شهادات خاصة عبد العزيز أمزيان - أنيس الرافعي.. قاص لا يكرر نفسه

ليس ادعاء أو زعما، إنما هي حقيقة رائجة في المشهد السردي المغربي أن أقول: إن القاص أنيس الرافعي يشيد صروحه القصصية بتؤدة وأناة، وتأن وصبر، وينجز عوالمه السردية بإمعان وتدبر، وتفكير وتأمل، لذلك تأتي مقترحاته القصصية متينة الحبك، شديدة النسج، جيدة الصياغة، لا يشوبها اضطراب أو تفكك،أو يعتريها ضعف أو بهت، فكل المخطوطات القصصية التي يسبكها أنيس الرافعي بيده الماهرة الحاذقة ، وحبره الموشى المنقوش، تخرج بيضاء من غير سوء، روضا فواحا، يانع الثمار، وبستانا زكيا، ناضج الأغصان،
اللافت في كتابات أنيس الرافعي القصصية - بخلاف الكثيرين- أن كل انجاز قصصي يطلقه، يختلف عن الانجاز القصصي الذي يليه، ليس هناك أدنى تشابه بين السابق واللاحق من أعماله القصصية،إذ إننا نلاحظ أنه في كل مرة يغامر في ارتياد آفاق جديدة في تجريب أشكال سردية مختلفة ، ويدخل في غمار اختبار قوالب جمالية مغايرة، بفكر خلاق مبتكر، وروح مبدعة تواقة ،وأنيس الرافعي نفسه يقر بهذه الحقيقة في معرض الحوار الذي أجراه معه مدحت كساب في الموقع الالكتروني العين الإخبارية حيث يقول:" ليس لدي افتتان خاص بالمطلق القصصي.. لا أكتب على نسق واحد ونمط واحد حتى لا تكون كتاباتي نسخا مكررة لبعضها.. الاشتغال بالتجريب يفترض أن يكون للأديب في كل مرة أدوات خاصة ومرجعيات مختلفة وتصورات مغايرة لبناء الحكاية، وأنا منذ كتابي الأول "أشياء تمر دون أن تحدث فعلا" قلت إنني لن أكتب الكتاب الثاني شبيها بهذه الباكورة.. أنا مشغول حتى لنخاع بأن أعثر على أراض جديدة وعن تصورات مغايرة،،،"
هذا التصريح الذي أدلى به، صاحب " الشركة المغربية لنقل الأموات" و" مصحة الدمى" في سياق الحديث عن تجربته الإبداعية في جنس القصة، تصريح لا غبار عليه، ولا شائبة تشوبه، فهو يعرف ما يقول ، ومتيقن من قدرته المعرفية والمرجعية، ومتأكد من امتلاك الأدوات والعدة الفنية التي تؤهله بأن تطأ قدماه مساحات جمالية جديدة، وبأن يلج عوالم سردية مختلفة بناء، وتشخيصا، ومعمارا، ورؤية، ذلك لأنه – في المقام الأول -قارئ نهم، ومغامر مقدام ، يمتح من روافد متنوعة، ويغترف من أسانيد متعددة، ويستقي من قبسات عالمية.
يأتي المؤلف القصصي الجديد الموسوم ب " خياط الهيئات " دار العين، القاهرة، 2018 ليؤكد الخط التجريبي الواعي الذي يسلكه القاص أنيس الرافعي، وهو مختلف عن المجموعات السردية السابقة شكلا ومضمونا، يقع في مائة واثنتي وخمسين صفحة من الحجم الصغير،وهو يحمل اليافطة التجنيسيّة التالي(تحرّيات قصصيّة مضادّة في ظواهر رهاب الكونيّات)
يستهل أنيس الرافعي كتابه القصصي بنص افتتاحي بعنوان "الكشتبان" وفيه يخاطب أنيس الرافعي جدته التي بحكم معاشرته لها، وتعلقه بها، يستقطر رؤيتها إلى الوجود، بلغة ذات بعد تراجيدي، وأسلوب شفيف، غارق باللذاذة والمتعة،،،" إليك يا جدتي، أنت التي تعتبرين
أن قطرة الندى الصغيرة المتكاثفة هي جماع محيطات الكون،،،وأن الوريقة الخافقة المتهاوية من شجرة ما على وقع هبات النسيم هي بمرتبة غابات الدنيا: فهل يحق لي أن أحسب أن دمعتي السخينة المذروفة عليك الواخزة لسويداء قلبي هي خلاصة كل أحزاني،،،هي غلة كل أحزان الحياة؟!
إليك يا جدتي، تشفيا في ما تبقى من هذا الوجع".
بعدها يأتي النص المعنون ب "الدباسة (مركز حماية الهيئات المتخلى عنها): الذي هو بمثابة تأطير نظري لنسق الكتاب القصصي ومناخاته الحكائية.
ثم تنتظم بين دفتي الكتاب، أربع نسائل :النسيلة( 1) حاشية حردة الرقبة. تحتل نصوصها . صفحة 24 الى صفحة 69 .
نسيلة(2): حاشية دائرة الوسط.تحتل نصوصها ص 70 إلى ص 99 .
نسيلة(3 ): حاشية تقويرة الكمّين. تحتل نصوصها ص 101 إلى ص 135 .
نسيلة(4): حاشية حافتي البنطلون. تحتل نصوصها ص 137 إلى ص 144 .
ويختم المؤلف ب "قفل المشابك" يحتل ص 145 الى ص 147 .
تزخر النصوص المبثوثة تحت يافطة النسائل الأربعة لمؤلف "خياط الهيئات" بزخم فني مدهش، وتكثيف جمالي مذهل، سواء من حيث لغة السرد التي تتميز بالقوة والتجديد ،وتنزع إلى الابتكار والإبداع،أو من حيث توظيف بعض تقنيات السرد، كتعدد الأصوات التي اعتمدها السارد في نصوصه، والتي نتج عنها تنويع الرؤى التي أغنت بدورها المتن الحكائي، وكذلك تقتنية التخييل السردي الذي ينهض على خلق صور جديدة تتصف بالحداثة والجدة،كما ينفتح مؤلف "خياط الهيئات" على عالم الكونيات والفيزياء والطقوس الروحانية (الماندالا) وغيرها من العناصر الجمالية الأخرى التي منحت للمؤلف نضجه وكماله، وهكذا تحقق الرهان، وتم بث الرسائل التي رام الكاتب إلى توصيلها إلى القارئ .
في الختام ، نؤكد على أن مؤلف "خياط الهيئات" سباكة مختلفة، مصطبغة بألوان سردية جديدة، ومنحوتة مغايرة، مرسومة بصباغات حكائية مائزة،تثير الدهشة والمتعة، بقدر ما تحرك الذهن والفكر، لينفتحا على عوالم رحبة، وآفاق واسعة، تعظم في أراضيها خبايا الدنيا، وتبجل في سمائها أسرار الحياة...


عبد العزيز أمزيان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى