مقتطف طه حسين - بين العلم والدين

الناس معنيون فى هذه الأيام عندنا بالخصومة بين العلم والدين.

وقد بدأت عنايتهم بهذه الخصومة تشتد منذ السنة الماضية، حين ظهر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فنهض له رجال الدين ينكرونه ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي. وزادت هذه العناية شدة حين ظهر فى هذه السنة كتاب «فى الشعر الجاهلي» فنهض له رجال الدين أيضا ينكرونه، ويكفرون صاحبه، ويستعدون عليه السلطان السياسي. والحق أن هذه الخصومة بين العلم والدين ـ كما قلت فى غير هذا الموضع ـ قديمة يرجع عهدها إلى أول الحياة العقلية الفلسفية. والحق أيضا أن هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية متصلة ما قام العلم وما قام الدين لأن الخلاف بينهما كما سترى أساسى جوهرى لا سبيل إلى ازالته ولا إلى تخفيفه إلا إذا استطاع كل واحد منها أن ينسى صاحبه نسيانا تاما، ويعرض عنه اعراضا مطلقا.

الخصومة فى حقيقة الأمر ليست بين العلم والدين، ولا بين الوثنية واليهودية والنصرانية والإسلام، ولا هى بين دين ودين، وانما هى أعم من ذلك وأيسر، هى بين القديم والجديد، هى بين السكون والحركة، هى بين الجمود والتطور. وإلا فكيف تستطيع أن تفهم أن يلقى سقراط والمسيح ومحمد - عليهما السلام- اضطهادا من نوع واحد؟ وكيف تستطيع وأن تفهم أن يتشابه موقف الوثنية والمسيحية واليهودية على اختلاف الأمكنة والأزمنة وأجيال الناس وطبائع جنسياتهم؟

كيف تستطيع أن تفهم تشابه هذه المواقف جميعا، إذا لم تردها إلى أصل واحد، وهو الخصومة بين القديم والجديد، أو استغلال السياسة للخصومة بين القديم والجديد؟

وما الذى كان بعد أن تم النصر للإسلام فى ناحية من انحاء الأرض وانقسم العالم القديم بينه وبين النصرانية فاستأثر الإسلام بالشرق واستأثرت المسيحية بالغرب.

ولك أن تقرأ القرآن والأناجيل وتمعن فى القراءة ولك أن تبحث وتمعن فى البحث فلن تجد نصا أو شبه نص ينكر التجديد ويدعو إلى مناهضته أو يأخذ العقول بالجمود أو يحظر عليها حرية الرأى قليلا أو كثيرا.

ليس فى الإسلام ولافى المسيحية إذن ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأى ولم يكن فى الوثنية اليونانية أو الرومانية ما يدعو إلى مناهضة حرية الرأى أيضا. ومع ذلك فقد أثم الوثنيون وأثم اليهود والنصارى والمسلمون واعتدوا جميعا على حرية الرأى اعتداء يختلف قوة وضعفا.

..............

نحن نرى فى أول هذا العصر الحديث حركة تدعو إلى حرية الرأى وإلى التجديد فى كل شيء فى العلم والأدب والفلسفة والدين. نرى هذا كله ولكننا لا نرى الحرب بين القديم والجديد عنيفة تنتهى إلى سفك الدماء إلا فى المظهر الدينى الخالص، أو فى ما يكون من الخصومة بين المظهر الدينى والمظهر العلمى الفلسفي.

.................

ان الخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لا سبيل إلى اتقائها ولا إلى التخلص منها، هى أساسية جوهرية لأن العلم والدين لا يتصلان بملكة واحدة من ملكات الإنسان، وانما يتصل أحدهما بالشعور ويتصل الآخر بالعقل، يتأثر أحدهما بالخيال ويستأثر بالعواطف، ولا يتأثر الآخر بالخيال إلا بمقدار ولا يعنى بالعاطفة إلا من حيث هى موضوع لدرسه وتحليله، والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لأن الدين أسن من العلم، ولأنه كان فى العصور القديمة كل شيء: كان دينا وكان علما ولأن العلم جاء بعد ذلك فغير هذا القسم العلمى من الدين، وأبى الدين أن يذعن لهذا التغيير، وأبى العلم أن ينزل عما ظفر به من الثمرات، فلن يتفقا ألا إذا جحد أحدهما شخصيته كما قلت فى غير هذا المكان.

والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية لأن الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار، ولأن العلم يرى لنفسه التغير والتجدد فلا يمكن أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما عن شخصيته. فالخصومة بينهما أمر لابد منه. ولكن المسألة فى حقيقة الأمر ليست فى أن الخصومة واقعة أو غير واقعة وانما هى فى أن الخصومة ضارة أو نافعة أو بعبارة أدق: المسألة هى أن نعرف هل كتب على الإنسانية ان تشقى بالعلم والدين، أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟

أما نحن فنعتقد ان الإنسانية تستطيع أن تسعد بالعلم والدين جميعا. وأنها ملزمة إذا لم تستطع أن تسعد بهما أن تجتهد فى الا تشقى بهما

وسبيل ذلك عندنا واضحة وهى أن ينزع السلاح كما يقولون من يد العلم والدين، أو قل سبيل ذلك ان ترغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين. فالعلم فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذي، والدين فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذي، ولكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبا.



طه حسين
أعلى