حين لم يرها، كعادته كل صباح، تغزل سمرته بعينيها اللوزيتين العذبتين، حدث ما لم يكن يتوقعه أبدا. تدلى من جبينه طفل يضحك، طفل يجلس على حافة نهر، يلاعب السلاحف الصغيرة، ويُنِيمُها على يديه المملوءتين بالحصى والعشب الطري. كم كان يشبهه ذلك الطفل السُلْحُفي الضاحك.. لم تقل له إن أرجوحة النوم لا تتسع لاثنين، ولم يقل لها: "وجدت شعرك بانتظاري، يتمايل ويَكْلَحُ لامعا على رأسك كسرب مضيء من الملائكة عازفي الموسيقى". لماذا تجاهلته هذا الصباح؟ ولماذا تجردت من لمستها العنبية ووجهها الخوخي؟ ولماذا غربت...
تمتطي بقرة سَلْقِيَةَ العينين وتراقب بانتباهٍ رجلا في عقده الخامس يشعل نارا على شاطئ رملي. كان يمسك غصنا صغيرا بيده اليمنى ليُقَلِّبَ الحطب الذي يُرْغي ويطقطق غبارا أزرق كثيفا، وفي اليد الأخرى يمسك علبة “الهنيكن” يعب منها جرعات متباعدة. ممدّدا كان على جنبه الأيسر، يفترش معطفا طويلا من الكشمير الكاكي ويداري نصف ابتسامة علقت في نصف فمه المتورم. كان يبدو من عينيه الناعستين أن خياله يحلق بعيدا، وأنه لم يكن راغبا في الحديث مع امرأة تمتطي بقرة وتخفي نحرها العاري بوشاح أندلسي أسود مطرز بأزهار...
سعيد منتسب لن أقول أين قابلتهم. كانوا يملؤون الشارع بالضحك، يستجمعون قواهم ويركضون جماعة نحو السوبر ماركت. يأكلون السكر، ويمطون أجسادهم للوصول إلى الطاقات الزجاجية التي تعلو النوافذ، على مقربة من المكيف الهوائي الضخم. طلبوا مني أن أغمض عيني لألا أراهم يغادرون معاطفهم. أحاطوا بي، وبدؤوا يطلقون أصواتا تشبه الزئير.. ورأيت أمي تغمسني في طست مملوء بالماء المغلي والأعشاب الطرية، وتفركني بالملح. لم نكن في البيت، كنا في تجويف شجرة عملاقة. الأغصان متكسرة ومتناثرة على الأرض.. وعلى يمين الشجرة رجل ميت...
إنها لبداية سيئة أن تجد نفسك محشورا على نحو يائس داخل إناء معدني، وتتلقى الأوكسجين من أنبوب مطاطي وأنت مستلق على ظهرك في وضع الجنين، بينما أنت متأكد من أن كل شيء في الخارج قد انسحق تماما، وأنك ستتنزه في المقابر بكل سرور وأنت ترضع إصبعك، وأنك ستظل إلى حد ما مراقبا.. مقبرة أمبرطو: بعد قليل سيصلون بها إلى هنا، إلى هذا الجزء الصغير من الهضبة التي كانت مغمورة عن آخرها بأشجار اللوز. عربة نقل الموتى كانت تلوح من بعيد، والمقرئون من ذوي العاهات يلتصقون ببعضهم كما لو كانوا كلابا تتشمم بعضها. وهو كان...