إبراهيم محمود - القُبْلة الأورُبيَّة

أتحدث هنا من واقع مشاهدات شخصية وتنقلاتي بين بعض المدن الأوربية، وأنا أركّز على " القبلة الأوربية " وخاصيتها خلاف المتداول عن " القبلة الشرق أوسطية عموماً والعربية- الإسلامية خصوصاً ". ما أعنيه هنا، ولأحمَّل بوزْر التحوير في المحتوى، هو أن القبلة الأوربية لا تنفصل عن علاقة ثنائية تفرد لها زمنَها الخاص، كما لو أن الآخرين في حالة غياب، وفي الوقت نفسه، حيث يكون المتوحدان في قبلة ما، يعيشان زمنهما الخاص وهو معترف به من قبل المحيطين به، وما يترتب على علاقة "قُبَلية " من هذا النوع من روح سيادية: فردية، بينما في القبلة الأخرى فهي موصول بما يشبه الصاعق بالقنبلة وطابعها الشهوي: الغريزي، قبلة لا تعلّم إنما تلغّم جسداً، رغم آلاف القصائد الحارة، الساخنة، الملتهبة، " الماجنة " التي قيلت فيها.
لا أعمم في بنية المفهوم، وفي السياق العنصري، إنما انطلاقاً من ثقافة ترتد بالمنتسبين إليها حتى وإن كانوا أحياناً في مجتمعات أوربية، طالما أنهم يضعون لسيستامها التربوي- التلقيني، وفي الوقت الذي يشار فيه إلى قبلة " وسائطية، برغماتيكية "، يبقى الفاصل الأكبر هو بنية المغذيات القيمية التي تسهِم في بلورة مفهوم القبلة بين شخصين: رجل وامرأة ودلالاتها .
ما يراد التركيز عليه هو في المنحى التعبيري الأكثر فخامة واحتواء بالروح، وكيف تمثّل القبلة في منظور المكاشفة الفلسفية المحك الأخطر في فصل المقال ما بين القبلة والروح من اتصال، أعني ما تكون القبلة تعرية للجسد في شيئنته، وتسمية له في ارتقاء الكوكبي فيه .
أي ما يقيم فصلاً ووصلاً في آن بين اجتماعية القبلة بأكثر مؤثراتها الباطنية، وفردانيتها بأكثر إيحاءاتها جمالية تعبير جسدية، وإشهاراً بهذه القيمة المركَّبة .
وفي الوقت نفسه، فإن المتردد يعنيني أنا في مقاربتي لما أنا متعرّض له، أي ديناميكية القبلة وموقعها في النسق الثقافي المختلف، والذي تتحاور فيه الذكورة والأنوثة بما ينمّيهما معاً .
أتذكر هذا المقطع من قصيدة مغنّاة من قبل محمد عبدالوهاب قبل " 85 " عاماً، ترجع إلى شاعرها اللبناني بشارة الخوري وهي ببنيانها الغاية في الرعب مناخياً:
جفنه علَّم الغزل ومــن الحب ما قتل
فحرقنـــا نفوسنا في جحيم مــن القبل
كيف يؤاخى بين العلم والقتل، وحرق النفوس في جحيم قبلي حيث النشوة قائمة؟ لماذا الجحيم بالذات؟ ألأن القبلة معرَّف بها إلى طريق سالك يقود إلى الجحيم ؟
في فيينا، ذات يوم، كنت في المترو، والوقت ظهراً، كان هناك شاب وشابة وهما متلاصقان، لا يكفّان بين الدقيقة والأخرى عن تقبيل خاطف لبعضهما بعضاً وأحياناً مع إطالة وهما وقوف، وحولهما الركاب، ودون أن يتلفت أحد إليهما و" جناية " الفعل .
وأعلم علم اليقين، أن هناك حالات لا تحصى كهذه، غير أن ما أرمي إلى توصيفه وتعريفه لا يقتصر على مجرد الرؤية المتروية، إنما ما يستنطق هذا المرئي في مكان كهذا.
في " الساحة الكبرى " في بروكسل، وهي ساحة كبيرة نسبياً يلتقي فيها بشر كثيرون مساء، سوى أن اللافت، أن هناك شباناً وشابات يستلقون فيها بجوار بعضهم بعضاً، فتكون القبل المتقطعة العلامة الفارقة للمشهد الشبابي بجلاء، والناس عبور.
وأعلم علم اليقين كذلك، أن هناك من عاين ساحة كهذه أكثر مني، لكن الموضوع لا يقتصر على من رأى ما تقدَّم، وكيف، وإنما ما يعرض المرئي للتعبير عن مكونة الحالة تلك تنويرياً .
أمام جامعة السوربون، وقعت عيناي على شاب وشابة، ولعلهما كانا طالبين، وهم لا يكفان عن الدخول في قبل سريعة، ويتشقلبان، وسط طلاب وطالبات، كل منهم مأخوذ بما يشغله.
وهنا أيضاً، فإن هناك ما عايش هذه الظاهرة لا الحالة تماماً، سوى أن تعليق الاسم في حيّز العنوان ومن ثم المتابعة البحثية، يضفي على المرئي اعتباراً جمالياً ورمزياً لا يخفى .
أكثر ما شغلني، حين تأخر بنا القطار، ونحن نتجه إلى مدينة " بليليفيلد "، كان أكثر من يشد الانتباه جهة المثار، هو دخول فتى وفتاة في نوع من التجاذب القبلي المحموم، ولأكثر من نصف، وهم يجهِدان نفسيهما وبطرق شتى مستغرقين في قبلة تطول، ليرجعا من جديد حين يستردان نفَسهما، كما يظهر، وأمامنا، ووقوفاً. يا لبدعة المشاهدة وجمالية المتشكَّل !
وبالمقابل، فإن مشهداً كهذا، ليس يتيماً، فما أكثر ما يمكن مشاهدته من حالات مشابهة وأكثر، إنما أوردت هذا المثال الآخر، للمضي بالفكرة المسماة إلى وجهة المناقشة واستقراء مأثرتها.
أتحدث عما يُسمى بـ" انتروبولوجيا القبلة " وأي نوع من الثقافة تمارس حضورها في تدشينها ومن ثم في خلق مسار وجداني، تفاعلي، تشاركي بين فمين، لا ينظَر إليهما أنهما مجرد فمين يتنفسان من خلالهما، كأني بهما يحثان نفسَيهما على توحد محال تحقيقه، لكنه سعي مستميت.
أتحدث عن تلك المؤهلات المثلى التي يكون في مقدور القبلة في هذه السياقات الحداثية إبرازها، ومن ثم استدراج النظر البحثي المعمق لمساءلة أصولها وتمنايزاتها .
هذا المشهد القُبَلي، إن جازت التسمية، تخرجنا من خانته اللحمية وتدفع بنا إلى فضاء حميمية العلاقة، ليكون ذلك تأكيداً على اعتراف متبادل، لأن نوعاً من التكافؤ اللحمي بداية، وقبله، هو الذي يعزّز في كل منهما إرادة اشتهاء الآخر، باعتباره الآخر: النظير، المستقل، المختلف، ومن ثم المنظور إليه محتاجاً إليه، إنها الرغبة في رغبة الآخر، وتأكيد نقص كل منهما إزاء ذلك. أي حين تكون كتابة نص مؤمَّم من أي وصائية مناسباتية أو موجَّهة، على جسد وبه، معزز بهذه القيمة التأميمية واستناداً إلى فضائية الرغبة، جسد يموت مادة ويتوالد أثراً ملء العين .
لا يُتحدَّث هنا عن رغبة عابرة، أو سافرة، أو مسكونة بالغلمنة أو الشبق السفلي، إنما هي في موقع المستضاء بجمالية الآخر، وهو في تمام كينونته، وحين ترتقي القبلة جوهراً إلى التصعيد بذاتية القبلة وعدم اعتبارها التصاق شفتين، وإشعال نار جسدية نزولاً إلى الممارسة الجنسية، لتنتهي مهمة القبلة " الوقتية "، أو الأدائية، إذ إن لها في حقيقتها كينونتها العضوية فالاعتبارية، إلى جانب أنها في منحاها القيمي تشكّل علامة دامغة على مدى الرقي الذي بلغه الجسد، وكيفية إدارته لرغباته وطبيعتها، كيف تصبح الغرائز عينها في ضوء المؤهَّل الثقافي، حيث إن القبلة ترتهن إلى زمان لا يغفَل عنه، ومكان لا يسهى، ومن ثم إلى وضعية تعرّف بطريقة ما بحقيقة جسدها" جسد القبلة " وهذا يشكّل دافعاً مؤثراً لمتابعة الحراك الدلالي للقبلة: كيف تتشكل، من الذي يؤطرها، تبعاً لأي قاعدة نظام حياوة أو علاقة، في أي إطار يتم تقعيدها ...الخ.
يسهل التحدث هنا عن تاريخية القبلة، وما تعنيه في العمق، من كونها مفهوماً " افتراسياً " في الأساس إلى اعتبارها انتماء إلى زمن ثقافي، ومجتمع ثقافي، وعلاقة جنسانية ليس في وسع أي كان تحويل مقابله إلى موضوع له، وهو ذاته، فالاثنان يتكاملان بالمفهوم القيمي " تعرضت إلى هذه النقطة في بحثي: القبلة " شبهة الإيقاع بالجسد، المنشور في مجلة " جسد " اللبنانية، ع 4، أيلول، 2009، ثم ضمن كتاب: الجسد الدبق، دار رؤية، القاهرة، صص 72-100 " .
ما أركّز عليه، هو هذا المضي بمفهوم القبلة قُدمُاً صوب الغائر أو العميق والرحب والملهم أوربياً، وليس سواه، وما يحيل الاسم إلى عنوان لثقافة مشتهاة من الذين يريدون أن يثقَل عليهم بأشباح ثقافة رسِمت وضبِطت وهي مختزلة، بمقدار ما تكون القبلة حاضرة فيها بكثرة، لكنها بنية ومحتوى أبعد ما تكون إجمالاً، لحظة المقارنة بـ" شقيقتها " الأوربية عما هو مسهِم لجسد يستضاء من الداخل، ويعيش حيوية الحضارة التي تجعل الإيروس نفسه في مستواها، وهي في التقريب بين جسدين لا يميزهما عن بعضهما بعضاً إلا نوعهما، وهو ما يرغّب كلاً منهما في الآخر ليودعه قبلاتياً ما يفتقده باسمه، ويتوازن من خلاله، ويستقيم به جوهرياً.
للقبلة أن توزعنا لأزمنة شتى، والزمان المرئي ومن ثم المديد هو الذي يعزّز تلك الفردانية التي تجد مقرها في الحاضرة الأوربية، وغربتها واحترابها حيث نعيش ونعاني بؤساً قبَلياً .
كم يلزمنا من حرق المراحل، والوقت لنرتقي إلى مستوى القبلة التي عنيتها آنفاً ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى