عبد القادر وساط - الطاغية يخطب في شعراء الكثيب

جاء في الجزء الخمسين من كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا وردان التميمي عن الهيثم بن قاسط الحكمي، عن أبي روق الباهلي، عن شيخنا أبي الفضل النجداني، قال:
لما حلت الذكرى العشرون لبناء الكثيب، أمرَ الطاغية أن يُحشرَ له الشعراء المعتقلون في الساحة الكبرى، وذلك في يوم قائظ من أيام الصيف. وبعد أن وقف أولئك الشعراء ساعات طويلة تحت حر الشمس، وصلَ الطاغية، يتبعه وزير السجون والنوائب والملمات الشيخ نوفل بن مالك السلولي الملقب بخبط عشواء، ووزير الشرطة الشيخ المستهل بن سنان الغنوي الملقب بلعاب المنية، ووزير الزمن الشيخ عبدالحميد بن أبي حارثة الملقب بصاعقة ثمود، ووزير الشعر الشيخ أبوعثمان بن يزيد الجهمي الملقب بنسيم الصبا، ووزير الطغيان الشيخ خالد بن عياش الجرمي الملقب بحية الوادي.
إثر ذلك، صعد المستبد بالله إلى المنصة، وخلفه الوزراء وحوله الحرس، فوقف الجميع صامتين، بينما شرعت الجوقة الرسمية في عزف النشيد الوطني لنجدان. وهو النشيد الذي تتكرر فيه اللازمة المشهورة:
هنيئاً يا بني نجدانْ = بعهد الجور و الطغيانْ
ولما انتهى العزف، وقف الطاغية خلف القَرَفُون. وهو جهاز بديع أهداه له عظيم الفرنجة، والكفارُ يسمونه المكروفون، لكن وزير المعاجم، الشيخ أبا نصر الأهوازي، الملقب بزناد المجد، أبى إلا تعريب هذه الكلمة فجعلها القَرَفُون.
وقد وقف الطاغية صامتا بعض الوقت، بينما تولى رجاله حمايته من حر الشمس بمظلة عظيمة، ثم إنه تنحنح كعادته، وحمد الله وأثنى عليه وقال:
يا شعراء الكثيب،
اعلموا أني قد أطلتُ النظر في شؤون الدولة، فوجدتُ أن بناء السجون خير من بناء المستشفيات. وإلا فأخبروني، رعاكم الله، كيف يموت عشرات الناس كل يوم، في مستشفيات نجدان، بينما تنعمون أنتم هنا، في سجن الكثيب، بالصحة والعافية؟!
ولستُ أزعم أن الحياة تحلو في هذا المكان، ولكن لا بد مع ذلك من الإقرار بما يلي: ففي السنوات العشر الأخيرة، لم يمت منكم في هذا المعتقل، الذي يوصف بأنه رهيب، إلا شيخنا الشاعر أبو الفضل الدنانيري، الملقب بظل الرمح، والذي كانت تُضرَب له في ما مضى قبة من أدَم في سوق نجدان، فتأتيه الشعراء تَعرض عليه أشعارَها. وأذكرُ أنه مدحَني يوماً بقوله:
سليلُ الطغاة و رأسُ الدهاةِ = و سيّدُ نجدانَ عبر العصورْ
يُعدّ الجيوشَ و يَصلى الحروبَ = و ليس يطيق حياةَ القصورْ
و يلقي بخلانه في الكثيبِ = إذا لم يَرَوا رأيَهُ في البحورْ
فكافأته على هذا المديح بتعيينه وزيرا للبديع، ولكنني امتحنتُه - رحمه الله - يوماً، فوجدته لا يفرق بين الجناس التام وغير التام ولا بين جناس الإضمار و جناس الإشارة، ووجدته لا يميز كذلك بين طباق السلب وطباق الإيجاب، فبقيت أعجب من جهله الموسوعي، ولم أجد بدا من تسييره إلى الكثيب.
معشر الشعراء المعتقلين،
إذا كان الشاعر الحماسي العقيلي قد قال:
و نبكي حين نقتلكمْ عليكمْ = و نقتلكم كأنّا لا نُبالي
فإن طاغيتكم هذا يقول:
و نبكي حين نسجنكم عليكمْ = و نسجنكم كأنّا لا نُبالي
وإنما أرسلتكم إلى الكثيب مضطراً، لأسباب متعددة:
فمنكم من قررتُ اعتقاله بعدما تبينَ لي أنه عاجز عن نظم شعر جيد، من النوع الذي وصفه أستاذنا العظيم الجاحظ بقوله: " أجودُ الشعر ما رأيتَه متلاحمَ الأجزاء، سهلَ المخارج، كأنه سُبك سبكا واحدا وأ ُفرغ َ إفراغا واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري فرسُ الرهان، حتى كأنّ البيتَ بأسره كلمة واحدة و حتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد."
ومنكم من أنعمتُ عليه بالاعتقال، حتى يجد الوقت لإتقان الإعراب والتصريف والعَروض والقوافي ويحفظ أشعار العرب. ولعلكم تعلمون أن رؤبة سُئل عن الفحل من الشعراء فقال: " هو الراوية ". و رؤبة هذا هو القائل في صفة أحد الشعراء:
لقد خشيتُ أنْ يَكون ساحرا = راوية ً مرّاً و مرّاً شاعرا
ومنكم من قررتُ وضعه في زنزانة انفرادية بالكثيب، من باب الإشفاق عليه. ويشهد الله أنني لو نفيته، عوض ذلك، إلى جزيرة دهلك، لما ظلمتُه حبة خردل. فإن رغبتم أن أوضح لكم مقالي أكثر، فسوف أحدثكم، على سبيل المثال، عن شخص متشاعر جاءني قبل أيام وأنشدني في رثاء عمي الشريف أحمد - الذي وافته المنية في شهر شعبان - قصيدة مضطربة الألفاظ ، كلها إقواء وإكفاء وضعف وركاكة. فلما انتهى من إنشاده، قلتُ له: " يا عدوّ نفسه، إذا كنتَ لا تحسن الرثاء ولا تجيده، فكيف تتجرأ على أعمام الطغاة؟ ألا تحفظ أشعارَ المجيدين في هذا الباب؟ ألم تطلع على قول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجْملي جزَعا = إنّ الذي تحذرين قد وقعا
وعلى قول أبي يعقوب إسحاق بن حسان الخُرَيْمي:
و لو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُهُ = عليه و لكنْ ساحة ُ الصبر أوسعُ
وعلى قول زياد الأعجم:
و تكاملتْ فيك المروءة ُ كلها = و أعَنْتَ ذلك بالفَعال الصالح ِ
وعلى قول أبي تمام:
فتىً مات بين الطعن و الضرب ميتة ً = تَقُوم مقام النصر إن فاته النصْرُ
و قد كان فوتُ الموت سهلا فرَدّهُ = إليه الحفاظ المرّ و الخُلقُ الوعْرُ
وعلى قول ابن المعتز:
هذا أبو العباس في نعشه ِ = قوموا انظروا كيف تسير الجبالْ
ثم إنني سألتُ صاحبنا المتشاعر عن هؤلاء الشعراء فوجدته لا يحفظ بيتا واحدا مما قالوه، فقررتُ وضعه في زنزانة انفرادية بالكثيب، فهل أنا في ذا يا لنجدان ظالم؟
قال الشيخ أبو الفضل النجداني:
فلما انتهى الطاغية من كلامه، شرع الشعراء المعتقلون يهتفون بحياته ويَدعون له بطول العمر ويرددون بأصوات عالية: " السجن مدرسة الشعراء " ولم يتوقفوا عن الهتاف إلا بعد أن غادر الموكبُ المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى