحيل المعتمَد قولياً نفسه تقديم توصيف لها، كونها جسَّدت الجينة البشرية إجمالاً، كما هو المتردد في محيطنا، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. لكن مآسي البشرية تبقيها في واجهة المساءلة عن نوعيتها !
هذا ليس خروجاً على التاريخ، هذا إذا كان هناك من يمكن التعريف بالتاريخ، وأين وكيف، ومتى يكون، وما تكونه حدوده، إنما البحث في التاريخ ومن أجله، فأن ننهمّ بنظرة آدم، هو أن نقوم بمراجعة دقيقة لما يصلنا به، أي ما يكونه مفهوم الأصل بمكوّنه الآدمي وصلاحيته .
ذلك من شأنه إخضاع مفهوم " النظرة " لجملة من التحليلات التاريخية، المنطقية، الفلسفية واللغوية للوقوف على المتحصل من هذه المسمّاة بالنظرة، وما إذا كانت " الآدمية " باعتبارها صفة لها جديرة بالتبني، ما إذا كانت النظرة كمعيار قيمي، كمعطى نفسي، كاستبيان معرفي، مستأهلة لهذا الجانب من التقدير، أي ما إذا كان هناك نظرة كما يشاع عنها أم مجرد قول؟
أن يكون تاريخ آدم مذ أحيل إلى ما هو غيبي، ومن ثم أدخِل عالم الحكايات، والروايات غير المسندة أساساً، ونقَّع مخيال المفتونين بالسرد القَصصي، وما فيه من استكبار وتقية، إلى يومنا هنا، بمثل ما عرِف به من كوارث ونكبات وانتكاسات وتراجعات عن الحد الأدنى مما يسمى بالعقل نفسه، وحتى مقارنة بسلوكيات حيوانية، لحظة مكاشفة الحروب وأمرائها وضحاياها ومن ثم تداعياتها...الخ، فلنضع في حسباننا أن نظرة آدم ليست أكثر من انفعال حسي: بصري ليس إلا، وأن الذي يزكَّى بوصفه نعمة روحية، ليس أكثر من مؤاساة لا تنسي حِدَاداً ديمومياً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى