و نظر جدي إلى الأفق البعيد لبرهة ، ثم ابتسم و قال و المسبحة تتدلى من أصابع يده النحيلة " جاءنا يا بنى ذات يوم صيفى ما . بدت الشمس و كأنها قد أدارت ظهرها إلى الكون كله لتصب شواظها على قريتنا . كنا قد خرجنا للتو من المسجد بعد أن فرغنا من أداء صلاة الظهر " . و أردف و هو يميل طاقيته إلى حافة رأسه كعادته كلما أوغل في السرد " فجأة وجدناه أمام باب المسجد . كان جائعا ، و منهكا ، و هزيلا و نازفا . حيانا ثم سقط على الأرض فحملناه في الحال إلى ديواني الكبير هذا . أحضرنا له الحكيم من الشفخانة فضمد جرحه ،...
إلى صديقى فائز السليك جلس قرب قدمى أبيه ذاك المساء . ضحكة أمه لا تزال تنضح خفيضة . منذ سنوات و صوت حبات مسبحة أبيه تتساقط قطرات من صنبور الزمن القديم . بعض الأهل قد تفرقوا فى زوايا الدار يتهامسون . أهو سمرهم القديم : السحائب و البهائم و المحصولات ؟ . قبيل سنوات سبع ، وحين دنت السيارة التى كانت تقله من أطراف القرية ، ركض عشرات الصبية أمامها حتى بلغوا داره و صياحهم يتعالى : " الحارث جا من السفر " . دقائق و امتلأ جوف داره بكل أهل القرية : شيبها و شبابها و أطفالها و نسائها و بناتها . و بعد قليل...
ذاك اليوم تلعثم إمام المسجد و هو يرى ذاك المشهد الغريب و قد عهدناه خطيبا مفوها . الأطفال طفقوا يركضون " وراء الكارو" و عيونهم الصغيرة قد اتسعت فى دهشة عظيمة ، بينما خرج " عثمان البخيل" من دكانه و هو يراهم يرددون " عم أب غرة جن " ، مما منح بعضهم فرصة لسرقة حلويات و بضعة جنيهات من داخل الدكان . بل إن الأخوين " صديق " و " أحمد " الذين ظلا متخاصمين لسنوات طويلة بسبب استيلاء الأول على ميراث الثانى ، شهدتهما الحارة يتحدثان عن ذاك المشهد اللا مألوف و كأن خلافاتهما قطعة ثلج أشرقت عليها الشمس . لا...
هكذا ، و كما يطل الفرح من بين تباريح قلب جريح أطل وجهها ، و كما يقتاد الفأل الغيمة إلى مزارع ظامئة قادني الحظ إليها . بدا لى و قتها وكأن تفاصيل عمري الماضية كلها إتخذت مسارها المعروف كى ألتقيها في ذاك اليوم . بلى ، فلم تكن مصادفة أن أنحشر كما السمكة في العلبة في تلك الحافلة الذاهبة إلى الخرطوم ، و أن تقوم داخلها حرب بسوس بين "جعلي" و "شايقى " فاضطر للنزول و ركوب حافلة أخرى . بل لم تكن مصادفة أن يرفض أبى الزواج من إبنة عمه فى القرية قبل ثلاثين عاما ليتزوج أمى البدوية الحسناء . " جاء بدو رحل...
لا أعلم على وجه الدقة متى دلفت " الكشة " إلى تفاصيل قريتنا ، كما لا أعلم من أطلق عليها ذاك الإسم و لا لماذا ، فلطالما بدا لى و كأنها خرجت و القرية من ذات الرحم ، في ذات الساعة . أذكر أننى كنت أقفز من فراشى صباح كل يوم لألقى عليها نظرة و لو خاطفة . كنت أقف خارج حوشنا الطينى . أتلفت حولى في انفعال عاشق ينتظر محبوبة وافقت على لقائه بعد عهود صد طوال . ذاك إحساس لم ينل منه كرور الفعل نفسه . تمر دقائق مفخخة بحنين غريب قبل أن يبدأ صوت " الكشة " في مصافحة أذنى ، صوت خفيض كصوت عجوز يكح . ثم سرعان ما...
الجو قائظ كنهار جهنم . الأصوات تتعالى من داخل الورشة و من الشارع الذي يتلوى أمامها كما أفعى ما . قطع الحديد و بقايا الإطارات القديمة تنتشر فى ثنايا الورشة القديمة و كذاك الصواميل و المفكات . جدران الورشة قديمة ضاع لونها تماما بفعل الأيدي المتسخة التى نظفت عليها و البنزين الذى رش عليها . لا شئ يمكن تمييزه سوى لوحة قديمة على الجدران تمثل أسدا يقفز على ظهر غزال يحاول عبثا الهرب ! - مفتاح نمرة ستة يا حيوان ! هكذا صاح الأسطى " فرج " بصوته الجهوري القاسي فارتجت أركان الورشة و ارتعدت فرائص العاملين...
" و انت عرفتها كيف و وين و متين يا ولدى ؟ " هكذا ألقت زوجتى " شامة " بأسئلتها فى وجه وحيدنا " نادر " و هو يجلس أمامنا تحت راكوبتنا الفسيحة . الوقت أصيل لكن السخانة لا تزال تلفح وجوه الناس و الأشياء ، حتى شجرة النيم التى تتوسط دارنا تهدلت أغصانها كأنما بصق الزمان عليها شيخوخة مفاجئة ، بدت لى فى صمتها و كأنها راحت فى سبات عميق . صحت فى وجه زوجتى " يا ولية قفلى بوزك دا خلينا نفهم الحاصل شنو " . " هى زميلتى فى الكلية يا أبوى . أنا كلمتها . أها هى بت دغرية جدا . قالت لى بى الحرف الواحد " أكان...