محمد الصالح الغريسي - قالت لي الفراشة.. قصة قصيرة

اتبعني ..أرجوك اتبعني..
قالت لي الفراشة.
لم أكن أفهم لغة الفراش و لا لغة الطّير..
لم أتبع في حياتي فراشة، حتّى و أنا طفل، فكيف و أنا شيخ قد أثقل الزّمن خطوي، و ذهب برونقي و حيويّتي!

  • اتبعني أرجوك..​
قالت لي الفراشة، مرّة أخرى.
كانت ساحرة، لم أر في حياتي أجمل منها، و لا أشدّ جاذبيّة.
كان لها جناحان جميلان، تزيّنهما دوائر ملوّنة جذّابة، تخلب الأبصار.
في حركاتها الرّشيقة المغرية المملوءة حيويّة و نشاطا، سحر جميل ربّما كان وراء اعتبارها رمزا للخفّة و الطّيش،
فجعلها أقرب إلى طباع الأطفال الممتلئين حركة و حبّا للمرح و اللّعب.
كانت تحوّم هنا و هناك، ثمّ تحطّ بالقرب منّي، تفعل ذلك مرّات و مرّات، و كأنّها تريد أن تقول شيئا.
عندها تهيّأ لي أنّها تطلب منّي أن أتبعها.
هذه المرّة، طارت ثمّ حطّت بعيدا، و بقيت تحرّك جناحيها السّاحرين في هدوء.
عندها..تحاملت على نفسي، و على حركاتي المتثاقلة بأعباء السّنين..
تحاملت على آلامي الّتي كانت تتكالب عليّ يوما بعد يوم، حتّى غدت لي رفيقا في ساعات الأرق الطّويلة،
و أنا أنتظر انبلاج الصّبح..
تحاملت على رغبتي في الهدوء و السّكينة و الاستئناس إلى المكان..
تحاملت على كلّ ذلك و رحت أتبعها، تجذبني تلك الدّوائر في جناحيها الجميلين و ألوانهما الّتي تأخذ الأبصار.
لم أعد أسمع جلبة الأطفال و لا صياح الباعة الجوّالين، و لا منبّهات السيّارات و هدير المحرّكات، و لا حتّى تغريد الطّيور.
كنت فقط، مشدودا إلى فراشتي الجميلة، أتبعها و قد غادرني كلّ شعور بالألم أو التّعب، بل و غادرتني كلّ الصّور و المشاهد من حولي، فلم أعد أرى سوى درب من نور، تطير فيه فراشتي و هي تسبقني بألوانها الجذّابة.
ظللت أسير.. و أسير، و كأنّي في حلم، إلى أن حطّت فراشتي الجميلة على قبر من رخام صقيل، يحيط به عشب أخضر جميل، و زهور مختلفة الألوان؛ حُفِرَ عليه ما يلي:
" هنا ترقد من أحبّتك دهرا و لم تعرها نظرة واحدة، ماتت و في قلبها لوعة الإهمال و النّسيان،
ماتت فتحوّلت روحها إلى فراشة، ظلّت تحرسك عند كلّ مطلع شمس.. ترافقك حيثما حللت ".
و أنا أقرأ آخر حرف ، غاب عنّي كلّ مشهد.. لم أعد أرى قبرا و لا رخاما صقيلا و كتابة و لا عشبا أخضر و لا زهورا.
لم أعد أراني .. و لكنّني لم أزل أرى فراشتي الجميلة، و فراشة أخرى ترافقها في درب ملئ نورا، و لا شيء غير النّور،
عندها أدركت، أنّ تلك الفراشة الثّانية هي أنا، و أنّني غادرت نهائيّا دنيا المتاعب، إلى عالم النّور الأبديّ.


15/08/2019
محمد الصالح الغريسي
  • Like
التفاعلات: مصطفى معروفي

تعليقات

قصة جميلة زادها حسن الصياغة جمالا...من حيث المضمون فالقصة واضحة ،لكن الشكل يطرح سؤالا هو:
كيف يمكن أن نتحدث عن أدبية القصة القصيرة أو كيف نتصورها؟

محبتي
 
أخي الفاضل مصطفى معروفي

تحيّة تقدير و امتنان لتفاعلك مع نصّي المتواضع.
أثرت أخي الكريم موضوع الشّكل و المضمون في القصّة القصّة القصيرة. و طرحت سؤالا حول :
كيف يمكن أن نتحدّث عن أدبيّة القصّة القصّة القصيرة أو كيف نتصوّرها؟
أدبيّة القصّة القصيرة هي جماليّتها و قدرتها على النّفاذ إلى عقل و وجدان القارئ محرّكة فيه بعض السّواكن و مثيرة بعض الكوامن بما يرتقي بإنسانيّته، من خلال تسليط الضّوء على موقف إنسانيّ أو أو انفعال وجدانيّ، أو سلوك لافت محدود في مساحته الزّمنيّة، قويّ و متّسع في مساحته الدّلاليّة.. أمّا مسألة الشّلك فلها وجهان:
1 الوجه الأول هو ما نسمّيه الأسلوب ( أي أسلوب كتابة القصّة القصيرة و الوفاء بعناصرها.
2 - الوجه الثّاني في الشّكل هو طريقة عرض النصّ ما يعبّر عنه بتنسيق الكتابة، بما يساعد القارئ على الإمساك بكل مفاصل النصّ، قراءة و فهما و تفاعلا.

مع خالص ودّ و تقديري

محمد الصالح الغريسي
 
تحيات طيبات زكيات اخي وصديقي المبدع السي محمد الصالح الغريسي الشاعر والمترجم التونسي الفذ

قرات نصك القصصي بمزيد من العشق ، وهو نص يمتزج فيه الشعر بالنثر .. شاعري في ميسمه وظاهره ، فلسفي في عمقه ومغزاه .. نلمس فيه لمسة الشاعر ، ومهارة السارد.. ممهور بلغة انيقة جذابة شاعرية مغرقة في رمزيتها عن رحلة في اثر الفراشة ، التي قد تحيلنا على رمزية الروح في الفكر السينوي ، او رموز اخرى محملة باسئلة انطولوجية عن كنه الوجود الانساني وجوهره، وعشق الانسان للجمال ، واكتشاف الذات .. حيث يتحول الالم الى لذة والفقد اكتساب والموت حياة يعج بالحيوية
هكذا يسعفني الخاطر بقراءة مبتسرة ومتواضعة لنصك الباذخ والشائق صديقي العزيز
اشتقنا لك صديقي الغالي لنخوض ماراثونا على الطريق
 
أخي الغالي و صديقي العزيز الرّوائي المتميّز نقوس المهدي
سعدت كثيرا بقراءتك العميقة لما بين السّطور في نصّي المتوااضع،،فبحت بكلّ ما أودعته فيه من معاني و دلالات ذهنيّة تتجاوز بساطة النصّ و وضوحه إلى رمزية الرّوح و محاولة الغوص في كنه الذّات بحثا عن جوهر الحياة . صديقي .. لقد أصبت في قراءتك حدّ التّماهي ، لكأنّك تقرأ في مرآة وجداني. و لا عجب و أنت الرّوائيّ المبدع الملمّ بفنّ السّرد و تفانين القصّ. دمت أخي و صديقي مبدعا ثرّا و قلما متميّزا .
مع خالص محبّتي و تقديري.

أخوك محمد الصالح الغريسي
 
أعلى