إبراهيم محمود - الشُّبْهَةُ: هذه التهمة الوجيهة

لكَم نتحسس من مفردة " الشبهة "، ونسعى مراراً وتكراراً إلى تجنبها: ألّا يُشتبَه فينا.
ما الذي يخيف في الشبهة هذه؟ أهي مغايرة الصورة المتداولة، كأول تعبير عن المكر؟
تصوروا، ولو للحظة واحدة، كيف نتهرب منها، كيف نتفادى متاخمتها، نخشى تهجئتها لاسمنا ولو عرَضياً، يتلبسَّنا الخوف من مجرد التذكير بها، نهرب منها وهي داخلنا وتحوطنا، أي نعتمدها بصورة ما، نستسيغها بصورة ما، نفصح عن افتتاننا بها بصورة ما، نستدعيها، أو نمضي بها دون دراية منا، نحتكم إليها أحياناً ونحن حرب عليها، نشدّد على عدم وجود أي صلة بيننا، وهي في بنيتها لا تكف عن السخرية منا، لو تمكَّنا من تصويرها، نذم من يتحدث عنها بنوع من الإلفة، ونتجاهل حضورها داخلنا. أي بوصفها بعد رئيس من أبعاد كينونتنا...؟!
في الشبهة، يحضَر الشبَه، أي ما يكون آخر، وليس من يزعم أنه هو، أو ما يكون هو فيه أو عليه. يبرز المشبوه، من خلال واقعة معينة، أي وقوعه في جرْم ما، في ارتكاب عمل يمثّل خرقاً لقاعدة اجتماعية، أو قانون معين. يتم الاشتباه من قرائن محددة بصدد سلوك شخص ما، بناء على تقييمات معينة، ونوع الاتهام المترتَّب عليه، وتداعيات المعايشة النفسية السلبية أيضاً.
هل نحن حقاً محصَّنون من " الشبهة "؟ هل ثمة من يمكنه التأكيد عن أنه بريء الذمة منها؟
من الشبهة العادية إلى الشبهة ذات الدمغة والتي تدخل في نطاق " الجريمة " ذات الطابع الاجتماعي والإنساني ". وهذه خارج نطاق الموضوع لخلافية الموقف منها طبعاً.
ما يشار إليه، هو حكم " الشبهة " في الحياة التي تعنينا ونحن نفكر وننجز أعمالاً، وما يصلنا بالإبداع والكتابة المغايرة، وما في ذلك من إيقاظ شبهات تترى. ذلك ما ينبغي التنبه إليه.
فكل إقلاق لراحة مؤطرة، لذهنية سائدة، لسيستام سياسي، تربوي وعقائدي محروس، يستدعي اعتماد الشبهة بوصفها سيف ديموقليطس الذي يعلو كل رأس يقول " لا " لطغيان " نعم .
تكون الشبهة في الحالة أبعد من كونها خروجاً عن النص، وعصياناً على الجماعة، إنما رفض للوعي القطيعي، للتشابه. تحرر من الشبَه، ونشدان للمؤمَّل ذاتياً وهو أن يكون شبيهاً لما لم يتشكل أو يحضر بعد، كشخصية إبداعية وبحثية مختلفة، أو أن يعيش ولادات مستمرة.
كل مجتمع يخلو من شبهات كهذه، يحكم على نفسه بالموت. وتاريخ البشرية كان، وإلى اليوم معزَّز بالشبهة، باعتبارها الطريق الملغوم، ولكنه المؤدي إلى مسار حياتي آخر.
في هذا المنحى يمكن التأكيد على نقطة، أعتبرها في غاية الأهمية، وهي تضع كل من يعنيه أمر الوجود وجوداً فاعلاً: فرداً أم مجتمعاً، شعباً أم حكومة في مواجهة ما لم يتهيأ له، كونها الآخر القصي إلى أبعد الحدود، وهي: كل من يبرّر عدم إقدامه على عمل يجدّد فيه دورة حياة، ويمارس نقلة نوعية بالمقابل في كينونته الفردية- الاجتماعية، ويثبّت موقعه في الحياة، شعباً- حكومة، بدعوى تجنُّب الشبهة" وقد تقال بصيغة الجمع: الشبهات " ليس أهلاً لأن يعيش من ناحية، وهو يموّه شبهة فعلية داخله، أي ما يضاد إرادة الصيرورة، لأن يكون في مستوى اسمه بوصفه اسم انسان معتبَر خليفة الله في أرضه من ناحية ثانية. أي خليفة هذا الذي يتسلط بذاته على ذاته، ويخالف هذه الصفة فيه، وهي أن أول مكوناتها في تأكيد فضيلة هذه الخلافة، أن ينغمر بالكائنات، بما هو فضائي، ويقتنص من الله ذاته ما هو فيه من صيغ تأكيد المطلقية العائدة إليه؟ تقتضي الخلافة في حدها الأدنى مجاورة للمكلَّف بتجسيد بعض منه!
لا قيمة لنص لا يقوم في حراكه الأدبي- الفكري- الفني على شبهة واحدة أو أكثر. لا نص يمكن التفاعل معه دون تضمنه لغوية شبهة، هي ورقة/ شهادة انتمائه إلى الوجود الحي، إلى الحياة النافذة الأثر. أي نص يخلو من " وسوسة " شبهة ليس أهلاً لأن يُقرأ، لأن يُكتب عنه. من ليس لديه كتاب شبهة يفصح عنه ليس أهلاً لأن يدخل مغامرة الحياة . النص الذي يتقدم بشبهته هو الذي يشعل ليلاً ويشغِل نهاراً، هو الذي يستنطق لسان صمت أخرس، ينبّه عمىً إلى ما لا يحصى مما لم يكتشَف بعد من الألوان، يثير شهية أطرش إلى ما منتشر من إيقاعات، أصوات تنتظر من يعيشها، ويتمثلها. يدفع بالقلب إلى أن ينفتح بزاوية كاملة على وجود لم يُتَح التحرك فيه قبل الآن. يُسمّي الإنسان الحي في إنسان موات بدرجة كبيرة أو نسبية ...الخ.
أن يكون في البدء الشبهة، هو عين يقين الحكمة في الحياة، هو أول اليقين في الإيمان المعرفي بمعطيات تتوسل تسمية، إنها الأشياء التي تكوثر أسماءها، والأسماء التي تستولد أسماء داخلها دون توقف . إنها ساعة توقيت وجود من يريد البقاء مأهولاً بإرادة حياة لم تعَش كما كانت.
هذا يعني وجوب وضع صنافة للشبهة، في القوة والشدة والمكانة ونفاذ الفعل، والجهة المعتِمدة عليها، والمستعملة لها: طرفاً، شخصاً " كاتباً - مفكراً "، مؤسسة، وموقعاً، وفي الإطار الفنّي نفسه استناداً إلى نوعية الموضوعات المثارة في الفن" الرسم - النحت - الموسيقى - الرقص - التمثيل ...الخ " تلك مستولدات شبهوية من ناحية أهلية الإبداع والتجديد والتنوير كذلك.
من المفارقات الكبرى والمهينة لهذا الخليفة في جوهره، هو أنه تحت ذريعة " دفع الشبهات " أنه باسم مقاومة الشبهة ذاتها: حورب الإنسان نفسه بأطر جرّدت مما هو عليه من طاقات. أنه باسم إعلان الحرب المقدسة على الشبهة، لأنها شرِك، كما يبدو، أُعلِن عن شرك، عن مخالفة لنص الخلافة بمرسومها الإلهي النصي الديني ذاته، وبالتالي: الاستنفار الكامل أو شبهه على كل من " تسوّل " له نفسه بالسعي إلى تنبيه " العوام " إلى " علم الكلام "، أي إيقاظهم من ذلك السبات المعرفي المضاد لمبدأ الحياة فيهم، لتكون كل نفس أمارة بالسوء إجمالاً أو على وجه العموم، وقسمة " النفس المطمئنة " تلك التي تسلّم نفسها لجلادها أو حفار قبرها ودفنها في الحياة، وانتظار الحياة الأخرى كتمثيل أعلى وأسمى لخاصية الاطمئنان هذه. يا للرعب!
لنقل : لقد أُعْلِمنا كيف نتكلم ما تكلمه من كانوا قبلنا حيث تكلموا من كانوا قبلهم، وهكذا، فكان الذين يتكلمون، أو يكتبون بصيغة أخرى في معرض الشبهة الواحدة أو أكثر، كانت الشبهة تلاحق الواحد منهم في حياتهم وموتهم على قدر ضخ الحياة فيما قالوه أو كتبوه، لتكون الشبهة في الحالة هذه تكريماً مباشراً، ضمنياً أو صريحاً لمن يواجَه بها.
لقد اختلطت علينا الأمور، ونحن نخلط بين شبهة وأخرى، شبهة البلبلة، وشبهة الإيقاظ للوعي، للروح الجماعية بالمقابل، فالنصوص العظمى مثلاً قيامات مشهود لها بالظهور هنا وهناك، والمجتمعات الموسومة بـ" الحية " هي التي تنسَّب إلى الخانة الكبرى للشبهة، وأن التنافس بين النصوص من هذا المدخل الساخن، هو الذي يؤمّم لثقافتها ارتقاء في الحياة والتاريخ معاً.
إن قابليتنا السوية على هضم مفهوم " الشبهة " وما تكون عليه فاعلية وفذاذة قدرات، هي التي تمكننا من اكتشاف هذه القوى التي تحوَّط بالسرية أو التكتم جرّاء الريبة فيها، وما ينطوي عليه هذا التعامل في افتئات الجسد بالذات، وتقسيمه بين المباح والمتاح. إن تزكيتنا المطلقة للمعرفة تتطلب أول ما تتطلب الاعتراف بحِكمانية الشبهة ، الاعتراف الذاتي بنا كبشر محل اعتبار!

تعليقات

استخدام مفردة الشبهة بهذا المفهوم استخدام متميز جداً. نحت جديد لابداع مفهومي.(يمكنني شخصيا ان اعتمد هذه المفردة على هذا النحو بثقة عندما اكتب).
شكراً للاضافة المتميزة كالعادة.
 
أعلى